المطلب الثاني: أحسن طرق إظهار الحق:
انتهينا إلى أن من مقاصد الشريعة إطلاق طرق إظهار الحق، وهذا الأمر يقتضي اختلاف أساليب المرافعات، وأن القاضي ينبغي عليه أن يوازن بين الأدلة والحجج ويرجح بينها حتى يتبين له الحق.
وبمعنى آخر "أن تلقي القاضي لأساليب المرافعة أحسنه ما أعانه على تبيين الحق"
>[1] .
ومن وجهة النظر التاريخية، فإن طرق المرافعات في عهد النبوة وما يليه كانت بسيطة جدا، وكانت الفيئة إلى الله أسرع من ارتداد طرف أحدهم، إذ كان الناس يومئذ متخلقين بأخلاق النبوة، وكان الذي يتعدى حدود الشريعة يأتي ممكنا من نفسه، كما في قضية ماعز الأسلمي، إذ اعترف على نفسه بالزنى
>[2] .
[ ص: 18 ]
وكان الذي يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الانتصاف لا يتردد في ذلك أبدا
>[3] ، عملا بقول الله تعالى:
( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (الأحزاب:36)، وقوله تعالى:
( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ) (النور:51).
ثـم اجترأ الناس على بعضهـم وتوسـلوا بشتى الوسـائل إلى استباحة الحقـوق وتعطيل تنفيذ الأحكام عند صدورها، فكان على القاضي إذن أن يتحرى في قبول البينات، وأن لا يعتمد إلا ما أعانه على تبيين الحق.
وإذا كانت الشهـادة في الشريعـة الإسـلامية، هي أعدل البينات وأعـلاها مرتبة، فإنـها في القوانين الوضعية فقـدت مكانتها المركزية لصـالح بينات أخرى، اكتسبت بمرور الزمن قـوة، وأصبحت أدلة تكاد تكون قطعية.
[ ص: 19 ]
فالكتابة على سبيل المثال لم تكن قديما في الصف الأول من طرق الإثبات، بل كانت الشهادة مقدمة عليها، وفي المقام الأول بالنسبة إليها
>[4] ، غير أنه بعد انتشار التعليم أخذت التشاريع الحديثة تقدم الكتابة على الشهادة، ذلك أنه لا يتطرق إليها من عوامل الضعف ما يتطرق للشهادة، فشهادة الشهود معرضة للنقص والنسيان وعدم الدقة في التعبير والزور، بينما الكتابة يمكن إعدادها مقدما للإثبات مع نشأة الحق دون الانتظار إلى وقت النـزاع.
على أن الكتابة إذا خلت مما قد يلحق بالشهود من نسيان وكذب، فهي لا تخلو من احتمال التزوير أيضا، ولهذا فقد رسمت قوانين المرافعات الإجراءات الواجب اتباعها للطعن بالمحررات بالإنكار أو التزوير
>[5] .
ومن هذا أيضا، المنع القانوني من إثبات الإقرار الذي يدعى وقوعه خارج مجلس القضاء إلا ببينة خطية، فلا يقبل إثباته بالبينة الشخصية، أي شهادة الشهود، وذلك لكثرة حوادث تزوير الشهادة على الإقرار وسهولة هذا التزوير، فتموت الحقوق وترد دعاوى أصحابها.
[ ص: 20 ]
فكل من ثبت عليه حق، فإنه لا يقبل منه أن يثبت إقرار صاحبه بخلافه خارج مجلس القضاء إلا بوثيقة مكتوبة
>[6] .
وعلى هـذا إذا تعـارضت البينات قـدمنا أكثرها مراعـاة لمقصد تبيين الحـق، كأن تشهد إحـدى البينـات بالملك، والأخـرى به مع بيان سبب ذلك، أو تشهـد بينة أن الـدار ملك لزيد، والأخرى ملك لعمرو بناها بيده، فتقدم الثانية على الأولى ولو كانت أعدل أو في حوز المشهود له
>[7] .
وقـد ترجـح البينة بزيادة العـدالة، كما نص على ذلك في "المـدونة". قـال مـالك: مـن كان في يـده دور أو عبيد أو عروض أو دراهم أو دنانير أو ما أشبه ذلك من الأشياء، فادعى ذلك رجل، وأقام بينة على ذلك، وأقام من ذلك بيده أنه له، قضى بشهادة أعدلهما وإن كانت أقل عددا
>[8] .
غير أننا في حالات كثيرة، نجد أن القاضي لا يملك في الخصومة الواقعة أدلة تفي بالحاجة، وهو إما أن يعمل الدليل فيتوصل إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض أو أن يهمله فيضيع الحق كله.
[ ص: 21 ]
وإذا كان مقصود الشرع تبيين الحق من أي طريق كان حتى لا تذهب الحقوق
>[9] ، كان متعينا على القاضي أن يقبل هذا الدليل، لأنه في محله أحسن ما أعان على تبيين الحق. وقد انتهى ابن القيم الجوزية بعد نقاشه لأدلة من يرى عدم صحة الحكم بشاهد واحد ويمين المرأة، وكذلك الحكم بشهادة العبيد إلى أن مقصود الشارع، هو إظهار الحقوق وبيانها، فإذا توصلنا إلى هذا المقصود بشاهد واحد أو بقول المدعي نفسه أو بأية قرينة تقطع بصدق المدعي في دعواه، فإن هذا يعتبر بينة تامة ويقضي بها.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: والمقصود هو أن الشارع لم يوقف الحكم في حفظ الحقوق المبينة على شهادة ذكرين لا في الدماء ولا في الفروج ولا في الحدود، بل قد حد الخلفاء الراشدون والصحابة، رضي الله
[ ص: 22 ] عنهم، في الزنا بالحبل، وفي الخمر بالرائحة والقيء
>[10] ، ولو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تكمن في شهادة الشاهدين أولى، فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد
>[11] .
وخلاصة هذا الرأي أنه لا يلزم من الأمر بالتعدد حفظ الحقوق
>[12] ، بل إن الخبر الصادق متى تأتى لم تقو الشريعة على رده، وقد ذم الله في كتابه من كذب بالحق
>[13] . ورد الخبر الصادق هو تكذيب بالحق.
وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها.
روى أبو داود في "سننه" في قضية اليهوديين اللذين زنيا فلما شهد أربعة من اليهود عليهمـا أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما
>[14] .
[ ص: 23 ]
ولهذا المعنى جوز الفقهاء القضاء باليمين منفردة
>[15] ، وباليمين مع الشـاهد الواحد
[ ص: 24 ] >[16] .
وكذلك جوزوا القضاء بالقرائن والأدلة الحسية
>[17] مع أنها في عرف الشرع دون الشهادة مرتبة.
[ ص: 25 ]
والذي نخلص إليه أن الشارع لم يكتف في سبيل إحقاق الحق، أن يعدد طرق إظهار الحقوق، بل أرشد مع ذلك إلى كيفية تلقي هذه الطرق، وأباح للضرورة والحاجة بعض الأدلة لم يبحها في حالات أخرى تماشيا مع مقاصد الشريعة في إظهار الحقوق وتبيينها، ومراعاة لمصلحة الناس، ولولا ذلك لانتهكت كثير من الحقوق.
فدل هذا على أن الشريعة الإسلامية، إذ تتفاعل في المجتمع، لا تكتفي بوضع الأطر والمناهج بقدر ما توائم بين المتغيرات والثوابت، وهذا دليل على خلودها وأنها صالحة لكل زمان ومكان.
[ ص: 26 ]