المبحث الثاني
حصانة الأحكام
المطلب الأول: الطعن في الأحكام:
لم تكتف الشريعة الإسلامية بوضع القواعد التي تكفل حماية القاضي من ذوي السلطة، بل سعت إلى تقرير القواعد التي تحمي الأحكام التي أنشأها القاضي من أن تطالها يد التغيير والتبديل، وذلك فرضا لهيبة القضاء وأيضا لحماية الحقوق، إذ لو جاز النقض بعد الحكم لنقض ذلك النقض ثم نقض النقض بعده إلى ما لا يقف عند غاية، حتى لا يوثق بحكم مستقر، وفي ذلك إخلال بحكمة نصب الحاكم وتهييج لدعاوي الخصوم ومصادمة لمقصود الشرع في حفظ النظام، إلا أنها وهي تؤكد هذا المعنى لم تغفل أن القاضي قد يتفطن إلى بعض الأخطاء التي يمكن أن تكون مزلة أقدام. فسمحت للقاضي أن يراجع حكم نفسه.
والأصل في وجوب الرجـوع في هـذه الحالـة ما جاء في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قوله: "لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشـدك، أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"
>[1] .
[ ص: 140 ]
وعلى هذا ذهب غير واحـد من الفقهاء إلى أن القـاضي إذا اجتهد ثـم تبين له خطـأ في قضـائه، بأن كان الـذي قضى به مخالفا للنـص أو الإجماع، ينبغي له أن يظهر رجوعـه عن ذلك، ولا يمنعه الاستحياء من الناس ولا الخوف، فالله تعالى يحفظه من الناس، والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى
>[2] .
والمقصود من جواز الرجوع، أن الأصل في القضاء إنما شرع لإحقاق الحق لصاحبه، فإن تحقق ذلك صار القضاء صحيحا وإلا فلا، وحينئذ يجب الرجوع عنه.
فالقاضي لا يحكم إذا لمجرد الحكم، بل لتحقيق غرض الحكم، وهو الحق. والخطأ في الحكم مسلمة طبيعية، فالقاضي بشر والبشر يخطئون
>[3] .
وإذا كان رد خطأ القاضي مطلبا شرعيا، فمن الأولى أن يكون الرجوع منه هو إذا علم به
>[4] .
[ ص: 141 ]
ولا شك أن هذا المسلك يتماشى مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وأن في تطبيقه ضمانا لرعاية الحقوق، ودعامة أساسية لانتشار العدل بين الرعية، فضلا عن أن هذه القاعدة تحمي القاضي وتحفظ استقلاله وتفتح أمامه سبل تصحيح الخطأ الذي وقع فيه.
ولهذا "كان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما ثم قال: ارجعا أعيدا علي قضيتكما"
>[5] .
وهذا أصل عظيم في أن المرء لا يأمن من الخطأ ما بلغ به العلم، وأنه يجب عليه تعقب أحكامه لإزالة الخطأ عنها. وإذا تقرر الخطأ للقاضي ولاح له ذلك، فاستنكافه عن نقض حكمه شر الجورين
>[6] .
وفي هذا المعنى ذكر مالك أن عمر بن العزيز كان يقول: "ما من طينة أهون علي منا، ولا كتاب أهون علي ردا من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في خلافه، أو قال غيره"
>[7] .
إذا تقرر هذا، فإن نقض القاضي حكم نفسه إذا كان مخالفا لما هو قطعي، واجب لما في ذلك من المصلحة بإيصال الحقوق إلى أصحابها، ولما فيه من دفع مفسدة الجور في الأحـكام، مع ما يترتب على ذلك من مفسدة بقاء الحق في غـير يد أصحابه. وهذا يسقط هيبة القضاء من نفوس الناس،
[ ص: 142 ] فلا يأمن معه أن يسعى كل طرف إلى أن يحصل حقه بنفسه، فنعود القهقرى إلى قانون الجاهلية. ولكان من ذلك أن يصبح الناس فوضى ويرجعون إلى الهمجية الأولى، يقتصون لأنفسهم، تلك الهمجية التي كان من جهد الشريعة إبعاد الناس عنها
>[8] .
