المطلب الثاني: ضمانات هيبة القضاء:
لما كان للقضاء أهمية عظيمة في نفوس الناس، كان ينبغي أن تنزه ساحته وتصان جوانبه مما قد يشوبه ويدنس حرمته، سواء كان في القضاء ذاته أو في شخص القاضي.
فلم تكتف الشريعة الإسلامية بوضع القواعد التي تكفل حماية القاضي من ذوي السلطة ومن الخصوم، بل راعت أن القاضي أولا وأخيرا من البشر، وقد تتحرك فيه النوازع النفسية من الطمع ومحاباة الخواص من الناس، ولذا رأى الفقهاء منعه من أمور كثيرة، هي في عرف الناس من المباح، حفاظا عليه، وليكون أبعد عن الشبهات التي قد تسيء إلى جلال المنصب، ولتتفرغ نفسه ويخلو ذهنه من الانشغال بغير مهنته الأساسية، وهي القضاء بين الناس بالعدل.
لذا رأى الفقهاء أن لا يجمع القاضي بين القضاء ومهنة أخرى كالتجارة، إلا إذا كان البيع داخلا في صلب القضاء، كبيع أموال المدين، وبيع أموال
[ ص: 148 ] اليتامى التي تحت يده، ولأجل المصلحة العامة، ولأن هذا يدخل ضمن مشمولات القاضي الأساسية، وعلى شرط أن لا يشتريها لنفسه.
ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن وقوع البيع أو الشراء من القاضي زمن القضـاء على الكراهية. لما روي أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال:
( ما عـدل وال اتجر في رعيته ) >[1] .
وقـال شـريح: "شرط عـلي عمر حـين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان"
>[2] .
وروي أن عمر بن الخطـاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : "لا تبيعن، ولا تبتاعن، ولا تشـارن، ولا تضـارن، ولا ترتش في الحكم، ولا تحكم بين اثنين وأنت غضبان"
>[3] .
لأنه إذا باع أو اشترى لم يؤمن أن يسامح ويحابى، فتميل نفسه عند المحاكمة إلى من سامحـه وحـاباه، فيضيع المقصد من القضاء، وهو إعطاء كل ذي حـق حقـه، ولأن في مباشرته بذلة تقل بها هيبته، فكان تصاونه عنها أولى
>[4] .
[ ص: 149 ]
فإن احتاج القاضي إلى البيع أو الشراء، وكل من ينوب عنه، ولا يكون معروفا به، فإن عرف استبدل به من لا يعرف، حتى لا يحابى، فإن لم يجد في مباشرته للبيع والشراء بدا، واحتكم إليه من بايعه وشاراه، اخترنا له أن لا ينظر في حكومته بنفسه، ويستخلف من ينظر فيها، فيكون بعيدا من التهمة، فإنه وإن حـكم بالحق، لا يؤمن أن يكون قـلبه إليه أميل من خصمه إن ياسره، أو إلى خصمه أميل إن عاسره، فإن خالف ما ذكر وتفرد بالبيع والشراء فأحكامه نافذة
>[5] .
وأما في مجلس الحكم، فهو أحرى بالمنع، لأنه يشين القضاء، ولأنه ما جلس إلا لفصل القضاء، فلا يخلط به ما ليس منه، ولأن الإنسان فيما يبيع ويشتري يماكس عادة، وذلك يذهب حشمة المجلس ويضع من جاهه بين الناس.
وإلى هذا التعليل مال الأحناف في قصرهم الكراهة على حصول البيع والشراء في مجلس الحكم
>[6] .
[ ص: 150 ]
والذي حققه المالكية، أن بيع القاضي وشراءه يجوز خارج مجلس القضاء، نقله المازري عن أصحاب مالك. وهذا مبني على أن علة الكراهة شغل البال. صرح بذلك ابن فرحون في "التبصرة"
>[7] .
ولابن شاس أن مبنى الكراهة خوف المحاباة لا شغل البال
>[8] .
وعزا بهرام
>[9] هذا القول لابن عبد الحكم أيضا ومطرف وابن الماجشون.
وقال ابن عرفة: لا أعرف وجود هذا القول في المذهب لغير ابن شاس
>[10] .
وأما الشـافعية، فقالوا بالكراهة مطـلقا
>[11] . قال الشافعي: وأكره للقاضي الشراء والبيع والنظر في النفقة على أهله وفي ضيعته، لأن هذا أشغل لفهمه من كثير من الغضب، وجماع ما شغل فكره يكره له، وهو في مجلس الحكم أكره له
>[12] .
