المبحث الثاني
لزوم الحق وإنفاذه
المطلب الأول: طرق لزوم الحق:
لما كان المقصود من الحكم سد باب الخصومات، وحسم مادة النزاعات، ودرء الظلامات، وتمكين أهل الحقوق من حقوقهم، ولما كان الخصام لا يندفع إلا بالإلزام أو الإطلاق
>[1] ، على ما جاء في الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام للقرافي، في الجواب عن السؤال السادس، فإن ذلك لا يتحقق يقينا إلا إذا اعتقدنا أن القضاء إنما هو إظهار لحكم الشرع لا اختراع له، على ما قـاله ابن شـاس في "الجواهر"، وهو إنشـاء إلزام أو إطلاق، يترتب على مقتضى تلك الأحـكام الشرعية، لا إنشاء تحريـم أو تحليل وإلا كان تحصيلا للحاصل
>[2] .
[ ص: 105 ]
ومحصل ما ذهب إليه القرافي، أنه في الفتوى يخبر عن مقتضى الدليل الراجح عنده، فهو كالمترجم عن الله تعالى فيما وجده في الأدلة، كترجمان الحاكم يخبر الناس بما يجده في كلام الحاكم أو خطه.
وأما في الحكم، فهو ينشىء إلزاما أو إطـلاقا للمحكوم عليه بحسب ما يظهر له من الدليل الراجح، والسبب الواقع في تلك القضية، فهو إذا أخبر الناس إنما يخبرهم عما حكم به هو
>[3] ، لأن الله تعالى فوض له ذلك بما ورثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما في قوله تعالى:
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) (المائدة:49).
إذا تقرر هذا، فإن القاضي لما كان يحكم بلسان الشرع لا بلسان حاله، كان إلزامه للحق مقررا بخطاب الشرع، وكان التزام الناس للحق التزاما تجاه الشرع المستند للوحي، "ولذلك لم يزل علماء الأمة حريصين على إرجاع القوانين إلى أدلة الكتاب والسنة"
>[4] ، قال الله تعالى:
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء:65)، وقال تعالى:
( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ) (النور:51).
[ ص: 106 ]
ولو قال قـائل: إن هذا الحكم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه، قلت: وهو متقرر أيضا في حق نوابه الذين أرسلهم إلى الأمصار للقضاء بين الناس، كما في حادثة تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكما في حادثة تولية معاذ بن جبل رضي الله عنه .
ومتقرر أيضا في حق من جاء بعدهم من قضاة الإسلام، لأن الله تعالى قد جعل لهم أن ما حكموا به، فهو حكمه على حد قول من يقول بتصويب المجتهدين
>[5] .
غير أن هذا القول لا ينفي كون مراتب من دون الرسول صلى الله عليه وسلم متفاوتة على حسب قرب حكمهم من حكمه صلى الله عليه وسلم "ولذلك رجح علماؤنا أن يصرح القاضي في حكمه بمستنده فيه تحقيقا لمعنى نفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان"
>[6] .
فلا يبقى للمحكوم عليه مطعن في عدم الالتزام فتقوم عليه الحجة. ولهذا ذهب بعض علمائنا إلى القول بتحريـم مخالفة المحكوم عليه للحكم، لما فيها من مفسدة مشاقة الحاكم وانخرام النظام وتشويش نفوذ المصالح
>[7] .
[ ص: 107 ]
قال الماوردي: فأما أهل العمل فالتقليد لازم في حقوقهم بإظهار الطاعة والتزام الحكم، فإن امتنعوا من التزامه لعذر أوضحوه، وإن كان لغير عذر أرهبوا، فإن أقاموا على الامتناع حوربوا، لأن التزام القضاء من الفروض، فإذا امتنعوا من التزامه حوربوا عليه كما يحاربون على امتناعهم من الفروض ولزوم الطاعة
>[8] .
وهذا لعمري، من أرقى الآراء في فرض نظام الدولة، لأن الماوردي قد اعتبر التمرد على القضاء كالتمرد على الخلافة أو كالامتناع عن أداء الزكاة. ولعله أراد بقوله من "الفروض" الأمور التي لا تستقيم حياة المجتمع إلا بها، وأن هدمها أو شغورها هدر لمصلحة الكافة، ولذلك أوجب محاربة المتمردين على السلطة القضائية
>[9] .
