رابعا: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وسنته:
كان عمر رضي الله عنه شديد الحب للنبي صلى الله عليه وسلم والتعظيم له من غير غلو يوقعه في مخالفة شرعية، لذلك وجد عمر رضي الله عنه أن من واجبه التصدي لأية مظاهر تعظيم غير شرعية خوفا من أن تتحول إلى غلو، وهو ما نبهنا عليه في فقرة سابقة؛ ومن ناحية أخرى فإنه لما وضع العطاء جعل له نظاما يقوم على التفضيل، فبدأ بآل بيت النبوة وجعلهم في أعلى هرم العطاء وفاء لحق النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له. وبلغت به رهافة الحس أنه منع اللغط في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهدد بأن يوجع ضربا من يفعل ذلك، بل إنه ضرب على ذلك فعلا
>[1] . وما كان ذلك إلا امتثالا منه لقول الله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) (الحجرات:2). ومن ناحية أخرى بلغه أن منافقا يؤم قومه في الصلاة، فكان لا يقرأ بهم إلا سورة عبس، فأوجعه في العقوبة؛ لأن ذلك المنافق ما قصد إلا أن يضع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
>[2] .
وفي منهج عمر رضي الله عنه في حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه له اتباع سنته لا يحيد عنها، من ذلك مثلا قوله المشهور: إنه لو لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحجر الأسـود
[ ص: 66 ] ما قبله
>[3] . وقيل له عن الرملان - المشي السريع - عند السعي بين الصفا والمروة، وقد كانت له غاية خاصة في حج النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما لم يعد له مسوغا بعد ذلك، فقال:
( وأيم الله! لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) >[4] ؟ وتمثل عمر رضي الله عنه الاقتداء في كل جزئيات حياته، صغيرها وكبيرها، فقد بلغه أن يزيد بن أبي سفيان كان يأكل ألوانا عدة من الطعام على مائدته، فتحين الفرصة لزيارته، فلما تبين له صدق ذلك قال: "والله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام؟! والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقتهم"
>[5] ، يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه .
هذا التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ولسنته قابله النهي عن (الإكثار) من رواية الحديث النبوي، بل إن عمر رضي الله عنه لم يشجع على كتابته وتدوينه، فقد بعث إلى عدد من الصحابة وعاتبهم على الإكثار من الرواية
>[6] . وعن قرظة بن كعب قال: "أقبلت في رهط من الأنصار، نريد الكوفة، فشيعنا عمر يمشي معنا، ثم قال لهم: أتدرون لم مشيت معكم يا معشر الأنصار؟ قالوا: نعم، لحقنا، قال: إن لكم لحقا، ولكنكم سوف تأتون قوما لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فأقلوا الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا شريككم"
>[7] وكان لا يقبل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بشاهدين
>[8] .
[ ص: 67 ]
فلماذا كان عمر رضي الله عنه يصنع ذلك؟ ولأجل فهم الأمر نشير إلى رواية تفيد أن ابن سـيرين قال: قدمت الكوفة، وفيها أربعة آلاف يطلبون الحديث
>[9] . وإذا كان هذا قد حصل في زمان لا حق لزمان عمر رضي الله عنه إلا أن مؤشرات ذلك لا بد من أن تكون قد ظهرت في زمن مبكر، لذلك فإن سياسة عمر رضي الله عنه في رواية الحديث انطلقت من الاعتبارات الآتية:
1-حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
( إياكم وكثرة الحديث علي ) >[10] قال محقق المصنف: إسناده حسن، وخرجه كل من ابن ماجه وأحمد والدارمي والحاكم الذي صححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والطحاوي في مشكل الآثار
>[11] . ولهذا النهي حكمة لم تفت عمر رضي الله عنه ، فعمل بها.
2- في الأرجح جاء هذا النهي عن التحديث بين عامة الناس، الذين فيهم العالم والجاهل وسيء الفهم والزائغ عن الحق، فيفضي ذلك إلى مساوئ كثيرة، وإلا فإنه لم يمنع من التحديث بين أهل العلم.
3- ثم إن كثرة التحديث بلا حدود ولا ضوابط - وكان الأمر على أوله بعد - يسهم في تسريب الخطأ والتحريف غير المقصود بسبب النسيان أو الخطأ في السماع والفهم أو عدم الدقة في النقل.
4- الخـوف من تسرب الكذب أو التدليس المتعمـد إلى السنة النبوية إذا أبيح الإكثار من روايتها بين الناس من غير قيود وضوابط، ولا سيما أن العداء للإسلام لم ينقطع يوما ما.
[ ص: 68 ]
5- الحرص على أن لا يستبدل الناس السنة بالقرآن، وحتى لا يفضي ذلك إلى إهمال كتاب الله تعالى، وإن كان بغير قصد.
والشـيء نفسه يمـكن أن يقال بشـأن تدوين سنة المصطـفى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان عمر رضي الله عنه بين خيـارين صعبـين، أن يكتب السنة فلا تتبدد، أو أن لا يفعل ذلك خوفا من أن تمتزج بكتاب الله أو تكون بديلا عنه. فكان قراره أن يحفظ كتاب الله العزيز من هذه الاحتمـالات
>[12] . وقد تبين أن خياره هذا لم يضر بالسنة النبوية، فلم يكن الوقت قد فات لما أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة، وكان القرآن قد حفظ فعلا في المصاحف والصدور، ولم تعد ثمة خشية عليه.