المطلب الثاني: ضمان الأحكام:
لما كان مقصود القضاء إيصال الحقوق إلى أصحابها، وكان مبدأ الرجوع في الأحكام مضمونا في التشريع الإسلامي، إلا أنه قد يقصر أحيانا عن تحقيق هذا المقصد، نزعت الشريعة الإسلامية تحقيقا للعدل والإنصاف إلى تمكين المقضي له من حقوقه باعتماد مبدأ الضمـان سـواء كان ذلك على القاضي أو على بيت المال.
وإذا كان الأصل في الشريعة الإسلامية أن القاضي له مطلق الحرية في إصدار الأحكام وفق الضوابط الشرعية، خاصة في العصر الإسلامي الأول، قبل استقرار المذاهب المعروفة اليوم، فكان القاضي يحكم بحسب ما يؤديه
[ ص: 151 ] إليه اجتهاده بعد بذل الوسع واستفراغ الجهد والتحري. فإن هذه الحرية الممنوحة لا تقيه ضمان الأحكام إذا ما ثبت تعديه.
والثابت بالاستقراء أن ضمان الأحكام، إما أن يكون في مال القاضي خاصة أو في بيت المال. وهذا إذا كانت القضية تقتضي الضمان المالي.
وأما إن كانت القضيـة جنائيـة، فـإما أن يقتـص من القـاضي أو تكون الدية في بيت المـال. وفي كل هـذا تفصيل المذاهب، والفقـهاء على أن القاضي إذا تعمد الجور وأقر بأنه حكم متعمدا بغير الحق لزمه الضمان في ماله
>[1] .
واستندوا في جواز مخاصمة القاضي في هذه الحالة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ) >[2] .
وفي "المعيـار" للونشريسي
>[3] : "إن القـاضي الجـائر المستغني ينتزع جميع ماله ليعود فقيرا كما كان ... ويسجن إذا عرف بالشر والسرقة"
>[4] .
[ ص: 152 ]
وأما بيان حكم الضمان وكيفيته، فقد ذهب الأحناف إلى أن قضاء القاضي وتعمده الجور يوجب الضمان في ماله ويعزر للجناية ويضمن الدية ويعزل عن القضاء
>[5] .
قال ابن عابدين: "وإن كان القضاء بالجور عن عمد وأقر به فالضمان في ماله في الوجوه كلها بالخيانة والإتلاف، ويعزر القاضي ويعزل عن القضاء"
>[6] .
وأما المالكية، فيبين موقفهـم ما جـاء في "تاريخ قضاة الأندلس": أن ما أتى القاضي من ظلم بين مشهور متعمد، فعليه القود في عمده، والعقل في خطئه. وكذلك ما تعمد من إتلاف مال بغير حق ولا شبهة، فذلك في ماله يأخذ به المظلوم
>[7] .
قال سحنون: إذا قضى القاضي على رجل بجور في الأموال، وكان الذي قضى له بالمال قد أكله واستهلكه ولم يوجد عنده، كان ما قضى به على الرجل على القاضي في ماله. وإذا أقر القـاضي على نفسه أنه جار في قضائه، إذا كان الذي قضى به قتل نفس أو قطع يد أو قصاص أو جـراح، فمـا أقر به أو ثبت عليه من غير إقرار أقيد منه
>[8] .
[ ص: 153 ]
وعند الشافعية أن القاضي إذا حـكم بشهـادة اثنين ثم بان كونهما ممن لا تقبل شهادتهما، وجب على القاضي نقض حكمه، فإن كان المشهود به قتلا أو قطعا أو حدا استوفي وتعذر التدارك، فضمانه على عاقلة القاضي على الأظهر، لتفريطه بترك البحث عن حال الشهود، ولا ضمان على المشهود له ولا على الشهود لأنهم ثابتون على شهادتهم
>[9] .
وذهب العـز بن عبد السـلام إلى أن القصـاص عـلى القـاضي إذا حكم بالقتل جائرا
>[10] .
وعند الحنابلة، إذا خالف القـاضي دليلا قـاطعا لا يحتمل التأويل ضمن ما تلف بسببه
>[11] .
فتعمد القاضي الجور في أحكامه يوجب عليه الضمان في ماله خاصة باتفاق العلماء، وإن كان المشهود به يوجب قصاصا أو حدا أنفذ، فالقصاص على القاضي عند الجمهور
>[12] .. وأما إذا قضى القاضي معتقدا للصواب ثم بان خطؤه، بأن ظهر أن الشهود كانوا عبيدا أو محدودين في
[ ص: 154 ] قذف، أنه لا يؤخذ بالضمـان، لأنه بالقضـاء لم يعمل لنفسه بل لغيره، فكان بمنـزلة الرسول، فلا تلحقه العهدة.
