الفصل الثاني
تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها
كنت قـد أشرت في مباحث سابقة إلى مقصد تعيين الحقوق في الشريعة الإسلامية، ولكن هذا المقصد على أهميته لا يحقـق تمـام العـدل إلا إذا عينا صـاحب الحـق، حتى يكون المسلمون على بينة من أمرهم فيما يأتون من أفعال.
فتعيين الحقوق لمستحقيها حلقة لا بد منها في انتظام سلسلة مقاصد الشريعة من أحكام القضاء، إذ أن إحقاق الحق وإيصاله لمستحقيه، وهـو تمام العدل والإنصاف، يمر حتما عبر تحديد الحقوق أولا، ومن ثم تعين مستحقيها ثانيا.
ولذا كان من أولويات الشريعة تمييز الحقوق لأصحابها، أن يعتدى عليها بدافع الشهوة أو الغضب التي جبل عليهما البشر، فجاءت الآيات محذرة من الاعتداء على حق (الغير) بالباطل، قال الله تعالى:
( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) (البقرة:188).
[ ص: 51 ]
وأعلن النبـي الكريم صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع أعظـم تشريع إنسـاني نص على حرمـة الحقـوق
( كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه ) >[1] .
وكان قبـل ذلك قد حذر من اقتطاع الحقوق وسد منافذ التأويل إلى استحلالها، فقال صلى الله عليه وسلم :
( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمـن قضيت له من حـق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطـع له قطعـة من النار ) >[2] .
وكان شريح القاضي يقول: "إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما، ولكني لا يسعني إلا أن أقضي بمـا يحضرني من البينة، وإن قضائي لا يحل لك حراما"
>[3] .
ولهـذا قال جمهور أئمـة الفقه إن حـكم الحـاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا
>[4] .
[ ص: 52 ]
ولعـل قرنه تعـالى أداء الأمانات بالحـكم بالعـدل في قوله عز وجل:
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، إشارة إلى هذا المقصد، فالحكم بالعـدل الذي هـو من باب الأمـانات يقتضي ابتداء تعيين الحقوق لأنواع مستحقيها.
يقول ابن عاشور: "إن تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس وأثبته للتشريع في معامـلات الأمة بعضـها مع بعض، فإنه يحصل غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها لأن تعيينها ينورها في نفوس الحـكام ويقررها في قلوب المتحاكمين، فلا يجدوا عند القضاء عليهم بحسبها حرجا"
>[5] .
[ ص: 53 ]