المطلب الثاني: علم القاضي:
لقد بلغ القضاء الإسلامي القمة في العدالة والإنصاف والنـزاهة، وضرب قضاتنا المثل الأعلى في ذلك، فكانوا قدوة يحتذى أثرهم، ودعاة إلى الله تعالى بواقع حالهم وسلوكهم قبل أقوالهم، فكانوا يطبقون شريعة الله في كل أحوالهم وتصرفاتهم وقضائهم، لا يحيدون عنها ولا يبغون عنها حولا، فكانوا بحق حماة لها وساهرين عليها.
ومن المسلمات البدهيات في أصول المحاكمات قاعدة "الأصل براءة الذمة" التي تستتبع قاعدة "البينة على المدعي".
ومعنى ذلك أنه إذا أقام أحد الدعوى على آخر، فيعتبر المدعى عليه بريئا، حتى يثبت المدعي دعواه بطرق البينات المعروفة، وليس هنا مجال تفصيلها
>[1] .
ومن المسـلم به أيضا، أن نزاهة القـاضي تقتضي أن يستند حكمه إلى ما يدلى به في المحاكمة من بينات وأدلة، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع ) >[2] .
والقاضي من البشر، وربما يطلع على بعض القضايا، أو يشاهد بعض الحوادث. فهل له أن يحكم في ذلك بعلمه؟ أو لا بد أن تثبت عنده البينات؟
[ ص: 182 ]
الواقـع أن العلمـاء ذهبوا في ذلك مـذاهب شتى، أوصلها ابن حجر إلى سبعة
>[3] .
فالإمام مالك يرى أن القـاضي لا يحكم بعلمه مطلقا سواء أكان في حدود الله وحقوقه، أم في حقوق الآدميين
>[4] .
[ ص: 183 ]
لقوله صلى الله عليه وسلم :
( لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه ) >[5] . يريد المرأة التي تظهر في الإسلام السوء.
وهذا القول مروي عن أحمـد والشافعي، وإليه ذهب البخاري واختاره ابن القيم. وعليه متأخرو الحنفية نظرا لفساد الزمان، وهو مروي عن أبي بكر وعمـر وعلي وابن عباس وعبد الرحمـن بن عوف ومعـاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم أجمعين
>[6] .
ويروى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قوله: لا ينبغي للحاكم أن يمضي قضاء بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر من شهادة غيره ولكن فيه تعرضـا لتهمة نفسه عند المسلمين وإيقاعا لهم في الظنون
>[7] .
وما قرره الفقهـاء من عـدم جواز استناد القاضي إلى علمه في أحـكامه، يعود إلى تغيـير الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة.
[ ص: 184 ]
ولهذا أجمع المتـأخرون بأنه لا يجوز للقاضي أن يستند إلى علمه في القضايا، بل قضاؤه يجب أن يستند إلى وسائل الإثبات ولو كان مطلعا على القضية عالما بجزئياتها
>[8] .
وإنما منع القـاضي من الحكم بما رآه أو سمعـه وعلم صحتـه يقينا وعلما ضروريا، وجوز له الحكم بالبينة التي تظهر له عند الشهادة، وإن كانت في الباطن فاسقة وغاية ما تفيده الظن، لأن القاضي متى سوغ له الحكم بعلمه أدى ذلك إلى تلف أمـوال الناس، إذ قد يكون بعض القضاة يظهر العدالة، وهو في الباطن فاسـق، فكان من الحـكمة والمصـلحة منع القضاة أن يحكموا بعلمهم
>[9] .
ذكر القرافي في الفرق السابع والخمسين بين قاعدة تداخل الأسباب وبين قاعدة تساقطها، أن الحكمة في منع القاضي من الحكم بعلمه عند مالك أن "القضاء بالعلم ساقط حذرا من القضاة السوء وسدا لذريعة الفساد على الحكام بالتهم، وعلى الناس بالقضاء عليهم بالباطل"
>[10] .
[ ص: 185 ]
وفي التفريع لابن الجلاب
>[11] ، إذا ذكر الحاكم أنه حكم في أمر من الأمور وأنكر المحكوم عليه، لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة.
قال أبو الحسن
>[12] : وهو أشبه في قضاة اليوم لضعف عدالتهم.
