المطلب الثاني: أحوال الشهادة:
الأصل في الشهادة أن تقع مستوفية أسبابها وشروطها، خالية من كل مانع قد يشوب صدقها. فيكون القضـاء بإثرها رافعا لأسباب النـزاع، قاطعا كل خصومة عن الاتساع، حتى يتحقق أمر الله بالقيام بالعدل
>[1] .
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد بينت مراتب الشهادة وأنصبتها
>[2] ، وجاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 40 ] لابن عباس من أمر الشهادة وخطورتها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم :
( يا ابن عباس، فلا تشهد ( إلا على أمر يضيء لك كضياء هذه الشمس"، وأومأ بيده إلى الشمس ) >[3] ، مصـداقا لقولـه تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36)، وقوله تعالى في شأن إخوة يوسف:
( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ) (يوسف:81)، فإن الشهادة قد تقع أحيانا غير مستوفية لأحكامها للضرورة، صونا للمصلحة وحفظا للأعراض والأنفس والأموال أن يعتدى عليها.
[ ص: 41 ]
ذكر ابن فرحون أنه قد يلحق الظن الغالب باليقين للضرورة كالشهادة في التفليس وحصر الورثة وما أشبه ذلك
>[4] . ولو اشترط العلم القاطع لضاعت الحقوق ولتعطلت الأحكام
>[5] .
وإذا كان الأصل أن لا يشهد الشاهد إلا على من يعرف
>[6] ، فإن الضرورة قد تقتضي في أحيان كثيرة إلى أن نعدل عن هذا الأصل.
سئل ابن رشد في شاهد شهد على امرأة في وصية بعد موتها، وقال إنه لم يعرف عينها حين أشهدته إلا بقول امرأة وثق بها. فقال: شهادته عاملة إذا كان ابتدأ سؤالها، لأن ذلك من ناحية قبول خبر الواحد
>[7] .
وقـال ابن ناجـي: "الأصل أنه لا يشهد الشاهد إلا على من يعرف إلا من ضرورة"
>[8] .
[ ص: 42 ]
والأمـر سـواء في قبـول شهـادة السمـاع
>[9] والشهـادة على الخط
>[10] والشهـادة على الشهادة
>[11] .
فأما شهادة السماع فحكمها الجـواز في جميـع المذاهب للضرورة لأنها جارية على خلاف الأصل. فالمعروف أن الشهادة تكون إخبارا عن مشاهدة وحضور ومعاينة. وبهـذا قال المالكية، فقد أجازوا أن يشهد الشاهد معتمدا في شهادته على ما سمعه من خبر فاش منتشر بين الثقات وغيرهم، وذلك في أمور من العسير أن يراها كل إنسان وأن يشاهدها
[ ص: 43 ] ويعاينها. ولو لم تقبل الشهادة بها بالسماع الفاشي من الثقات وغيرهم، لأدى ذلك إلى الضيق والحرج وتضييع كثير من الحقوق
>[12] .
وهـذا الذي عـليه العمل واعتمـده الموثقون: الباجي وابن سهل وابن سلمون وابن الفتوح والمتيطي ونقله ابن عرفة، ونظمه في "العمل" بقوله:
والجمع فيها بين أهل العدل وغيرهم جاء صحيح النقل [الرجز] بل قيل فيها إنها لا تكمـل
إلا بـذاك وبهـذا العمـل
وهـي على ما اختاره ابن شـاس وابن الحاجب وغير واحد لا تجوز إلا في مسائل معدودة وقع التنصيص عليها
>[13] .
وخالف حلولو فذهب إلى أن شهادة السماع إذا أفادت القطع جازت في كل شيء
>[14] .
وقال بعضهم ما اتسع أحد في شهادة السماع اتساع المالكية، فتجوز عندهم في الأحباس والملك المتقادم والولاء والنسب... الخ
>[15] .
[ ص: 44 ]
وهذا جريا على قاعدة العمل بالمصالح المرسلة لاحتياج الناس إلى هذا النوع من الشهادة خصوصا عند فقدان غيره من أنواع الشهادات.
وأما الأحناف فرأوا أن هناك موضوعات تقتضي المصلحة فيها قبول شهادة التسامع، لأن اشتراط العيان فيها متعذر أو غير متيسر، فيضيع هذا الاشتراط حقوقا مهمة لا يسوغ الشرع التفريط فيها، ومنها إثبات أصل الوقف عند الاختلاف في وقفيته وملكيته. وعللوا ذلك بأن المصلحة تقتضي قبول شهادة التسامع هنا استحسانا على خلاف القياس للضرورة، وذلك صيانة للأوقاف القديمة عن الضياع
>[16] .
وأما الشهـادة على الخط، ففيها خلاف بين أصحاب مالك في أقسامها الثلاثة
>[17] .
ذكر القرافي في "الذخيرة": "أن هناك من أجازها مطلقا في أقسامها الثلاثة، وهناك من أجازها في البعض دون البعض، وهناك من منعها"
>[18] .
