ثانيا: حفظ العقيدة:
لا ريب في أن العقيدة تشكل أصل الدين وركنه الرئيس، الذي يقوم عليه، فإذا صحت العقيدة صح الدين، وإذا فسدت فما بقي لا نفع منه. وقد أدرك عمر رضي الله عنه من جانبه خطورة التحولات الكبيرة التي بدأ يشهدها المجتمع الإسـلامي في ظل حركة الفتوحات التي امتدت بالدولة شمالا وشرقا وغربا،
[ ص: 60 ] فقد انتشر الإسلام بين أمم وشعوب كثيرة. غير أن ذلك لم يكن ليمر من دون نتائج عرضية سـالبة، فهذه الأمم والشعوب لم تـكن خـالية الوفاض، بل لها معتقداتها وأفكارها ومنظوماتها الحضارية الخاصة، ولا بد من أن الاتصال والتداخل مع هذه الجماعات سيقود - شاء المسلمون أم أبوا - إلى تبادل التأثيرات في جوانب الحياة كافة.
لقد أدرك عمر رضي الله عنه من جانبه أن لبعض هذه المؤثرات أثرا خطيرا، فلم يكن متوقعا أن أحدا من المسلمين سيتأثر بمعبودات تلك الأمم، ولكن الخوف يتعلق بمنهج التفكير، فالمسلمون تلقوا الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهموه وأدركوا مراده، فأقاموه في أنفسهم من غير أن تكون ثم مشكلة، فلما وفدت المؤثرات، بدأ الخلل يتسـلل إلى عقـول بعض الناس وقلوبهم. وهكذا راح عمر رضي الله عنه يراقب ويحذر وينبه ويعلم كيفية معالجة الأمر، فقال: "سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"
>[1] ، إذ يؤكد عمر رضي الله عنه أهمية منهج النقل في فهم الإسلام وتدبره، فما صح من النقل أوثق مما يصل إليه العقل المجرد الذي لا يستنير بالوحي.
وكان صبيغ بن عسل ممن بدأ يثير الشكوك والشبهات بالسؤال عن أمور لا يترتب عليها حكم أو فهم، بل كان ذلك تكلفا منه لا نفع من ورائه
>[2] . فعاقبه عمر رضي الله عنه عقوبة شديدة فنفـاه إلى البصرة ونـهى الناس عن مخالطته
>[3] .
[ ص: 61 ] لم يكن ذلك منعا من إبداء الرأي أو الحجر على رأي المخالف، لكنه كان توجيها للأمور الوجهة السليمة، فصبيغ هذا لم يكن يريد الاجتهاد في الدين وتكوين رأي أو فكرة، بل كان همه إثارة الشبهات، ربما عن جهل وربما عن عمد، وذلك ما تطلب الإجراء المناسب لحماية الدين من العبث به.
ثم إن تيارا آخر تصدى له عمر رضي الله عنه هو تيار (الرأي) ولكن لنتأمل الأمر كما بينه ابن القيم، فقال: الرأي ثلاثة أقسام، رأي باطل، ورأي صحيح، ورأي فيه اشتباه. أما سلف الأمة فقد استعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به، وسوغوا القول به. أما الرأي الباطـل، فقد ذموه ومنعـوا العمل والإفتاء به. أما الثالث، فقد سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه
>[4] . ثم بين أنواع الرأي الباطل وهي: رأي مخالف لنص مخالفة بينة مقصودة، والكلام في الدين بالظن والتخمين، والرأي القائم على الأقيسة الباطلة والفاسدة، ثم الرأي الذي جاء بالبدع وتغيير السنن
>[5] . وهكذا فإن الذين أنكر عليهم عمر رضي الله عنه رأيهم هم الذين كانوا أداة لإفساد الدين على الناس وتشويه معانيه ومقاصده وأحكامه، وعن هؤلاء كان يقول: "ألا إن أصحاب الرأي أعداء الدين أعيتهم الأحاديث فأفتوا برأيهم، فضـلوا وأضلوا، ألا وإنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ما نضل ما تمسكنا بالأثر"
>[6] .
ومما يشير إلى أن عمر رضي الله عنه لم يكن ينكر الاجتهاد بالرأي أنه هو نفسه كثيرا ما كانت له وقفاته الخاصة في فهم النصوص وتدبرها، والدراسات التي
[ ص: 62 ] تناولت (فقه عمر) فيها من الأمثلة على ذلك ما هو كثير. ثم إنه أذن للآخرين بالاجتهاد أيضا، إذا كانوا من أهل الاجتهاد، فقد كتب إلى شريح القاضي يوصيه أن يأخذ في أقضيته وأحكامه بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو من سبقه من أهل القضاء، فإن لم يجد "فإن شأت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر"
>[7] ، فلا بأس في أن يجتهد المرء في دينه ويتدبره برأيه لكن ينبغي أن تكون معه العدة اللازمة لذلك، هل يقبل ولي الأمر لدعي يزعم أنه طبيب يداوي الناس فيقتلهم؟! فهل أمر الدين أهون من أمر الطب أم أعظم؟!
كما جرد عمر رضي الله عنه جهده للتصدي لأهل البدع لما بدأت بدعهم تلوح في الأفق، فقد كان يضرب على أيدي (الرجبيين) الذين يصومون رجب كله ويصلونه برمضان، وكان ذلك مخالفا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم
>[8] . ورأى أنس يصلي على قبر، فنبهه ونهاه
>[9] . وكان عمر رضي الله عنه مع قوم في سفر، فلما بلغوا مكانا، بادروا إليه وهم يقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأنهم قصدوا التبرك بالمكان وتعظيمه، فقال عمر رضي الله عنه : "إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، اتخذوها كنائس وبيعا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض"
>[10] وعلى هذا المنوال قطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان، إذ كان الناس يأتون للصـلاة عندها ربما بقصد التبرك والتعظيم أيضا، فخشي عمر رضي الله عنه أن تتحول إلى وثن وقال: "أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتى منذ اليوم بأحـد عاد لمثلها
[ ص: 63 ] إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد"، ثم أمر بقطعها
>[11] . وهي الشجرة التي تمت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية.
وسمع رجلا يحلف بالكعبة فضربه ناهيا عن ذلك وقال له: الكعبة تطعمك، الكعبة تسقيك؟!
>[12] ؛ كل ذلك يعكس حرصه الدقيق على سلامة الدين، وضرورة أداء الأمانة على وجهها، فليست الأمانة تجاه الأموال فحسب بل لا بد من أن تكون تجاه الدين أولا، فما قيمة الأموال إذا حفظت وضاع معها دين الأمة ومرشدها إلى الهدى.