وقال أيضا: لا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة، فإن الحاكم غير معصوم، فيتهم بالقضاء على عدوه ولوليه ولا يعلم بذلك، فحسمت المادة صونا لمنصب القضاء عن التهم
>[13] .
وما لابن الجلاب، نحوه لأبي بكر بن عبد الرحمن، قال في مسائله حسبما في "المتيطية": أن قول ابن القاسم
>[14] أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك
[ ص: 186 ] وسحنون زمننا هذا لرجعا عما قالا، ولو أخذ الناس بقوليهما لذهبت أموال وحكم عليهم بما لم يقروا به
>[15] .
نعم للقاضي أن يستند إلى علمه من حيث عدالة الشهود وجرحهم، فيحكم بشهادة من علم عدالته دون من يعلم جرحه. وأما فيما عداه، فقد شدد مالك استناده لعلمه وحكمه به
>[16] .
ووجه استناده إلى علمه في التعديل أو التجريح، هو أنه لو لم يجز له ذلك إلا ببينة لاحتاج إلى تعديل البينة وتعديل معدلهم إلى ما لا نهاية له فيقع في التسلسل
>[17] ، فاضطر إلى الحكم بعلمه في ذلك لئلا تفوت المصالح المرتبة على ولاية الأحكام، قاله ابن يونس وحكاه عن ابن الماجشون
>[18] .
وقد وجهه بعضهم بشهرة حالة العدالة وحـالة الجرح عند الناس، فقل ما ينفرد القـاضي بعلمه ذلك دون غيره، فترتفـع المظنة عنه وتبعد التهمة
[ ص: 187 ] عنه لاشتراك الناس معـه في معرفة ما حكم به في حق المعدل أو المجرح من كلتا الحالتين
>[19] .
قال اللخمي: وينبغي أن لا يحـكم إلا بحضرة الشهود ليحكم بشهادتهم لا بعلمه، وإن كان مما يقضي فيه بعلمه فأخذه بالمتفق عليه أحسن
>[20] .
وقال المازري: "من الحكمة والمصلحة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل، فيقول علمت فيما لا علم له به، وعلى هذا التعليل لا يقبل قوله: ثبت عندي كذا، إلا أن يسمي البينة"
>[21] .
وقضى الحنفية بجواز قضاء القاضي بعلم نفسه الذي حدث له في زمن القضاء أو في مكانه، فيما سوى الحدود الخالصة لوجه الله عز وجل، لأنه يحتاط في الحدود ما لا يحتاط في غيرها، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم نفسه، وهو في ذلك واحد من المسلمين يساوي القاضي فيه غيره
>[22] .
[ ص: 188 ]
والذي عليـه متأخرو الحنفيـة، أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه مطـلقا. قال ابن عابدين: والمختـار اليوم أنه لا يقـضي بعلمـه للتهمـة إلى حين الإثبات
>[23] .
وهـذا تخريجـا على القـاعدة الفقـهية: "العـبرة للغـالب الشـائع لا للنادر"
>[24] .
أما الشافعية فالأظهر عندهم، أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثنائها في محل ولايته أو غيرها، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا إلا في حدود الله تعالى
>[25] .
قال النووي: "الأصح أن القاضي يقضي بعلمه في غير حدود الله"
>[26] .
وعلى هذا فيجوز للقـاضي أن يقضي بعلمه في الأموال وفي القصاص وحد القذف على الأظهر، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان،
[ ص: 189 ] فقضاؤه بما يفيد القطع وهو علمه أولى. وهذا القول رواية عن أحمد وإليه ذهب ابن حزم
>[27] .
أما الحدود الخالصة لله تعالى، فلا يقضي فيها بعلمه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولأنه يندب سترها، لكن إن اعترف أحد بموجب الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه
>[28] ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) >[29] .
[ ص: 190 ]
فسمـاع القاضي للإقرار أثبت من الشهـادة، لأن علـم القاضي بالإقرار كعلمه المستفـاد من الشهـود، فالقـاضي قائم على أداء واجبه بفصل النـزاع المعروض عليه ويحكم بالحق الذي ظهر أمامه، وهذا قضاء بالإقرار لا بعلمه.
