المطلب الأول: الاستقامة:
تقدم الحديث عن منصب القضاء وما له من علو شـأن وخطر مكانة، وما عليه من ثقل تبعة وكبر مسؤولية، لذا كان القاضي وهو أهم أركان القضاء، أول مسؤول عن صيانة الأحكام ونفوذها في المجتمع، وليس يتأتى له ذلك إلا إذا ارتفع عن أخلاق العامة ومخالطتهم في تصرفاتهم العامة وأعمالهم اليومية، وجملة الآداب التي عدها الفقهاء من مقتضيات منصب القضاء والتي تضفي على القاضي هيبة ووقارا وتحفظ له مكانته بين الناس، أراها تعود بالاستقراء إلى معنى الاستقامة، وهي قسمان:
أولا: استقامة في الدين.
وثانيا: استقامة في السلوك.
دل على ذلك قوله تعالى:
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي [ ص: 89 ] كنتم توعدون ) (فصلت:30)، وقـوله تعالى:
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (الأحقاف:13)، وقوله صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه حين سأله أن يقول له في الإسلام قولا لا يسأل عنه أحدا بعده،
( قل آمنت بالله فاستقم ) >[1] .
فتعدد الأمر بالاستقامة هنا وفي غيرها من الأدلة، يجعلنا نتيقن أن من مقاصد الشريعة استقامة حال الأمة باستقامة عموم أفرادها والتأدب بآداب الله، "وإن أحق الناس بالتأدب بآداب الله تعالى ومطالبة النفس بأحكامه ورعاية حقوقه، من تقلد القضاء وانتصب لفصل الأحكام، فاتقى أمر ربه جل جلاله ونهى النفس عن الهوى، وتذكر بوقوف الخصوم بين يديه ومقامه معهم يوم القيامة"
>[2] .
أولا: الاستقامة في الدين:
ليس القاضي مجرد حاكم يفصل في منازعات الناس وقضاياهم فحسب، بل هو مؤتمن على هذه القضايا، والمؤتمن يفترض فيه أن يكون صالحا في نفسه، مستقيما في أخلاقه، سليما في سلوكه، منضبطا في تصرفاته، وما ذاك إلا لكونه أولا: عالما بأحكام الله، وهو لهذا أحرى وأجدر باحترام هذه الأحكام، وكونه ثانيا: يمارس عبادة من أجل العبادات وأعظمها ثوابا، وكونه ثالثا: مثالا يقتدى به.
وجملة هـذه الأشياء تقتضي تأصل روح العقيدة الإسلامية فيه، فالعقيدة في النظام الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه
[ ص: 90 ] العقيـدة، ومن ثـم فلا وجود للشريعة في الإسـلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهـار للشريعـة إلا في ظـل العقيـدة، فالإسـلام يحتـم تعانق الشريعة والعقيدة
>[3] .
ولعل من أهم خصائص التنظيم القضائي الإسلامي، اعتماده على العقيدة والأخلاق التي أكدت سموه وأمنت تطبيقه وضمنت استقامته، وإذا كان العمل القضائي يستلزم مؤهلات متعددة ومتنـوعة في القـاضي، فإن التأكيد على ما يتعلق بالجانب الديني يمثل دعامة أساسية تعصم القاضي من الزلل، فالعقيدة وما تغرسه في نفس القاضي المسلم من مراعاة للجانب التعبدي له الأثر القوي والدور الكبير في استقامته أولا، وفي ضمان نزاهة القضاء ثانيا، ولعظم هذه المسؤولية، فقد شدد الفقهاء على توفر عدد من الصفات الخلقية في القاضي
>[4] .
وإذا كان من مقاصد الشريعة أن تكون مرهوبة الجانب، نافذة أحكامها في الأمة، فإن ذلك لا يتحقق إلا بأمرين اثنين، ذاتي وخارجي.
فأما القسم الـذاتي، فهي كونها منـزلة من حكيم حميد، لا يشوبها نقص ولا يعتريها بطلان،
( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (فصلت:42).
