المقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه واهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن اجتماع القول في الإسلام والسياسة والأخلاق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يجعل الكلام يذهب في سياقات معينة، ولعله يستدعي من التساؤلات ما هو جدير بالإجابة عنه:
- فهل يمكن الجمع والمزج بين الدين والسياسة؟
- وهل يمكن - حقيقة - الجمع بين الأخلاق والسياسة؟
- ثم هل بالإمكان استدعاء تجربة عمر رضي الله عنه اليوم؟
إن البحث عن صلة ما بين الدين والسياسة، أو محاولة نفي هذه الصلة بشكل أو بآخر، شكلت إحدى أبرز المعضلات التي تتفاعل مع واقعنا اليوم، وحسم هذه المسألة - ذلك إن كان ممكنا حسمها في ظل المعطيات المحلية والعالمية - فإنه سيدفع بالأمور نحو أحد مسلكين يمكن لكل منهما أن يقرر مصير الأمة في مواجهة تحديات مصيرها الحضاري.
فالعلمانية تصارع، وبدعم واسع من قوى عالمية كبرى، نحو تأكيد الفصل بين الدين والسياسة بالاستعانة بشواهد، أو قراءات، أو تأويلات من هنا
[ ص: 21 ] وهناك، متجاهلين أن هذا الدين الذي جاء بنظام شامل للحياة، كيف له أن يتجاهل شأن السياسة !! وإذا كان بعضهم يبرع في إظهار تمسكه بالإسلام، لكن الإسلام المدني لا السياسي، لأنـهم يرون ببساطة أن الإسـلام السياسي لا وجود له، وبالتالي كيف لنا أن نتصور نبيا يوجه أتباعه ويضبط سلوكهم بمعايير دقيقة وتفصيلية تبدأ من أدق تفصيلات الحياة لتتشعب إلى كل زواياها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعبدية إلى ما سوى ذلك، كيف يتسنى لهذا النبي أن يتجاهل شأن السياسة؟ بل قل: كيف يمكن أن نتصور إلها أحاط علمه كل شيء، لا يعنيه شأن السياسة؟ فهل إن الذي شرع أحكاما وقواعد تعالج شؤون الحياة القائمة والقادمة، أعياه شأن السياسة؟ ألا يقف بنا مثل هذا التصور على شفير هاوية في التفكير؟
فإذا ما تم إقرار أن لا انفصال بين الدين والسياسة، وأنه لا تقاطع بينهما، فإن ذلك يجب أن يقودنا إلى الفهم الصحيح لهذه العلاقة. فالإقرار بالعلاقة والترابط بينهما، يجب أن يقوم على أساس إقرار علاقة فاعلة ومؤثرة، لا علاقة شكلية، يتحول فيها الدين إلى مطية يمتطيها السياسيون للوصول إلى غايات ومصالح، قد لا يكون لها في الدين أصل. وهذا هو عينه ما يعرف بتسييس الدين، حيث يتم استحضار الدين عند (الحاجة) و (ينتقى) منه أيضا بحسب الحاجة، فمثل هذا المنهج يشكل انحرافا في فهم طبيعة الصلة بين الدين والسياسة. بل نجد بين الجادين من يرى أن الدين يدور مع المصلحة، وهذا شأن خطير؛ لأن المصلحة أمر نسبي، فإذا تبعها الدين أصبح هو الآخر نسبيا، لذا فإن المصلحة هي التي تتبع الدين وتدور معه حيث دار، فالمصلحة الحقيقية مصلحة
[ ص: 22 ] شرعية، مع قدر من المرونة (لا المناورة) تسمح بالتفاعل بين الواقع وفقهه والأحكام الشرعية.
ومن ناحية أخـرى، فـإن البحث في صلـة الدين بالسياسة ينبغي أن لا ينصرف صوب الأشكال والمظاهر مع تجاهل المبادئ والقواعد التي توجه السياسة دينيا بما يجعلها أكثر فاعلية في خدمة الدين أولا ومصالح الأمة ثانيا، وليكون الأشخاص أمناء على الصلة الصحيحة بين هذين الطرفين - أي الدين والسياسة - فإن لم يكونوا كذلك فإنهم في أحسن التأويلات سيسيؤون إلى كل من الدين والسياسة والأمة.
