المبحث الثاني
مباشرة الحقوق
المطلب الأول: مباشرة صاحب الحق:
لما كان تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها من أعظم أسس التشريع في معاملات الأمة. كان اختصاص صاحب الحق بحقه ومباشرته له، حقا أصيلا ومقصدا شرعيا، واصطلح عليه بلفظة "الحرية".
يقول ابن عاشور: "لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية، لزم أن يتفرع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة، وذلك هو المراد بالحرية"
>[1] .
دل على هذا المعنى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما السوق، فاشترى صلى الله عليه وسلم سراويل. فذهب أبو هريرة ليحملها عنه. فقال:
( صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله، إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم ) >[2] .
[ ص: 65 ]
وقوله صلى الله عليه وسلم :
( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره ) >[3] .
ويتعلق بهذا في أحكام القضاء ترجيح اليد عند اختلاف المتداعيين في الشيء المتنازع فيه، لأن اليد تدل على الملك.
وأيضا ما ذكره القرافي في الفرق الستين والمائة بين قاعدة المتداعيين شيئا لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وبين قاعدة المتداعيين من الزوجين، أنه إذا اختلف الزوجان قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجـل بما هو شأن الرجـال، وما يصلح لهما قضي به للرجل، لأن البيت بيته في مجرى العادة، وهو تحت يده فيقدم لأجل اليد
>[4] .
ولأجل هذا المقصد، تحقيقا لمبدأ المساواة المتقدم، منحت الشريعة الأفراد ضمانا كافيا لحرية التصرف، صيانة للحقوق والحريات نفسها، أن يبغى عليها أو تهدر أو يساء استعمالها.
[ ص: 66 ]
فمنعت (الغير) من الاعتداء على غيره في نفسه أو عرضه أو ماله
>[5] . وقد جمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كل هذه المعاني في قوله:
( كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه )
ومنعت صاحب الحق من إهدار حقه أو إساءة استعماله، فشرعت الحجر على السفيه وأقامت لذلك الأمناء والأوصياء.
على أن مسؤولية الإنسان عن تصرفه في جميع وجوه نشاطه الحيوي مقررة بنصوص قاطعة، مثل قوله تعالى:
( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى *
وأن سعيه سوف يرى *
ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) (النجم:39-41)، وقـوله تعـالى:
( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (البقرة:286)، وقوله صلى الله عليه وسلم :
( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) >[6] .
[ ص: 67 ]
هذه المسؤولية هي أصل حرية التصرف في الشريعة الإسلامية، ولكنها حرية مقيدة، إذ يوجب الشرع ألا يكون التصرف مطلقـا، بـل حسبما سن ورسم. وما عدا ما حدد منعه في الشريعة من التصرف، فالأصل في سعي الإنسان في تناوله، هو الإباحة الأصلية
>[7] .
وقد رد الله على المشركين، إذ حرمـوا على أنفسهم أشياء بقوله تعالى:
( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:32)، وقوله تعالى:
( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ) (الأعراف:33) .
ولما كانت حرية التصرف محددة بالشرع، كانت الغاية منها أن تكون جلبا للمصالح ودرءا للمفاسد. وقد دلت كليات الشريعة وجزئياتها على أن المقصد العام من التشريع، هو حفظ النظام بجلب المصالح ودرء المفاسد.
وقد قال الشاطبي في "الموافقات": إن "المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله"
>[8] .
[ ص: 68 ]
وعليه، فإن موقف تحديد الحرية موقف صعب وحرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمـور التريث فيه وعدم التعجل، لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح الحاجية من تحديد الحرية يعد ظلما
>[9] ،كما أشار إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمى حمى الربذة
>[10] . قال لمولاه هني الهمداني الذي ولاه على الحمى: "وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال (أي الإبل) الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا"
>[11] .
وينبني على هذا أن منع الفرد من حرية التصرف في حقه الشخصي عند انتفاء المانع نوع من الظـلم الذي أبطلته الشريعة، قال الله تعالى:
( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) (النساء:6).
وإذا كانت مباشرة صاحب الحق لحقه من لوازم المسؤولية، فإن هذه المسؤولية باعتبارها من باب التكليف، تفترض في المكلف مؤهلات يقتضي وجودها تعلق خطاب التكليف به. وإذا كان الواجب أحد أقسام خطاب
[ ص: 69 ] التكليف "فإن هذا الواجب لا بد أن يقابله حق ينشىء سلطة تمكن المكلف من الأداء، وإلا تعذر النهوض بالتكليف، إذ لا واجب بلا حق"
>[12] .
وعن الحد الذي يجوز للإنسان بالبلوغ إليه التصرف في ماله؟ أجاب ابن رشد: إن التصرف لا يصح للإنسان في ماله إلا بأربعة أوصاف، وهي البلوغ والحرية وكمال العقل وبلوغ الرشد، لأن الله تبارك وتعالى جعل الأموال قوام العيش وسببا للحياة، وصلاحا للدين والدنيا، فوجب الاحتياط لها، وقطع مادة الضرر عنها، بأن يمنع من التصرف فيها من ليس بأهل التصرف فيها. ويحال بينه وبينها خشية الإضاعة لها، امتثالا لأمر الله تعالى فيها
>[13] ، وذلك في قوله تعالى:
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) (النساء:5).
ونهى أيضا عن إضاعتها وتبذيرها في غير وجوهها، نظرا منه لعباده ورأفة بهم، فقال تعالى:
( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا *
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (الإسراء:26-27)، وقال تعالى:
( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) (الفرقان:67).
وإذا كان التشريع قد قرر الحقوق لأصحابها تأصيلا، فإن الفقه قد عين مستحقيها تفريعا. واقتصر دور القضاء في هذه المرحلة على تمكين الحقوق
[ ص: 70 ] من مستحقيها إذا ما رام أحد اغتصابها أو الاعتداء عليها، بهدي من الشريعة ابتداء ومن الفقه انتهاء.
والحاصل أن للشريعة حقوقا على أتباعها تقيد تصرفاتهم بقدرها، وذلك في صلاحهم في الحال أو في المستقبل، لأن الحقوق الخاصة والحريات العامة كان منشؤه التشريع نفسه. ومتى تجاوز المرء حدود حريته أوقف عند الحد الشرعي وألزم بالرجوع إلى حدود ما رسمته الشريعة له.