وأما القسم الخارجي، فكونها موكولة في بيانها وإنفاذ أحكامها إلى من ناط بهم الشارع أمر القيام بها وهم العلماء والولاة والقضاة، ولهذا وجب أن يكونوا
[ ص: 91 ] على جانب كبير من الاستقـامة، دل على هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي، وعن لبس المعصفر، وعن تختم الذهب، وعن القراءة في الركوع ) >[5] ، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، رضي الله عنهم، عن بعض الأشياء هي في عرف الأمة من المباح، فيه دليل على أن هذا النهي مقصوده أن يكون الصحابة على درجة عالية من التقوى كونهم السابقين في الإسلام الحاملين لواء الدعوة إلى الله، وكونهم قدوة الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذا انتهينا إلى هنا، فإنني أقول: إن الاستقامة في أصل اللغة تعني اعتدال الشيء واستواءه، يقال: استقام له الأمر أي اعتدل
>[6] ، ويقال أيضا: قام الشيء واستقام، أي اعتدل واستوى، وأقوم فعله أقام أو استقام، وحكى ابن السكيت في "الأضداد" أن أقوم من قام بمعنى اعتدل
>[7] ، وعكس الاستقامة الالتواء والاعوجاج والتطرف
>[8] .
وأما في الاصطلاح الشرعي، فهي الالتزام بطريق الحق بفعل المأمورات واجتناب المحظورات في دين الله عز وجل، وهي بهذا المعنى دينية وسلوكية
>[9] .
فأما الاستقامة الدينية فتعني الإخلاص في التوحيد والإيمان والعبادة، لقوله تعالى:
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) (البينة:5)،
[ ص: 92 ] فالمخلص والحنيف في الدين هو المستقيم، ومعنى الإخلاص الديني، هو كما قال الغزالي: "تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب"
>[10] .
فمعنى الاستقامة في الدين، هي سلوك طريق الدين الحنيف، وهو الصراط المستقيم، الذي تواتر ذكره وذكر الاستقامة عليه في كثير من آي القرآن، وجماع الاستقامة وركنها الأساس هو العدل
>[11] ، وقد عرفه سفيـان بن عيينة بما يرادف معـنى الاستـقامة، أي بأنه "استـواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى"
>[12] .
وإن جماع كل ذلك مكارم الأخلاق، و"إن أعظم ما بني عليه الإسلام دعوته إلى مكارم الأخلاق، وتـهذيبها هو العناية بتربية النفس وإكمالها وتدريبها على متابعة الهدى والإرشاد الذي يشهد العقل السليم بحقيقته وصلاحه ونفعه"
>[13] .
وإن أحق من التزم بمكارم الأخلاق، من جعلهم الله أمناء على شرعه واسترعاهم أمور خلقه، وقد فهم الصحابة، رضوان الله عليهم، مغزى الشريعة فحرصوا على اختيار القاضي الكفء، ليكون قدوة للناس، ذا مهابة في المجتمع، ونزاهة في النفس، جاء ذلك في رسالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الأشتر
[ ص: 93 ] النخعي: "ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم..."
>[14] .
واستخلص الفقهاء من هذه الآثار وغيرها جملة آداب ينبغي عـلى القاضي أن يسير في هداها ويتبع خطاها فيبادر إلى مصالحة نفسه وتقويمها ويحملها على آداب الشرع الشريف بحفظ المروءة وعلو الهمة، وتوقي ما يشينه في دينه ومروءته وعقله "فإنه أهـل لأن ينظر إليه ويقتـدى به، وليس يسعه في ذلك ما يسـع غيره، فالعيون إليه مصروفة ونفوس الخاصة على الاقتداء بهديه موقوفة"
>[15] .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
( من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته ) >[16] ، فثبت أن مراعاة النفس على أفضل أحوالها هي المروءة، ولا يوقف على ذلك إلا بالتفقـد والمراعاة، وإذا كانت في عامة الناس مرغوبة، فهي في القضاة واجبة مطلوبة، فالقضاء أمانة عظيمة، وهي أمانة الأنفس والأعراض والأموال، فلا يقوم بوظائفها ولا ينهض بوفائها إلا من كمل ورعـه وتـم تقـواه، وحـاز من العلم والفقـه مصابيح الدراية التي لا تنطـفئ، بغية إنارة السبيل لإنصاف المظلوم من الظالم وقطع المنازعات
[ ص: 94 ] ورفع الخصومات
>[17] ، وليس يدرك أحد هذا الحال إلا إذا جمع علو الهمة لشرف النفس، وقد قال بعضهم:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقـها هوانا بها كانت على الناس أهونـا [الطويل] فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكن
عليك لها فاطلب لنفسك مسكـنا وإيـاك والسكنى بمنـزل ذلـة
يعد مسيئا فيه من كان محسنـا
>[18]
ورأس كل مكرمة وسنام كل فضيلة هو الخوف من الله عز وجل، فهي أصل كل خير ومفتاح كل فضيلة
>[19] .