والقـاضي إلى ذلك أمين، وهو في موضع الثقة ولـه حرية التقدير والنظر، والاجتـهاد في القضايا المعروضـة عليه. وقد ألقـت إليه الدولة مقاليد أمرهـا، وفوضته لإقامة العدل. وإذا لم تأتمنه على سماع الإقرار في مجلس القضـاء والحكم بموجبه، فكيف تأتمنـه على العدل والإنصاف وإصدار الأحكام.
ولأن قضاء القاضي بعد الإقرار، هو حكم بالإقرار وليس حكما بعلم الحاكم، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( فإن اعترفت فارجمها ) فاعترفت فرجمها، فلم يشترط شاهدين أو أربعة
>[30] .
وإن منع القضاة من الحكم بموجب الإقرار بشرط وجود الشاهدين عليه، يعني وضع القضاة موضع الاتهام والريبة، وهذا الأمر ينـزع عنهم الهيبة والوقار والاحترام، ويؤدي إلى الوقوع في الإساءة من حيث محاولة الإصلاح، لأننا نمنع القاضي من الحكم بعلمه خوف التهمة ثم نضعه في التهمة، فيكون الضرر
[ ص: 191 ] المترتب على المنع أشد وأكثر مفسدة من الحكم بعلمه المستفاد من الإقرار في مجلس الحكم
>[31] .
وأما الحنابلة فظـاهر المذهب لديهم، أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره، ولا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها.
قال ابن قدامة: وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعي. وعن أحمد أنه يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والشافعي واختيار المزني
>[32] .
والظاهر من مذهب الحنابلة أيضا، أن القاضي لا يستند إلى علمه في حكمه على أحد المتخاصمين، لما ورد في الحديث السابق من قوله صلى الله عليه وسلم :
( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع ) فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم
>[33] .
وأما في القانون الوضعي، فإن علم القاضي يندرج ضمن مبدأ حياد القاضي، ومن متطلباته ألا يكون للقاضي رأي مسبق في الدعوى التي ينظرها.
[ ص: 192 ] فهذا الرأي قد يشل تقديره الصحيح، وهو يستوجب حياد القاضي إزاء كل من الخصمين، فلا يجمع عناصر دليل لصالح أحدهما
>[34] .
يقـول السنهـوري: "إنه يترتب على حق الخصوم في مناقشة الأدلة التي تقدم في الدعوى، أنه يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه. ذلك أن علـم القـاضي هنا يكون دليلا في القضيـة، ولما كان للخصـوم حق مناقشـة هذا الدليل، اقتضى الأمر أن ينـزل القـاضي منـزلة الخصوم فيكون خصما وحكما وهذا لا يجوز"
>[35] .
وعليه فلا يجوز للقاضي أن يحكم بناء على معلوماته الشخصية التي حصل عليها خارج مجلس القضاء، لأنه لا يصح أن يكون شاهدا وحكما في آن واحد. ولا أن يحكم في الدعوى إلا بناء على التحقيقات التي تحصل في الجلسة في حضور الخصوم
>[36] .
وإذا كان يمتنع على القاضي الحكم بعلمه الشخصي، فإنه أيضا يمتنع عليه أن يبني حكمه على اتجاهات الرأي العام
>[37] .
[ ص: 193 ]
وعندي أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقا، لا في الحدود ولا غيرها، سواء قبل القضاء أو بعده إلا ما أقر عنده في مجلس الحكم
>[38] . وهذا -إن شاء الله- أقرب للعدل وأحفظ للأمانة وأنفى للشبه، وأزكى للقاضي وأسلم له في عرضه، لأن علمه قبل ولايته شبيه بالشهادة أو هو الشهادة نفسها، وليس من واجبه أن يكون شاهدا في خصومة لديه، لما في ذلك من احتمالات التنازع والطعن فيها.
ووظيفة القاضي إلى ذلك محصورة في الحكم بالعدل، والعدل في مبناه ومعناه يقتضي البعد عن كل ما يثير شبهة أو يبعث ريبة في النفوس، وحكم القاضي بعلمه قد يثير الكثير من الشكوك والتساؤلات.
وأيضا لتغير الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى، وهذا الذي أجمع عليه المتأخرون، فإن أراد أن يشهد بما في علمه فعليه أن يتخلى عن القضاء في القضية التي يعلمها.
[ ص: 194 ]