ثامنا: إقامة الحدود والتعازير:
شرع الله تعالى منهج العقاب والثواب تقويما لسلوك الأفراد بما يحقق مصلحتهم ومصلحة المجتمع في الأمور الدينية والدنيوية. ولأن الأمر يحتل درجة عالية من الأهمية، لذلك كان لا بد من حمله على محمـل الجـد ولا سيما فيما يتعلق بمسألة الحدود الشرعية التي لا يمكن غض الطرف عنها، فهذه حق الله تعالى وحده على عباده، ليس لأحد فيها صلاحية تجاوزها حتى وإن كان نبيا، إذا ثبت ما يوجبها من دون أية شبهات، لذلك قال عمر رضي الله عنه : "إذا رفعت الحدود وعرف الناس حقوقهم، فلا شفعة بينهم"
>[1] ؛ وقال أيضا: "لا عفو عن الحدود في شيء منها بعد أن تبلغ الإمام، فإن إقامتها من السنة"
>[2] .
[ ص: 75 ]
ولأن في الحدود شدة كبيرة، لذلك أوجبت سنة النبي صلى الله عليه وسلم دفعها عند أول شبهة، وذلك كان منهج عمر رضي الله عنه أيضا: "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها في الشبهات"
>[3] . فإذا أقيمت الحدود، وكان معظمها يعتمـد - من حيث الوقائع - على الضرب بالسوط، لذلك وجد عمر رضي الله عنه أن من اللازم التوسط في الأمور من غير إفراط ولا تفريط، فقد أتي برجل في حد، فأمر بسوط فجاءوه بسوط فيه قسوة، فقال: أريد ألين من هذا، فجاءوه بسوط فيه لين، فقال: أريد أشد من هذا. وعند إنفاذ الضرب، كان يبغي التوسط أيضا، فالضارب بالسوط لا يرفع يده كثيرا ليهوي بها بشدة، ولا يتهاون في الأمر
>[4] .
وكان عمر رضي الله عنه لا يحابي في الحدود مهما كان الشخص الذي سيقع عليه الحد، فقد شرب ابنه عبد الرحمن - وكان يقيم في مصر - نبيذا واعتقد أنه غير مسكر، فلما خرج الأمر إلى السكر طلب التطهير بإقامة الحد عليه مع صاحب له يدعى أبو سروعة، وألح عبد الرحمن على إقامة الحد عليه، غير أن عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي أقام الحد عليهما حاول تخفيف الأمر، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه مشددا عليه في القول، ثم أمره بتوجيه ابنه عبد الرحمن إليه، فلما بلغ المدينة كلمه عمر رضي الله عنه بكلام قاس وأمر بإقامة الحد عليه على وفق ما ينبغي من شروط على الرغم من محاولة الصحابة صرف الأمر عنه، بوصف أن الحد قد أقيم عليه، غير أنه أصر على إقامة الحد فأقامه
>[5] .
[ ص: 76 ]
وأضاف عمر رضي الله عنه إلى حد الضرب التغريب (النفي) إذا وجد إلى ذلك ضرورة تعزيرية، غير أنه لما غرب ربيعة بن أمية في الخمر، لحق هذا ببلاد الروم وتنصر، فقال عمر رضي الله عنه : "لا أغرب بعده مسلما"
>[6] .
وصادف عمر رضي الله عنه امرأة على حمار والناس حولها في زحمة شديدة وهم ينادون: زنيت زنيت! وكادوا يحدونها، فسأل عمر رضي الله عنه عن شأنها، فحكت من أمرها ما يفيد أنها أكرهت على هذا الصنيع، فقال: "لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين - جبـلان يحيطان بمـكة - النـار، ثم كتب إلى الأمصار: أن لا يقتل أحد في أي أمر مهما كان من دون مراجعته
>[7] . وهو ما يشير إلى مبلغ عنايته بأرواح المسلمين وبإقامة الحق والعدل فيهم.
وجيء مرة بأمة سوداء قـد سرقت، فقال لها عمر رضي الله عنه : أسرقت؟ قولي: لا. فقالوا له: أتلقنها؟! قال: جئتموني بإنسانة لا تدري ما يراد بها من الخير والشر لتقر حتى أقطعها!
>[8] وتعكس مثل هذه الواقعة عمق رؤية عمر رضي الله عنه للأمور، فالشريعة ليست نصوصا مغلقة وجامدة وجاهزة للتطبيق بمقاس واحد في الأحوال كلها، فإذا كان الحكم الشرعي واحدا، فإن إنزاله في الواقع يتطلب فهم كل حالة بظروفها؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة. وهنا تجلت أعظم صور الفهم والإدراك عند عمر رضي الله عنه لما يجب إقامته في الواقع. ففي الوقت الذي كان فيه عمر شديدا في دين الله لا يتهاون فيه، لكنك تجده
[ ص: 77 ] في الوقت نفسه عمليا متفاعلا مع الواقع بما يمكنه من إقامة الدين بطريقة عملية وواقعية، فنجح في تحقيق موازنة دقيقة بين النص والواقع.
أما بالنسبة لعقوبة المرتد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( من بدل دينه فاقتلوه ) >[9] وقد أدرك عمر رضي الله عنه أن ذلك لا يعني إنفاذا فوريا للعقوبة على المرتد، بل لا بد من أن تسبق ذلك إجراءات قد تتيح للمرتد مراجعة نفسه، فربما كان ارتداده تحت ظروف معينة، وربما كان لسوء فهم منه تجاه أمر ما، أو ربما لنزعة طارئة ألمت به، لذلك لا بد من فرصة تتاح أمامه للمراجعة، فقد سأل جماعة من المسلمين وفدوا عليه من جبهات القتال عن أحوالهم وعما معهم من أخبار، متقصيا ومتحريا عن كل شيء، فأخبروه عن شخـص ارتد فقتلوه، فأنكر عليهم عملهم هذا وقال: أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، وذلك من قبيل التضييق عليه، ثم استتبتموه ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا قتلتموه، ثم شدد في الإنكار عليهم وقال: "اللهم إني لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني"
>[10] ؛ معبرا بذلك عن طبيعته العملية والواقعية والمتوازنة مع شدة تمسكه بإقامة أحكام شريعة الله تعالى.
[ ص: 78 ]