الفصل الأول
مقاصد التنظيم القضائي
المبحث الأول: وجوب تعيين القضاة
تضافرت الشواهد من النصوص
>[1] على وجوب نصب ولاة يسوسون الأمة بالعدل ويرفعون التهارج فيما بينها، وذلك أن من أكبر مقاصد الشريعة حفظ نظام الأمة، وليس يحفظ نظامها إلا بسد ثلمات الهرج والفتن والاعتداء، وأن ذلك لا يكون واقعا إلا إذا تولته الشريعة ونفذته الحكومة
>[2] .
[ ص: 45 ]
يقـول ابن عاشـور: "أنبأنا استـقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصـدها أن يكـون للأمة ولاة يسـوسـون مصالحـها ويقيمون العـدل فيها وينفذون أحكـام الشريعة بينها... وإلا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها"
>[3] .
فولاية أمر الناس من أعظـم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فـاجرة، فقيـل: يا أمـير المؤمنين، هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بـها الحدود وتأمن بها السبل، ويجـاهد بـها العدو ويقسـم بها الفيء، فالواجب إذن اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بـها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات
>[4] .
وإذا كان الحكم بما أنزل الله فرضا بقوله تعالى:
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة:49)، فيلزم نصب القضاة لإقامة فرض الله، الذي هو الحكم بما أنزل الله.
[ ص: 46 ]
وإذا كان نصب الخليفة الذي هو الإمام الأعظم فرض بلا خلاف بين أهل الحق
>[5] لمسيس الحاجة إليه، لتنفيذ الأحكام وإنصاف المظلوم من الظالم وقطع المنازعات الـتي هي مادة الفسـاد وغير ذلك من المصالح التي لا تقوم إلا بإمام، ومعلوم أن الناس قد يتعذر عليهم الوصول إلى الإمام، والإمام يتعذر عليه النظر في جميع القضايا، فضلا عن تركه النظر في مصالح أخرى، فتضيع الحقوق وتكثر المنازعات وتتعطل المصالح وفي هذا فساد كبير، ولا سبيل لدفع هذا الضرر إلا بتولية القضاة في جميع أصقاع البلاد، فإن تنصيبهم واجب، من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، قال الله تعالى:
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251).
ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت: إن واجب إقامة المراتب والولايات الدينية من أوكد الواجبات، بل هو ضرورة ملحة في القيام بمقاصد الشريعة ومصالح الدنيا، يؤكد هذا ما رواه أبو داود في "سننه" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا [ ص: 47 ] أحدهم ) >[6] ، وحـديث أحمـد:
( لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم ) >[7] .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم ذاك أمر أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم "
>[8] .
وما حرص النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الصحابة، رضوان الله عليهم، على القيام بأمره من بعده إلا لإدراكهم خطـورة المسـألة، وأنها لا تتعلق بإمامة في سفر أو إمارة على ثلاثة فقط، ولكنها توجيه رباني وإرشاد نبوي لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين أبدا، توحد في جماعة واجتماع في وحدة، فلا خير في جماعة قلوبهم شتى وأهواؤهم مختلفة، قال الخطابي: "إنما أمروا بذلك ليكون أمرهم جميعا ولا يتفرق بهم الرأي ولا يقع بينهم الاختلاف"
>[9] .
وذكر ابن تيمية أن الله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) فإذا كان قد أوجب في أقل الجمـاعات وأقصر الاجتمـاعات أن يولى أحـدهم، كان
[ ص: 48 ] هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك
>[10] ، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وإجمالا فليس بجائز في قواعد الشرع تعطيل المراتب والولايات الدينية لإفضاء حصول ذلك إلى مفاسد عامة يتسع خرقها في الواقع، وهذا الأصل يعود إلى قاعدة "المصالح المرسلة".