وعلى هذا إذا استعدى الحاكم رجل على رجل وطلب منه إحضاره إلى مجلس الحكم لمخاصمته، وبعث الحـاكم إليه رجلا من أعوانه أو خاتمه أو طينا مختوما بخاتمه إلى المطلوب لإحضاره، وجب على المدعو الإجابة، بخلاف ما لو استدعى رب الدين المدين إلى حضور مجلس الحكم لم تلزمه الإجابة، بل يلزمه قضاء الدين، والذي حققه العراقيون أنه يلزمه ذلك
>[10] ، لقوله تعالى:
( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ) (النور:51).
[ ص: 108 ]
ولما كان من مقاصد الشريعة إلى جانب تعيين الحقوق إلزام الناس بها، تعين لتحقيق تنفيذها إيقاع حرمتها في النفوس. "وإن يقين الأمة بسداد شريعتها تجعل طاعتها منبعثة عن اختيار. وأعظم الشرائع في يقين أمتها بسدادها شريعة الإسلام، إذ قد قامت الأدلة القاطعة على أنها معصومة لأنها مستندة إلى الوحي"
>[11] ، قال الله تعالى:
( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (فصلت:42)، وقال تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25).
وتعين لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها، "بث علومها وتكثير علمائها وحملتها، وذلك فرض كفاية على الأمة بمقدار ما يسد حاجاتها ويكفي مهماتها في سعة أقطارها وعظمة أمصارها"
>[12] .
فأوجب الله تعالى طلب العلم ونوه بالعلماء في غير ما آية، قال الله تعالى:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28).
بل إنه رفع درجتهم إلى مرتبة الأصفياء، قال تعالى:
( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) (آل عمران :18).
[ ص: 109 ]
وذلك كله حتى يتهيأ تبليغها، لقوله تعالى:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122).
وقد أنبأتنا تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم عنايته بهذا الأمر، فقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لبني ليث حين وردوا عليه
( ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ) >[13] .
كما أمر أمته في مشاهد كثيرة أن يبلغ الشاهد الغائب، وحث من يسمع مقالته على أن يعيها ويؤديها كما سمعها
>[14] .
فلم يلبث سلف الأمة أن أكثروا من مصاحف القرآن في الأمصار، ثم في تدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلغها عنه ثقات أمته، ثم في تدوين آراء أئمة الإسلام المعبر عنها بالفقه
>[15] .
ولزم لتوثيق إقامة الحق إقامة ولاة لأمورها وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيـذها، فكانت الحكومة من لوازم الشريعـة لئلا تكون في
[ ص: 110 ] بعض الأوقات معطلة، وقد أشار إلى هذا قول الله تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) (الحديد:25).
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته في ذلك بلغت حد التواتر. فقد تواتر بعثه الأمراء والقضاة للأقطار النائية، وتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بنفسه بين المسلمين في حاضرة الإسلام
>[16] .
وإذا رجعنا إلى تاريخ الشرائع والأديان نوقن أن الله تعالى بعث الرسل والأنبياء بالشرائع والأحكام ليستنير الناس بها في حياتهم ويعرف كل منهم حقه فيقف عنده ويدرك واجبه فيلتزمه.
وغاية الشريعة في ذلك أن يمارس كل إنسان حقه، ويحافظ على حقوق الآخرين، فأقامت الحدود بينها وتكفلت في وضع الضوابط لاكتسابها واستعمالها والتصرف فيها، بحيث لا يطغى فرد على آخر ولا يسيء مسلم في حق أخيه ولا يتجاوز الحد في حقه أو يتعسف فيه
>[17] .
ومن وراء هذا نوقن بكمال الشريعـة وعصمتها من كل افتراء، فهي لـم تنشئ أحـكاما تخول للأفراد حقـوقا يتمتعون بهـا، حتى أضافت إلى ذلك أحكاما تؤيد هذه الحقوق، وتضمن لها التنفيذ، قال الله تعالى:
[ ص: 111 ] ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) (الحديد:25).
وإن التتبع والاستـقراء يدلان على هـذا التلازم بين الحـق ومؤيده في الجمـلة. وهذا المؤيد مخـول إلى السلطة التي يتمتع بها صاحب الولاية أو القيم على إقامة الشرع. وقد منحها الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى:
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) (النساء:105)، وقال تعالى:
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة:49).
ثم انتقلت هذه السلطة إلى من بعده وتركزت في القضاء، الذي يجمع بين فقه العلماء وعقل الحكماء، وبين نفوذ الحاكم الذي يستمد منه القاضي القوة والسلطة لكونه نائبا عنه.