قال الشاعر الحماسي:
فلسنا كمن كنتم تصيبون سلة فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا [الطويل] ولكن حكم السيف فينا مسلط
فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
وأما إذا كان الذي قضـى به خطأ فيما اختلف فيه، فإنه في هذه الحالة لا ينقضه ويمضيه، لما في ذلك من المصلحة في نفوذ الأحكام وثبوتها، ولما فيه من المفسدة لو لم ينفذ.
والأصل في ذلك ما رواه البيهقي
>[9] وغـيره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المشركة
>[10] أن الثلث بين الإخوة للأم والإخوة الأشقاء. فقال له
[ ص: 143 ] رجل إنك لم تشرك بينهم فيما مضى. فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما نقضي
>[11] .
وتوضيـحا لهـذا قال مالك: إنما الذي لا يرجع فيما قضت به القضاة مما اختلف الناس فيه
>[12] .
وقال السرخسي
>[13] في "المبسوط": "فإن كان مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضى فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده، ويرى أنه أفضل، لأن القضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز إبطاله"
>[14] .
ما سبق بيانه فيما إذا كان القاضي هو الذي يتعقب حكم نفسه، والمقصد فيه واضح، ولكن هل يجوز لقاض أن يتعقب حكم من سبقه؟
الأصل فيه المنع لما في ذلك من توهـين منصب القضاء، ولأن الأصل في الأحـكام القضـائية أن تكون حـاسمـة لمـادة النـزاع، وأن تكون لها حجيتها وقوتـها. وعدم ثبات الأحكام يؤدي إلى مفسدة تجدد الخصومات وبقائها.
[ ص: 144 ]
ودرءا لمفسـدة تدخـل ولاة الأمور في نقض ما أنفـذه القـاضي من حق، وفي ذلك اعتداء على استقلالية القاضي. غير أنه لما كان هناك احتمال خطأ القاضي في حكمه ومجانبته الحق في اجتهاده، اقتضى الحال تعقب أحكامه.
ويبدو أن فقهاء المسـلمين عرفوا مبدأ استئناف الأحـكام
>[15] ، ولكنهم كانوا يسمونه بحق الدفع، أو مراجعة الأحكام. فيجوز عرض أحكام القضـاة على قضـاة آخرين، وذلك إذا وقـع خطأ في الأحكام أو تبين وجه فساد أحكامهم، فتعرض على غيرهم من القضاة للنظر في صحتها وفسادها
>[16] .
وعلى هذا فيجوز عرض حكم القاضي حتى ولو كان عادلا عالما على قاض آخر، ويستوي في ذلك أن يكون هذا العرض، إما بغرض طلب تنفيذ
[ ص: 145 ] الحـكم الصادر من القاضي الأول، وإما لوقوع خصـومة ثانية في الحكم، وإما لظهور جور القاضي الأول وحيفه في أحكامه كلها أو بعضها
>[17] .
ولعل أول سابقة استئنافية في القضاء الإسـلامي، تلك التي عرضت لعلي بن أبي طالب في اليمن. فقد قال للخصوم: أقضي بينكم، فإن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول الله ليقضي بينكم. فلما قضى بينهم أبوا أن يتراضوا، وأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم أيام الحج، وعرضوا عليه خصومتهم وكيف قضى علي فيها. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتهم أجاز قضاء علي. وقال:
( القضاء كما يقضي علي ) >[18] .
ومن قبيل استئناف الأحكام في التنظيم القضائي الإسلامي، ما جاء في "أخبار القضاة" لوكيع: أن القاضي عبيد الله بن الحسن قضى على عبد المجيد مولى بني قشـير في قضية، فتظـلم إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عامل البصرة أن يجمع له الفقهاء، لينظروا في قضيته، فإن كانت صوابا أمضاها، فنظروا فرأوها صوابا
>[19] .