وعلى هذا يتخرج قول المالكية بعدم تضمين القضاة فيما أتلف بشهادة الشهود، لأن المصلحة العامة اقتضت عدم تضمينهم ما أخطأوا فيه، ولأن الضمان لو تطرق إليهم مع كثرة ما يعرض لهم من حكومات وما يتردد عليهم من الخصومات، لزهد الأخيار في الولايات واشتد امتناعهم، فيفسد حال الناس بعدم الحاكم، فكان الشاهد بالضمان أولى لأنه مدخل للحاكم في الإلزام والتنفيذ، وكما قيل الحاكم أسير الشاهد
>[13] .
فإذا كان ما قضى به حقا من حقوق العباد وكان مالا، وهو قائم على رده على المقضي عليه -لأن ما قضى به كان باطلا ورد عين المقضي به ممكن- فيلزمه رده لأنه عين مال المدعى عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم : "على اليد ما أخذت حتى تؤدي"
>[14] .
وإن كان هالكا فالضمان على المقضي له
>[15] ، لأن القاضي عمل له فكان خطؤه عليه، ليكون "الخراج بالضمان".
[ ص: 155 ]
وفي "الأشباه والنظائر": إذا أخطـأ القاضي كان خطؤه على المقضي له، وإن تعمـد كان عليه
>[16] . وعلى هذا فالقاضي لا يتحمـل أي ضمان إذا لم يجر في قضائه، وهو عـدل وإنما خطأ أخطأه أو غلط غلطه، وهذا قول سحنون
>[17] .
وذهب ابن حبيب إلى أن خطأ القاضي في الأموال على الاجتهاد هدر
>[18] . وقيل: إن خطأ القاضي يعود بالضمان على المحكوم له
>[19] . فالاجتهاد من القاضي يسقط عنه الضمان في الأموال مع عدم العمد، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) >[20] . فدل استحقاقه للأجر مع الخطأ، أنه غير ضامن للأموال وإلا لزم عنه التناقض.
وأما إن كان المقضي به حقا ليس بمال كالطلاق والعتاق بطل، لأنه تبين أن قضاءه كان باطلا، وأنه أمر شرعي يحتمل الرد فيرد، بخلاف الحدود والمال الهالك، لأنه لا يحتمل الرد بنفسه فيرد بالضمان
>[21] .
[ ص: 156 ]
وأما إن كان الحق خالصا لله عز وجل، فالضمان يقع في بيت المال، لأنه لم يعمل فيه لنفسه، وإنما عمل لعامة المسلمين لعود منفعته إليهم، وهو الزجر فكان خطؤه عليهم
>[22] .
من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أرسل إلى امرأة ذكرت عنده بسوء فأجهضت ما في بطنها، فشاور عمر الصحابة. فقال له بعضهم: لا شيء عليك إنما أنت مؤدب. وقال علي رضي الله عنه : عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك، يعني قريشا لأنهم عاقلة عمر
>[23] .
فدل هذا على أن بيت المال يتحمل الضمان على القاضي، لكون بيت المال للمصالح والحاكم من جملتها فيغرم منه.
ومما يبين تقرير الضمان في بيت المال أن أبا خازم القاضي
>[24] جلس في الشرقية
>[25] ، وهو قاضيها للحكم، فارتفع إليه خصمان فاجترأ أحدهما
[ ص: 157 ] بحضرته إلى ما يوجب التأديب، فأدب فمات في الحال، فكتب إلى المعتضد من المجلس، أنه أدب أحد الخصوم فمات، فإن كان يرى أمير المؤمنين أن المراد بتأديبه مصلحة المسلمين فديته واجبة في بيت مال المسلمين، فعاد الجواب إلى القاضي بحمل الدية إليه
>[26] .
فتقرر من كل هذا أن القاضي غير ضامن في الخطأ، ولكن حقوق المحكوم عليهم لا تذهب هدرا، وإنما يجب الضمان في بيت مال المسلمين، مراعاة لحصانة القاضي، لأنه قد يقع الخطأ منه لكثرة التصرفات والحكومات، وأيضا صيانة للحقوق من الضياع، وهذا من تمام العدل.
إلى ذلك فقد يمتنـع العـلماء من تولي القضاء إذا نحن أوجبنـا الضمان في أموالهم أو أنفسهم حـالة الخطأ، فتتعطـل الأحـكام والمصالح ويعم الفوضى والفساد.
وإن لم نوجب الضمان أصلا، فستتضرر مصالح الناس أيضا، لأن المحكوم عليه لا تعلق له بخطأ القاضي، وقد يجر هذا بعضهم إلى أن يأخذ حقه بنفسه، فتبطل أحكام القضاء جملة.
[ ص: 158 ]