وينبغي على القاضي إلى ذلك أن يتحلى بعفاف النفس والتنـزه عن الطمع، فلا تستشرف نفسه إلى ما في يد غيره، ولا أن يتبذل ليصل إلى ما في أيدي الناس، فإن ذلك أهيب للقضاء، وقد قال بعضهم:
هي القناعة فالزمها تعش ملكـا لو لم يكن منك إلا راحـة البدن [البسيط]
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعهـا هل راح منها بغير القطن والكفن
[ ص: 95 ] >[20]
ومن جمـلة آداب القاضي أن يطلـب بعمله في القضاء وجه الله تعالى، لا أن يبغـي به الترؤس والنفوذ واللحـاق بأولي الترفع والتلذذ بالمآكل والمطاعم والمسـاكن
>[21] ، وذلك لأن وقـار المنصـب وهيبتـه لا تكون بهذه الوسيلـة، وإنـما تكتسب بالتقـوى والحـلم والبعد عن الشبـهات والتشبه بالصالحين
>[22] .
وعلى الجملة، فما ينبغي للقاضي في خاصة نفسه وكافة أحواله اجتناب كل ما فيه إخلال بالرتبة وإن كان مباحا في أصله، والترفع عن كل ما فيه مذلة للخطة وإن كان مأذونا فيه لغيره
>[23] .
وأصل كل هذا وحده الإسلام، وقد جاء في "تاريخ قضاة الأندلس" للنباهي أنه قيل للقاضي إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي: ألا تؤلف كتابا في أدب القضاء، فقال: اعدل ومد رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام
>[24] .
فحصل من كل هذا أن من مقاصد التشريع العامة الاستقامة، وهو معنى يتأكد في صاحب الولاية، وشرط أساس في ضمان العدل في القضاء، وضرورة يقتضيها حفظ نظام الأمة.
[ ص: 96 ] ثانيا: الاستقامة في السلوك:
يندرج تحت عنوان الاستقامة في السلوك، كل أعمال البر كالوفاء بالعهود وأداء الأمـانات وقول الحق وما شـابه، وإن أحق النـاس بذلك القاضي، لأن القضاء من باب الأمانات واسترعاء الحقوق، لقوله تعالى:
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58).
وعلى الجملة، فإن الاستقامة في السلوك، قد تكون من نوع الاستقامة بالأقوال، كما تكون من نوع الاستقامة بالأعمال، وبمعنى هذا الشمول فسر أبو بكر الصـديق رضي الله عنه الاستقامـة، التي أمر بـها القـرآن، بأنها تتناول "الذين استقاموا فعلا كما استقاموا قولا"
>[25] ، ولا بد من الإشارة إلى أن هذا التقسيم بين الأعمال والأقـوال المستقيمة لا يحتم انفصال القسمين انفصالا تاما ودائما، فقـد تنطـوي الفضيلة الواحدة على استقامة في القول والعمل في آن واحد
>[26] .
وإذا كانت الاستقامة بالمعنى المتقدم تشمل القاضي وغيره، إلا أني سأقتصر على ذكر ما يتعلق منها بالغرض من هذا البحث، وهو المعنى المقصود من توفر جملة آداب في القاضي تزيد بها هيبته في النفوس وتكون حافزا له على تحري الحق والعدل، وقد قيل:
[ ص: 97 ] إذا خان الأمير وكاتبـاه وقاضي الأرض داهن في القضاء [الوافر]
فويـل ثم ويـل ثم ويـل لقاضي الأرض من قاضي السماء
وعلى هذا الأساس فإني أعرض عناصر هذا المطلب فأقول: إن من آداب القاضي أن يكون في مشيته وقورا فلا يكثر من الالتفات، وأن يكون في هيئته حسنا جميلا صموتا حسن النطق، قليل الإشارة بيده عند التحدث مع الناس، قليل الضحك بحيث يكون ضحكه تبسما، ونظره فراسة، وإطراقه تفهما وتفكرا، فإن ذلك كله من سمات المؤمنين
>[27] .