والذي حكاه ابن رشد في "البيان والتحصيل" أن المشهور من مذهب مالك جـوازها على خط الميت أو الغائب لم يختلف في ذلك قول مالك
[ ص: 45 ] ولا أحد من أصحابه
>[19] .. وذكر ميارة أن الشهادة على خط الشاهد لغيبته أو موته صحيحة على الصحيح من القولين لأنها ضرورة، ومنعها ذريعة إلى إبطال الحقوق وإتلاف أموال الناس
>[20] .
وأما شهادة الشاهد على خط نفسه إذا عرف خطه ولم يذكر شهادته. فقد جرى فيه خلاف، وعن مالك فيه قولان: أنه يؤديها إذا لم يكن في الكتاب محو. وهذا قوله المرجوع عنه، وبه جرى العمل الفاسي، وهو اختيار سحنون ومطرف واللخمي. قال: لو وكل الناس اليوم إلى الحفظ لما أدى واحد شهادته ولضاعت الحقوق
>[21] .
[ ص: 46 ]
وقد نظم صاحب "العمليات العامة" ما جرى به عملهم فقال:
والشاهد العارف خطه ولم يذكر شهادته أدى للحكم >[22] [البسيط]
إن لم يكن محو به أو ريبـة وتنفـع الشهـادة المطـلوبة
وأما الشهادة على الشهادة، فالمذهب أنها جائزة في كل شيء بشروط مفصلة في كتب الفقه ليس من غرضنـا في هذا البحث التعرض إليها
>[23] . وإنما جازت هذه الشهادة لما فيها من حفظ للمصلحة العامة
>[24] .
ومنعها أبو حنيفة في القصاص وأجازها في غير ذلك من الحقوق استحسانا. ووجه الاستحسان فيها أن الحاجة ماسة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لموت أو مرض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة لأدى الأمر إلى ضياع الحقوق، ولهذا جازت الشهادة على الشهادة امتثالا لحكم الضرورة
>[25] .
[ ص: 47 ]
وأما الشافعية فعللوا الجواز بالحاجة الداعية لذلك، نظرا لتغيب شهود الأصل أو تعذر حضورهم، فلو لم يجز أن يشهدوا غيرهم على شهادتهم لينقلوها للقاضي لضاعت كثير من الحقوق لضياع حد الإثبات، لأن الأصل قد يتعذر ولأن الشهادة حق لازم فتشهد عليها كسائر الحقوق ولأنها طريق تظهر الحق وتبينه
>[26] .
وقد يعرض للشهادة أيضا ما يوجب الرجوع عنها
>[27] ، إما لوهم الشاهد أو لتعمده الزور.
ذكر ابن المناصف أن الرجوع من العلل الطارئة على شهادة العدول
>[28] ، فهو أمر مشروع لما فيه من تدارك ما أتلفه الشاهد بشهادته. ولا يمنعه الاستحياء من الناس وخوف اللائمة من إظهار الرجوع، فمراقبة الله خير من أن يراقب الناس
>[29] ، قال الله تعالى:
( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) (الشورى:25)، فدلت على مطلق قبول التوبة، والرجوع عن الشهادة توبة.
[ ص: 48 ]
وذكر عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن أبي ذئب
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شاهد شهد ثم رجع عن شهادته بعد أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قضى رسول الله بشهادته الأولى لأهلها وهي الشهادة والأخيرة باطلة ) >[30] .
فدل الحديث على وقوع الرجوع عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره له وقضائه فيه. وفيه دليل على إسقاط قول الشاهد الأخير.
وإذا كان الأصل أن الحكم إذا صدر مستوفيا لشروطه وانعدمت موانعه فلا ينقض، فإن هناك حالات تعتبر استثناء ينقض الحكم فيها حتى بعد صدوره، كما هو الحال في رجوع الشاهد عن شهادته
>[31] .
والرجـوع أمر مشـروع ومرغوب فيه ديانة، لما يرتبه من استدراك لما كان من الشاهد من التفريط
>[32] ؛ ولأن فيه إحياء للحقوق وإظهارا لها، والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
واختلف في ضمان الشاهد ما أتلفه بشهادته، فذهب بعضهم إلى الضمان وهو قول الجمهور
>[33] .
[ ص: 49 ]
ذكر ابن الماجشون أن الشهود إذا أقروا بتعمـد الزور فعليهم ضمان ما يدخله الضمان من الديات وغيرها من الأموال ويؤدبون. وإن قالوا: وهمنا فلا ضمان عليهم ولا أدب والحكم ماض
>[34] .
وذكر ابن راشد أن الرجوع عن الشهادة لا يوجب التأديب لئلا يكون ذلك داعية إلى أن لا يرجع أحد عن شهادته وبه العمل
>[35] .
فتحصل لنا من كل ما تقدم من أحوال الشهادة مراعاة الفقهاء لمقاصد الشريعة رغم الخلاف الدائر بينهم، وهو خلاف لا يعدو أن يكون حول تحديد المصلحة الراجحة التي يؤسس عليها الحكم.
[ ص: 50 ]