ولعل الواقع السياسي في جو مضطرب متصارع، يؤكد في كل لحظة أن لا صلة بين الأخلاق والسياسة، بل يبدو أن التنافر بينهما هو الأكثر رسوخا في النفوس، وكأن السياسة رديف لكل ما هو متفلت من القواعد الأخلاقية، ولعل ما أسهم في صياغة مثل هذا التصور مؤثرات عديدة؛ ذلك لأن كثيرا من الدعوات الأخلاقية جاءت مثالية فوقية، من دون استناد إلى معطيات مادية تعزز قوة الأخلاق في الميدان العملي، وهكذا رسمت ملامح المدن الفاضلة في مخيلة أصحابها، ومن جانب آخر فإن المفكرين الداعين إلى الضد من ذلك تركوا بصمات فاعلة في رسم ملامح السياسة عمليا، وهذا ما نجحت الميكافيلية في تأكيده فعلا.
لذا فإن البحث في صلة إيجابية فاعلة للأخلاق مع السياسة ينبغي أن ينطلق من ربط الأخلاق ببنيان اقتصادي واجتماعي عملي يمنح للأخلاق قوة الفعل والتأثير، كما ينبغي أن ترتبط منظومة المفاهيم الأخلاقية بمنظومة أكثر
[ ص: 23 ] شمـولا، وهي المفاهيم الدينية الشرعية، بما يضاعف من فاعلية تأثير الأخلاق في السياسة.
ولعل تجربة عمر رضي الله عنه كانت فذة في توثيق الصلة بين عنصري الأخلاق والسياسة، حتى أسفرت التجربة عن سيادة الحق والعدالة بشكل قل نظيره خارج سياق النبوة، وقد يغرق بعضهم في تأكيد أن هذه التجربة كانت محض حالة (تاريخية) ارتبطت بزمان قد مر وانقضى لا يمكن استدعاؤه، وربما انطلق هؤلاء من تصور لشكل التجربة وليس من أسسها ومبادئها. فتجربة عمر رضي الله عنه لم تكن سوى تفاعل حقيقي وجاد بين معطيات الإسلام الشرعية ومعطيات عمر الشخصية، ولا ريب في أنه كما تنجب الأمة قائدا، فبوسع القائد أن ينجب أمة، إذا ما توافرت العناصر الإيجابية الفاعلة في شخص من يتصدى لذلك.
إن أكثر ما يبهر في تجربة عمر رضي الله عنه تلك الأمنية العزيزة التي نجح في جعلها حقيقة واقعة، ذلك التحالف المتين بين الحق والقوة، في سياق ندر أن تجد نظيره أيضا خارج سياق النبوة، ولعل تلك أعظم قيمة أخلاقية شكلت النسيج الداخلي لتجربة عمر رضي الله عنه في الإدارة والحكم.
إن هذه التجربة وإن كانت تجربة تاريخية، إلا أن ذلك لا يعني اقتصارها على ظرف تاريخي زماني لا يمكن أن يتجدد؛ لأن المقومات التي استندت إليها تجربة عمر رضي الله عنه ليست مقومات تاريخية وحسب، بل تتداخل معها الثوابت والمقومات الشرعية التي يمكن لها أن تتجدد، فتتجدد معها تجربة عمر رضي الله عنه أيضا.
وقد يتكلم بعضهم فيقول: ما مدى شرعية الالتزام بتجربة عمر رضي الله عنه ، أليس جديرا أن تكون لنا تجربتنا الخاصة في مجال الحكم؟ إذ لا يمكن تجاهل فعل
[ ص: 24 ] التاريخ وحركته وسياقاته، لكنه وعلى الرغم من ذلك تبقى للقيم والمبادئ ثوابتها، وهذا أمر جـدير أيضا ألا يتم تجاهلـه. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم ، فما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح"
>[1] ، ويؤكد هذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
( ...فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ) >[2] .
