تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل الأمة المسلمة أمة العدل، وناط بها حمل رسالته والعمل على تجسيده في حياة الناس، واعتمد شهادتها يوم الدين والحساب حيث يقضي الله بالعدل بين العباد، فقال تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143)، والوسطية هنا تتمحور حول العدل، التزاما وبيانا ونشرا، والشهادة المقصودة تشمل الشهادة بشقيها، التحمل والأداء.
والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، الذي أرسل بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، قال تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، وكان من أولى مهامه ومقاصد نبوته بناء أمة العدل، وتصويب مسارها، وتأهيلها للشهادة على الناس، وحمل أمانة أدائها في الدنيا والآخرة:
( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78).
[ ص: 5 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الخمسون بعد المائة: "مقاصد القضاء في الإسلام.. إحقـاق الحـق"، الجزء الثاني، للدكتور حاتم بن محمد بوسمة، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسـلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، سعيا منها إلى بيان أبعاد المهمة المنوطة بالأمة، وإبلاغ رسالتها للعالم، وتحديد مسؤوليتها عن توصيل قيم الحق والعدل للإنسان حيثما كان، والارتقاء به إلى الإيمان بعقيدة التوحيد (بالله الواحد)، الذي يعني -فيما يعني- نسخ الآلهـة بكل أشـكالها، وتحرير الإنسان من الظلم والتسـلط والعبودية؛ ذلك أن شقوة العالم ومآسيه إنما تكمن تاريخيا في الظلم والتسلط وغياب العدل والمساواة.
ولعلنا نقول: إن إشـكالية توفير العدل وكيفيات تحقيقه وإبداع أدوات وآليات الوصـول إليه كانت ولا تزال الهاجس الدائم والقلق السـوي والشـغل الشـاغل للفـلاسفة والمفكرين والأنبياء والدعاة والزعماء، والجماعات والأحزاب، وكانت الحرية والمساواة شعار الثورات وحركات النهوض والتغيـير ومواثيق العمل الوطني، لذلك خضعت للكثير من التلاعب والتحايل والالتفاف والابتزاز السياسي والتغرير الجماهيري، حيث إنـها في معظم الأحوال لـم تتجاوز مرحـلة الشعار إلى حقيقة ممارسته كشعيرة.
[ ص: 6 ]
وكان تحرير الإنسان بالنبوة، والارتقاء به إلى الإيمان بعقيدة التوحيد، والارتكاز في سـلوكه إلى الإيمان بالله، الذي لا تخـفى عنه خافية، وبيان ما يترتب على الظلم من الحساب يوم القيامة يشكل الإنجاز الكبير في ضبط سلوك الإنسان وتوجيهه صوب تبني الحق والعدل والدفاع عنه، ووسيلة لتنقية المجتمعات البشرية من الظلم والاضطهاد.
وبالإمكان القول: إن النبوة الخاتمة، حيث انتهت إليها أصول الرسالات السمـاوية التاريخية جاءت بقيم وموازين بينة وقدمت نماذج من تأسيس الحق والعـدل والأمن على مستـوى الفرد والمجتمع والدولة والأمة ما تزال باقية وهادية.
وقد يكون السر في نجاعتها أنها لم تكتف بإيكال الناس إلى الإيمان برقابة الله وعلمه بكل أحـوال الإنسان وتقلباته وتربية الوازع الداخلي، على أهمية ذلك ودوره في بناء العدل، وإنما قدم علماء المسلمين وفقهاؤهم، وارثو النبوة، من الجهود والاجتهادات وإبداع الوسائل والأدوات والفهم في مجال القضاء والبينات والشهود والقرائن ومواصفات الشاهد والقاضي واستقلال القضاء، من الكنوز المخزونة ما لم تتوافر عليه أمة من الأمم.
وعلى الرغم من كل الانتكاسات والتراجعات والإصابات ما تزال الاجتهادات في مجال تحقيق قضية العدل ووسائل توفيره ممتدة في حياة الأمة بكل متطلباتها واستحقاقاتها في المدارس والمساجد والمعاهد والجامعات، ومراكز البحوث والدراسات والمنتديات...
[ ص: 7 ]
والكتاب الذي نقدمه "مقاصد القضاء في الإسلام"، بجزأيه، كنا نتمنى لهذا المشروع المتميز وهذا الجهد المقدور أن يصدر في سفر واحد لتتكامل الصورة في ذهن الباحث والقارئ، ذلك أن هذا العمل العلمي يفتح نافذة أمينة، ويكشف جانبا مهما من عطاء إرث النبوة وعمل العلماء العدول، الذين يحملون هذا الدين، يبينونه وينفون عنه نوابت السوء.
لكن لعل طبيعة ما التزمناه في السلسلة وتقارب زمن الإصدار بين الجزأين يشفع لنا.
إن ما يقدمه هذا الكتاب يعتبر غيضا من فيض المكتبة الفقهية والخزانة القضـائية في الإسـلام، ويبين ما أولاه الإسـلام وعـلماؤه من جهود وما استنفدوه من طاقات لتحقيق العدل وتقرير المساواة وتوفير جميع الأدوات ودراسة جميـع الاحتمالات، واستشعار المسؤولية الإيمانية أولا وقبل كل شيء عن نشره وتحقيقه في دنيا الناس، استجابة لقوله تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25).
فالقسط كان ولا يزال محور مقاصد الشريعة.
والحمد لله من قبل ومن بعد.
[ ص: 8 ]