يقول الماوردي: "وللقضاة آداب تزيد بها هيبتهم، وتقوى بها رهبتهم، والهيبة والرهبة في القضاء من قواعد نظرهم، لتعود بالخصوم إلى التناصف، وتكفهم عن التجاحد، وآدابـهم تشتمل على آدابـهم في أنفسهم، وهو معتـبر بحال القاضي، فإن كان موسوما بالزهد والتواضع والخشوع كان أبلغ في هيبته وأزيد في رهبته، وإن كان ممازحا لأبناء الدنيا تميز عنهم بما يزيد في هيبته من لباس لا يشاركه فيه غيره ومجلس لا يساويه غيره فيه، وسمت يزيد على غيره فيه"
>[28] ، ويكون لباسه لبس مثله في عصره وأهل بلده، فإن ذلك أهيب في حقه وأجمل في شـكله، وأدل على فضله وعقله، وفي مخالفة ذلك
[ ص: 98 ] نزول وتبدل، وعـليه أن يلتزم في كل أحواله وتصرفاته السمت الحسن والسكينة والوقار
>[29] .
ومن آداب القاضي أن يجتنب مخالطة غوغاء الناس وسفهائهم، وأهل المجون والطرب منهم، فإن هذه الأشياء، وإن كانت مذمومة من سائر الناس فإنها من القضـاة أقبح وأفضح، فينبغي عليه أن يترفع عن كل مستهجن، ويبتعد عن كل مستـرذل، فلا يجلس مجالس التهـم والشبهـات ويترفع عن جميع الدنيات
>[30] .
ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها القضاة أن لا يقبلوا هدية ولا يجيبوا دعوة إلا من ذوي القرابات القريبة الذين لا يجوز لهم أن يقاضوه لأنها ذريعة للرشوة، وهي من باب أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنها بالنص القرآني.
وإذا كان الأصل في الخطاب الديني الجواز لقوله تعالى: ...
( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ) (النور:61)، وقـولـه صلى الله عليه وسلم :
( لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت ) >[31] ، إلا أن هذا الأصل لما تعارض مع المقصد من منصب
[ ص: 99 ] القضاء والولاية عامة، وهو حفظ الحقوق
>[32] ، خرجنا من الإباحة إلى التحريم؛ لأن القول بالإباحة يفوت المقصد من أحكام القضاء
>[33] ، والوجه فيها أن قبولها يورث تهمة المحاباة فيكون كالرشوة.
وينبني على هذا أن كل هدية يكون الغرض منها جر منفعة من شخص قادر على تحقيقها، أو تكون سببا لاستمالة القلوب واسترقاق النفوس لتحقيق بعض المآرب، تصبح حينئذ غير جائزة مظنة تأثيرها على حقوق الآخرين.
ولما كان مركز القضاء من الخطورة بمكان في مثل هذا الشأن، فقد رأى العلماء تنزيه القضاء عن مثل هذه الشوائب، إذ الأصل في المسلم إبراء ذمته من الشـكوك والبعد عن مظان الريب والشبه، وهذا الأصل أدعى وأولى في القاضي من غـيره لكونه يحـكم بشرع الله، وهذا الشرع قـائم على
[ ص: 100 ] العـدل، وليس من العدل في شيء أن يقبل الحـاكم هـدية من خصم يريد بها جر منفعة، وليس من اللائق بالقاضي أن يعرض نفسه لما يشينه ويسيء إلى الأمانة المفترضة فيه
>[34] .