وكانت الأمة قد منحت عمر رضي الله عنه ثقتها في كل شيء، ولعل هاتان الشهـادتان أبرز ما يدل على ذلك من بين شهادات لا حصر لها، قال خالد ابن الوليد رضي الله عنه ، وكان عمر رضي الله عنه قد عزله عن القيادة: "والله لو ولى عمر علي امرأة لسمعت وأطعت"
>[3] ليس لأن عمر رضي الله عنه إماما واجب الطاعة، بل ليقين خالد رضي الله عنه أن ما يريده عمر رضي الله عنه ويفعله لابد من أن يكون موافقا لدين الله أولا، وأن فيه الصواب ثانيا. وهذا عبد الله بن الحسن بن الحسين وقد رئي يوما يمسح على خفيه، فقيل له: أتمسح؟! فقال: "نعم، قد مسح عمر بن الخطاب، ومن جعل عمر بن الخطاب بينه وبين الله فقد استوثق"
>[4] .
فلما أرخى زمان عمر رضي الله عنه سدوله، وانقضت تجربته، كيف قوم معاصروه هذه التجربة؟
[ ص: 25 ]
قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها: "من رأى عمر بن الخطاب عرف أنه خلق غناء للإسـلام، كان - والله - أحوزيا، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها"
>[5] .
أما ابن مسعود رضي الله عنه فقال: "مازلنا أعزة منذ أسلم عمر"
>[6] . وقال: "كان إسـلام عمر فتحـا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، قاتلهم حتى تركونا، فصلينا"
>[7] .
ثم قال: "إن عمر كان للإسلام حصنا منيعا يدخل فيه الإسلام ولا يخرج منه، فلما قتل عمر انثلم الحصن، فالإسلام يخرج منه ولا يدخل فيه"
>[8] .
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : "كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا، فلمـا قتل عمر، رحمه الله، كان كالرجـل المدبر لا يزداد إلا بعدا"
>[9] .
وكان يقول: "ما بينكم وبين أن يرسل عليكم الشر فراسخ إلا موت عمر"
>[10] . وقال صحابي آخر: "فو الله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم"
>[11] .
[ ص: 26 ]
وقال علي رضي الله عنه : "ما سمينا مؤمنين حتى أسـلم عمر"
>[12] . وسأل معاوية ابن عباس، رضي الله عنهم، عن الخلفـاء الأربع، قـال: فما تقـول في عمر ابن الخطاب؟ قال: "رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء، ومعقل الحنفاء. للخلق حصنا، وللبأس عونا.. قام بحق الله صابرا محتسبا حتى أظهر الله الدين وفتح الديار، وذكر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال، وفي الضواحي والبقاع، وعند الخنا وقورا، وفي الشدة والرخاء شكورا، ولله في كل وقت وأوان ذكورا، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة"
>[13] .
وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: كان والله - في علمي - قويا، تقيا، قد وضعت له الحبائل بكل مرصد، فهو لها أحذر من رجل في سوقه قيد.
ولما ذكر عمر رضي الله عنه عند عبد الملك بن مروان قال: "قللوا من ذكره، فهو طعن على الأئمة، وحسرة على الأمة"
>[14] .
أما عمر نفسه، فإنه قال لابنه وهو يعالج الموت: "ويحك ضع خدي على الأرض، عساه أن يرحمني" ثم قال: "بل ويل أمي إن لم يغفر لي"
>[15] . إنه من شدة تواضعه لا ينظر إلى ما قدم من عمل، بل ينظر إلى ربه عسى أن يرحمه.
[ ص: 27 ]
إن تجربة عمر رضي الله عنه الشخصية في الحكم وإدارة شؤون الأمة جديرة بالدراسة إذا، فهي على حد شهادة الشهود عبرت حقيقة عن روعة الإسلام في الإدارة والحكم وتحقيق الرقي الحقيقي للأمة وللإسلام، لذا فإن دراسة هذه التجربة لازمة من أجل استقصاء فاعلية المبادئ والقيم ودورها في صياغة العملية السياسية، بما يجعلها رهينة لمصالح الأمة وليست الأمة رهينة لمصالح السياسة والسياسيين. كما أن في سيرة عمر رضي الله عنه درسا لمن أراد أن يكون: تقيا، شريفا، صادقا، زاهدا، مخلصا في عمله.
لقد نجح عمر رضي الله عنه في أن يخلق التوافق الحقيقي بين الأخلاق والسياسة، فقد طبق هـذا في نفسـه أولا، وعلى خاصته ثانيا، وعلى أمته ثالثا، بل إنه لم يكن أقل أخـلاقية في التعامل حتى مع أعداء الأمة، الذين جاهدهم في ميدان الحرب.
نسأل الله تعالى الثبات والسداد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ ص: 28 ]