[ ص: 146 ]
وجاء في كتاب "تاريخ قضاة الأندلس": وإذا تظلم المحكوم عليه من كتاب القـاضي الأول، وسأل الثاني أن يستأنف النظر فيه أو في بعضه، فليس له ذلك إلا بأمر بين
>[20] .
وجاء عن ابن فرحون قوله في "التبصرة": "ينبغي للإمام ولقاضي الجماعة تفقد أحوال القضاة وتصفح أقضيتهم، فما وافق الحق أمضاه وما خالفه فسخه"
>[21] .
هذا أساس جواز تعقب أحكام القضاة إجمالا، وأما تفصيلا فإن حكم القاضي لا يخرج عن احتمالين:
أحدهما: أن يخالف فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
والثاني: أن يخالف فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد.
فأما القسم الأول: فلا يجوز نقض الحكم فيه إطلاقا، لما في ذلك من مصلحة نفوذ الأحكام وثباتها. قال الماوردي: فإذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، كان حكم غيره من القضاة نافذا لا يتعقب بفسخ ولا نقض
>[22] .
وقد حـكم أبو بكر بالتسـوية بين المهـاجرين والأنصار في العطاء ولم يفضل بالسابقة. وفضل عمر بين المهاجرين والأنصـار بالسابقة وفرض
[ ص: 147 ] للعبيد. وسوى علي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار كفعل أبي بكر، وفرض للعبيد كفعل عمر. ولم ينقض بعضهم حكم بعض لنفوذه باجتهاد سائغ
>[23] . ولهـذا المعـنى قال ابن الشـاط
>[24] : "لا يصـير ذلك مذهبنا ولكنا لا ننقضه لمصلحة الأحكام"
>[25] .
وبهذا التقرير يظهر سر قول الفقهاء: إن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا ينقض، بل هو رافع للخلاف
>[26] ، وإن الحكم إذا أنفذ على مذهب لا ينقض ولا يرد، وذلك لمصلحة الأحكام ورفع التشاجر والخصام
>[27] .
[ ص: 148 ]
وأما القسم الثاني: وهو إذا ثبت جور القاضي، فإن حكمه يرد اتفاقا
>[28] ، لما فيه من رفع الظلم، وإرجاع الحق إلى أصحابه
>[29] .
وكذا إذا خالف دليلا قطعيا من نص أو إجماع أو قياس جلي
>[30] . ويتخرج على هذا: أن كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع، فمن حاد عن مدرك الصواب نقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لهـا من قاطع، فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهب، وهو في محل التحري ومساق الظن فلا نقض
>[31] .
قال الماوردي: وإذا خالف ما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وهو أن يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع نقض به حكم غيره
>[32] .
[ ص: 149 ]
وذكر بعضهم أن للقاضي فسخ حكم قاض قبله على من بينه وبينه عداوة أو بينه وبين ابنه عداوة، وإن كانت العداوة بين المحكوم عليه وبين الشهود والقاضي سالم من عداوته
>[33] .
والأصل في هذا، حديث: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله...
>[34] .
وفيه أن الباطل من القضايا مردود، وما خالف السنة الواضحة من ذلك فباطل. ومنها أن قبض ما قضي له به إذا كان خطأ وجورا وخلافا للسنة الثابتة، لا يدخله قبضه في ملكه ولا يصح ذلك له وعليه رده
>[35] .
وفيه رد ما قضي به من الجهالات لقوله صلى الله عليه وسلم :
( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) >[36] .
[ ص: 150 ]
بقيت مسألة ما إذا مات القاضي أو عزل، هل يستأنف القاضي الجديد القضية أم يواصل ما بدأ فيه القاضي الأول؟
الظاهر من كلام الفقهـاء أنه ليس له أن يستـأنف، وإنما يواصل النـظر كما كان ينظر المعـزول، لأن المقصـود بذل الجهـد في كشف ما لم يكشف
>[37] .
نخلص من كل ما سبق إلى تقرير أن مقصـود الشريعة من الأحكام يعود دائما إلى قاعـدة درء المفاسد وجلب المصالح. فأيهما ترجح كان الحكم بحسبه.