[ ص: 151 ]
فإن قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري
>[13] ، فذكروا عن ذلك أجوبة:
أحدها: أن الله تعالى قد نزه رسوله مما يتوجه إلى غيره من التهمة.
والثاني: أنه ما فعل ذلك بعد النبوة إلا نادرا، قصد به بيان الأحكام
>[14] .
ويرى الحنابلة أن العلة في ذلك من وجهين:
الوجـه الأول: أن القاضي يعرف إذا باشـر البيع أو الشراء، فيحـابى فيكون كالهدية.
الوجه الثاني: أن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس
>[15] .
والذي يبدو من كل ما تقدم، أن التعليلات في ذلك متقاربة، وأن الهدف هو مراعاة حرمة القضاء وصيانة مقامه.
والذي يفهـم من كلام الحنابلـة، أنهم أجازوا بيع القـاضي وشراءه إن احتـاج لمباشرته، ولم يكن له من يكفيه، رفعا للحرج ودفعا للمشقـة؛ لأن أبا بكر الصديـق رضي الله عنه قصد السوق ليتجر فيه، حتى فرضوا له ما يكفيه، ولأن القيام بعياله فرض عين، فلا يتركه لوهم مضرة.
[ ص: 152 ]
وأما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له
>[16] . والأولى ترك مباشرة ذلك بنفسه إلا للحاجة الملحة، فإن ذلك أليق بمقام القضاء وأفرغ لمهمته، وأدعى أن يتحرى الحق.
وإلى هذا المعنى أشار ابن أبي الدم بقوله: "وهكذا يكره له ولوج الأسواق ومخالطة الناس في البيع والشراء، وفي المواضع التي لا يليق بالعلماء والحكام الاجتياز بها"
>[17] .
والذي أخلص إليه، أن القاضي يكره له كل ما كان فيه شبهة تمس من هيبة القضاء أو من شخص القاضي، حتى لا يجترئ الناس عليه، فتضيع الحقوق.
وبناء على هذا يكره للقاضي أن يقترض من أهل عمله، إلا أن يستعير من صديق كان يقترض أو يستعير منه، خوفا من الحياء والمحاباة
>[18] .
والمحاباة فيها شبهة التقرب إلى القاضي بالإسقاط من القيمة، فتكون في معنى الهدية الممنوعة على القاضي.
وكذلك الحكم في الإجارات ووجوه الاستعارات الأخرى، كاستعمال السيارة مثلا وقضاء المصالح إلا بالأجرة. فينبغي له أن يتنزه عن ذلك كله، فإذا أراد البيـع والشراء ولو لقضاء مصـلحته الخاصة من غـير تجارة، وكل من لا يعرف أنه وكيله
>[19] .
[ ص: 153 ]
قال ابن فرحون: "ولا ينبغي أن يكون له وكيل معروف على البيع والشراء، لأنه يفعل مع وكيله من المسامحة ما يفعل معه. وربما امتنع الناس من خصامه، وأن يرفعوه إلى القـاضي الذي هو وكيله، لأنهم يتهمونه بالعناية به. وينبغي له التنزه عن ذلك إلا ما قل شأنه وخف شغله والكلام فيه"
>[20] .
وذهب بعضهم إلى القول بحرمة التجارة عليه سدا للذريعة، إلا ما كان من شؤونه الخاصة، واستدلوا بنفس الأدلة السابقة
>[21] .
وعلى القاضي أن يحذر من مسامحته في المعاملة، ومن رأى منه ذلك فيجب البعد عن معاملته، ومعاملة غيره ممن لا يسامح إلا بما جرت به العادة. وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والعادات.
والمهم أن لا يتعامل القـاضي تعامـلا يتنافى مع مركزه الأدبي. كما أنه لا يحق له أن يجمع بين مهنة القضاء ومهنة أخرى كالمحاماة، إذ لا يصلح أن يكون حكما في يوم وخصما في يوم آخر. ولا عاملا في عمل آخر كالاستئجار على كتابة العقود والنسخ وغير ذلك من الأعمال، لأنها تشغله عن أعمال القضاء. ويستثنى من ذلك الأعمال المشابهة كالأعمال العلمية.
وهكذا فضمانا لهيبة القضاء واستقلاله، نحت الشريعة منحى سد الذرائع، فمنعت القاضي من مباشرة أي عمل قد يكون من انعكاساته التشكيك في نزاهة القضاء واستقلاله. وسلكت التشريعات الوضعية نفس المسار دعما لمبدأ حياد القاضي.
[ ص: 154 ]