ثالثا: العناية بمصالح الأمة الاقتصادية:
تعد مصالح الأمة الاقتصادية وطرق عيشها من أخطر الأمور، التي يترتب على الإمام الصالح العناية بها، فهي أمانته الكبيرة، التي يتوجب حفظها وعدم الخيانة فيها، كما أن هذا الأمر يحفظ للناس كرامتهم واعتبارهم. فكان ذلك محل عناية عمر رضي الله عنه ، الحقيقية؛ أعمل جهده فيها بحسن السياسة والتدبير.
وكانت أول هذه الأبواب أموال الغنائم التي تقاطرت عليه بكثرة، فشاور في ذلك أصحابه فأشاروا عليه بإنشاء الديوان، الذي يثبت فيه أسماء المقاتلين وعوائلهم وما يصلح لهم في عيشهم، ثم يضع أسسا لتوزيع هذا المال، وأشاروا عليه أن يبدأ بنفسه أولا بوصفه أمير المؤمنين
>[1] ، لكنه رفض ذلك منهم وقال: بل أضع نفسي حيث وضعها الله تعالى وأبدأ بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم
>[2] ثم وضع أسسا للتفاضل بين الناس تقوم على الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقة في الإسلام وحسن البلاء والجهاد فيه، وقال: "لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه" فوافقه الصحابة على ذلك
>[3] .
كان بوسعه اهتبال الفرصة، فالصحابة هم الذين أشاروا عليه أن يجعل نفسه عـلى رأس هرم الغنائم، وبوسعه أن يقدر لنفسه ما يشاء، لكن ليس عمر رضي الله عنه الذي يجعل مال الأمة مرتعا له، فعمر رضي الله عنه تحكمه قواعد عمل صارمة:
[ ص: 89 ] الزهد والعفة والأمانة والعدل. هكذا أمن على نفسه بين يدي ربه الذي سيسأله عن كل درهم من مال هذه الأمة!
إذن فإن عمر رضي الله عنه جعل العطاء على أساس المفاضلة على وفـق الأسس التي ذكرناها، فلما وجد أن المفاضلة قد حققت أغراضها في كثير من الجوانب، ووجد أن المتأخرين في الالتحاق بالإسـلام لم يعـد يكفيهم عطـاؤهم قرر العدول عن المفاضلة إلى التسـوية، فقـال: "والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل لألحقن آخر الناس بأولهـم ولأجعلنهم رجـلا واحدا"
>[4] ، ففكره وهمه لا يستكين عند حالة ويستسلم لها، بل إنه دائم التفكر وتقليب الأمور على وجوه كثيرة ليرى أفضلها، متتبعا كل المتغيرات ويتفاعل معها ليصل من خلالها إلى أفضل القرارات.
ومن الأمور التي عكست عمق تفكير عمر رضي الله عنه ، وأن له رؤية (استراتيجية) تجعله ثاقب البصر، وكأنه يكشف له عن غطاء، وما ذاك إلا من فطنته وحسن إيمـانه بربه وحسن طويته وصـدقه في القيام بالأمر على أفضل ما ينفع أمته، تمثل ذلك في طريقة تعامله مع الأراضي المفتوحة، فقد أراد بعض الصحابة أن توزع عليهم هذه الأراضي بوصفها غنائم حرب، فقالوا: أقسم بيننا فيأنا، كما تقسم غنيمة العسكر!
>[5] غير أن عمر رضي الله عنه لم يكن ليتسرع في اتخاذ قرار في واحدة من أكثر المسائل خطورة وأهمية يمكن أن يستمر أثرها
[ ص: 90 ] لزمن طويل. فشاور كثيرا، شاور المهاجرين من المسلمين، ثم شاور الأنصار بوصفهم زراعا وأصحاب أراضي، ثم شاور عليا رضي الله عنه ، فتمخض كل ذلك عن رأي سديد يفيد بعدم قسمة الأرض بل تبقى بيد أصحابها على أن يجبى منهم الخراج ليكون في بيت مال المسلمين ينتفعون منه جميعا، فلا تكون الأرض حكرا لفئة من دون عامة المسلمين
>[6] .
وتقف وراء هذه السياسة حيثيات كثيرة، فإن توزيع الأرض سيحصر الفائدة بفئة محدودة من الناس وتحرم عامة المسلمين منها، ثم إن جباية خراج الأرض يوفر لبيت المال موردا مهما يديم عمل جهاز الدولة والقيام بمصالح المسلمين والدفاع عن الأمة إزاء أخطار خارجية كانت تتفاقم بقوة؛ كما أن توزيع الأرض على المقاتلين سيحيلهم إلى فلاحين ومزارعين، في وقت كان الأمر لا يحتمل التخلي عن بضعـة مقاتلين لشـدة الحاجة إلى ذلك، فكيف إذا انشغل عامتهم بالأرض!
وهكذا فإن عمر رضي الله عنه ، لم يعطل بعمله هذا كتاب الله عز وجل، فهو بوصفه إماما للمسلمين وجد نفسه أمام معضلة حقيقية ووجد نفسه أمام خيارات عدة، فالآية (41) من سورة الأنفال
>[7] تدعو إلى قسمة الغنائم، في حين أن الآيات (7-10) من سورة الحشر
>[8] تتيح له التصـرف عـلى وفق
[ ص: 91 ] ما فعل وقرر. وكل هذه الآيات محكمة وليست منسوخة، وللإمام أن يعمل بأي منها بحسب ما يمليه اجتهاده ونظره في الأمر
>[9] .
ولم تنحصر مهمة عمر رضي الله عنه الاقتصادية في جباية الأموال، بل لا بد من تثمير المصالح وتوسيعها، فهو وكيل الأمة على مالها، وهو ما يرتب عليه القيام بها خير قيام، فأعمل جهده في تنمية هذه المصالح. من ذلك أنه أمر أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أن يحفر لأهل البصرة نهرا طوله ثلاثة فراسخ (=18كم)
>[10] ؛ وأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه بحفر قناة تربط نهر النيل بالبحر الأحمر، غير أن المشروع اندثر بعد عدة عقود
>[11] . وشجع على توسيع رقعة الأراضي الزراعية بتشجيع الناس على إحياء الأراضي الموات، أو استصلاح المغمورة بالمياه، فكتب إلى عماله: "أنه من أحيا مواتا فهو أحق بها"
>[12] . وكان قراره المكمل لذلك أن من احتكر أرضا ثلاث سنوات فلم يزرعها، فجاء غيره فعمرها، فهي له، وهو أحق بها
>[13] . من أجل أن تكون الأراضي للإفادة منها وليس لاحتكارها. وهكذا وجد عمر نفسه مضطرا لتطبيق مثل هذا القرار على بلال الحبشي مثلا، فاستعاد منه مساحات من الأرض، وترك له ما يقدر على زراعته فقط
>[14] .
[ ص: 92 ]