ذكر الماوردي ما نصه: "أما قضاة الأحكام فالهدايا في حقهم أغلظ مأثما وأشد تحريما، لأنهم مندوبون لحفظ الحقوق على أهلها دون أخذها"
>[35] ، بل ذهب اللخمي والمازري إلى منع الإجارة على القضاء، فلو أتى خصمان إلى قاض فأعطياه أجرا على الحكم بينهما أو أعطياه على فتيا لم تتعلق بها خصومة، لم يحل له أخذها لأنها ذريعة إلى الرشوة
>[36] ، وقال ابن يونس (تـ451هـ/1059م): والتزاما لسد ذريعة الخيانة والمهـانة، لا يقبل هدية ولا ممن كان يهـاديه قبل ذلك، ولا قريب ولا صديق وإن كافأ بأضعـافها إلا من الوالد والولد ونحوهما من خاصة القرابة لأنها ذريعة الرشى في الحكم
>[37] ، وقبولها مع ذلك تأنيس للمهدي بالادلال، والمهدى إليه بالإغضاء والاحتمال، وفي ذلك للقاضي فساد وضرر كبير
>[38] .
[ ص: 101 ]
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مفهوم الهدية عام، فهي لا تقتصر على المحسوسات فقط، بل تشمل كل ماله تأثير مباشر أو غير مباشر على النفس، ويشمل ذلك كل خدمة تقدم للقاضي يقصد بها استمالته أو التأثير عليه في خصومة حالة أو محتملة، ولما كان الاحتمال مما يصعب تحديده، وجب أن يكون المنع شاملا ومطلقا، لأن كل شخص يمكن أن يتعرض لخصومة أمام القضاء، فمن هنا وجب منع الإهداء إليه لقوله صلى الله عليه وسلم : "هدايا العمال غلول"
>[39] ، ولا يستثنى من هذا المنع إلا من كان بينه وبين القاضي قرابة تمنع التقاضي وفقا لدرجات القرابة.
ومما يذكر في هذا المعنى أن امرأة من قريش كان بينها وبين رجل خصومة فأراد أن يخاصمها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأهدت المرأة إلى عمر فخذ جزور ثم خاصمته إليه، فوجه القضاء عليها. فقـالت: يا أمير المؤمنين، افصل القضاء بيننا كما يفصل فخذ الجزور، فقضى عليها عمر رضي الله عنه ، وقال: "إياكم والهدايا"
>[40] .
ولما سئل عمر بن عبد العزيز عن رفضه للهدية، وقيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها، قال: كانت له هدية ولنا رشوة، لأنه كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته، ونحن يتقرب إلينا لولايتنا، وقال: يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية، والقتل بالموعظة، فيقتل البريء ليتعظ به العامة
>[41] ، بل وذهب غير واحد
[ ص: 102 ] إلى أن الهدية في غير الحكم سحت، وفي الحكم كفر لقوله تعالى:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (المائدة:44)، وفي هذا المعنى قال منصور الفقيه
>[42] :
إذا رشـوة من بـاب بيت تقحمت لتدخل والأمانة فيه [الطويل]
سعت هربا منه وولت كأنها حليم تنحى عن جوار سفيه
وأما إجابة الدعوة، فتشبـه إلى حـد بعيد ما قيل في المنع من الهدية، لأنها ذريعة إلى التهمة، وهذا إذا كانت الدعوة خاصة أو تتأثر بوجود القاضي، أما الدعوة العامـة، فلا حرج من الإجـابة خـاصة إذا كانت من قريب، لأنها توجب دوام الألفة والمودة وفيها صلة للأرحام
>[43] .
ومع ذلك ففي جميع أحوال الإجابة ينبغي مراعاة قرائن الأحوال لما قد يحدث مما يسبب حرجا للقاضي بتهمة الميل أو محاولة الاستمالة أو تكون في حالة خصومة، وأن لا يسارع إلى إجابة الدعوة لأن التسامح في ذلك مذلة وإضاعة للتصاون وإخلاف للهيبة عند العوام
>[44] .
ومن شـأن من يتولى القضـاء أن ينأى بنفسه عن كل ما يخل بهيبتـه فلا يتضاحك مع الناس، وأن يلزم التواضع في كل حاله، وأن يبتعد عن التصنع والمداهنة وما يمت إلى الرياء بصلة فذلك كله بعيد عن الحق والصواب.
[ ص: 103 ]