علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

صفحة جزء
الفصل الثالث

علم الجمال الإسلامي

بين الهدي النبوي واجتهادات علماء الإسلام

المبحث الأول: الجمال في الهدي النبوي دعوة وتطبيقا

( إن الله جميل يحب الجمال ) >[1] ، بهذا الحديث الشريف يفتح الرسول صلى الله عليه وسلم أبوابا مشرعة أمام المسلم، لنشدان الجمال، وحب الجمال، والسعي لطلب الجمال، وإنتاج الجمال، وإشاعته بين الناس.

والملاحظ، إنه على الرغم من وضوح الحديث، ودلالته الواضحة على الوعي الجمالي الإسلامي المتميز، إلا أنه لـم يحظ بالعناية اللازمة، والدراسة الوافية، باعتباره مصدرا لتأصيل علم الجمال الإسلامي، ودليلا على حضوره في أصول التشريع ومصادره. [ ص: 107 ]

لذلك، إذا كان الله الجميل يحب الجمال، فمن الواجب على الإنسان، باعتبار عبوديته لله، أن يحب الجمال ويتصف به، ولهذا نجد في دواوين السنة النبوية المشرفة رصيدا مهما من الأحاديث، التي تشرح الحديث الذي بدأنا به هذا المبحث، تفصيلا لمدلولاته، أو تنبيها إلى ما به يكون الجمال ويتحقق في المظهر والمخبر.

ولعل أول مكان يجب أن يتجلى فيه الجمال، هو المسجد لكونه فضاء ماديا ومعنويا لصياغة الجمال الروحي للإنسان، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يذهب الرجل إلى المسجد في ثياب مهنته، وندب المسلم أن يتخذ ( ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته ) >[2] ، تحقيقا لقوله تعالى: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، وقد أخرج ابن ماجه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض ) >[3] ، وأخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( البسوا من ثيابكم [ ص: 108 ] البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ) >[4] ، وأخرج الترمذي وصححـه والنسـائي وابن ماجـه عن سمرة بن جنـدب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم ) >[5] ، وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة، رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) >[6] ، وأخرج أبو داود والبيهقي عن بريدة، رضي الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء" >[7] ، وأخرج الطـبراني والبيهقي في سننه عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صلى أحدكم، فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق أن يزين له، فإن لم يكن له ثوبان، فليأتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود ) >[8] . [ ص: 109 ]

"الزينة" و"الحسن" و"الطهارة" و"الطيب" >[9] و"البياض"، هذه هي المفاهيم التي تؤثث علاقة المسلم بالمسجد، وهي نفسها التي تـؤطر علاقته مع نفسه، لنرجع إلى صيغة أخرى لحديث: ( إن الله جميل يحب الجمال ) وهي صيغة أخرجها الإمام أحمد عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا، وشراك نعلي جـديدا، وذكر أشيـاء حتى ذكر عـلاقة سوطه، أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس )

قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن علي، رضي الله عنه: "وهذا محمول على أن من أحب ذلك لا لمجرد التجمل، فهذا لا بأس به" >[10] ، أما ابن رجب، رحمه الله، فيعلق قائلا: "لم يزل علماء السلف يلبسون [ ص: 110 ] الثياب الحسنـة، ولا يعدون ذلك كبرا" >[11] . حـتى لو بلغت قيمة اللباس ما بلغت من النفاسة كما قال ابن حجر، رحمه الله: "إن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله؛ لا يضره ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة" >[12] .

نقف في الحديث السابق عند تفاصيل مكتنزة بالدلالات، تخدم الغرض الذي نحن بصدده من تتبعنا للتجليات الجمالية في الحديث النبوي الشريف، فعلى الرغم من هيبة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهيبة من فيه، راح الصحابي الجليل، يعدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الجوانب الشخصية التي يحب أن يكون فيها جميلا، بدءا من ثوبه النظيف، ورأسه المدهون، وصولا إلى شراك نعله الجديد، ثم استطرد في: "ذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه" كما في الحديث. إنها جزئيات يصعب تصور مناقشتها في حضرة خاتم الأنبياء، وتفاصيل يظن أغلب الناس، خاصة مع هيمنة التصور التجزيئي للدين والتدين، أن مجرد إثارتها، استصغار لحرمة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحط من قيمة من فيه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، داعية الجمال والمبشر بدين الجمال، والمبلغ عن "الجميل"، يقطع هاته التخرصات، عندما يرفض اعتبار مطالب الصحابي الجليل الجمالية، من الكبر والخيلاء، ويقول له، في لـمسة كلها تحريض وتشويق: "ذاك الجمال". [ ص: 111 ]

لقد التقط علماء الإسلام من فقهاء ومفسرين هاته الإشارة، وصاروا يوشونها بتعليقاتهم التي تسلط مزيدا من الضوء على التربية الجمالية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارسها مع صحابته الأخيار >[13] ، قال ابن بطال، رحمه الله: "من أحب ذلك ليتعظم به من سواه من الناس ممن ليس له مثله؛ فاختال به عليهم واستكبر؛ فهو داخل في عدة المستكبرين في الأرض بغير الحق، ولحقته صفة أهله، وإن أحب ذلك سرورا لجودته وحسنه، غير مريد به الاختيال والتكبر؛ فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله تعالى بقوله: ( لا يريدون [ ص: 112 ] علوا في الأرض ولا فسادا ) >[14] ، وقـال ابن بطال، رحمـه الله: "في قول ابن عباس: إنه مباح للرجل اللباس من الحسن والجمال في جميع أموره إذا سلم قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس" >[15] ، لذلك روى البخاري، رحمه الله، في مطلع كتاب (اللباس) باب قول الله تعالى: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلوا واشربوا والبسوا وتصـدقوا في غير إسراف ولا مخيـلة ) >[16] ، وقـال ابن عباس، رضي الله عنهما: ( كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة ) >[17] ، كما رواه ابن ماجـه، رحمه الله، من طريق أبي بكر بن أبي شيبـة: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا همام عن قتادة عن [ ص: 113 ] عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله: ( كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة ) >[18] .

نعم للجمال، ومرحبا بتجلياته في المأكل والمشرب، لكن وفق ضوابط تمنع هاته المتعة من الانحراف عن مقاصدها النبيلة، لذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة والأمة أن يفرقوا بين معنى الجمال، وبين الإسراف والتكبر؛ فأمرهم بالتوازن في حب الجمال حتى لا يسرفوا ولا يختالوا؛ فيفقد الجمال معناه ويتحول إلى قبح ترفضه الذمم السليمة والفطر النقية العاشقة للجمال في نقائه وطهره، وهذا لايتحقق إلا بالانضباط للأمر النبوي الشريف، الذي ينهى عن الإسراف والمخيلة، الإسراف بـما هو مضر بالجمال المادي الظاهري، في البدن والـمال، والخيلاء لأنه يشوه جمال النفس ويخالف فطرتها، التي تتألق كلما التزمت التواضع وتسربلت بقيم النبل والعفة والوفاء، يقول الموفق عبد اللطيف البغدادي: "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة؛ فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس" >[19] . [ ص: 114 ]

- إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجمالية التي كشفنا عن بعض ملامحها في الصفحات السابقة، لا تقف عن هذا الحد >[20] ، بل تنطلق منه وتؤسس عليه لتهيئ النفس البشرية لاعتبار الجمال نعمة خاصة، توجيها وتنبيها >[21] وتصويبا >[22] ، أو مباركة وتشجيعا >[23] أو حفزا وتحبيبا؛ إنها منحة من الله لعباده المتقين، الذين يرون أن من الأبواب المهمة للدخول على الله تعالى، [ ص: 115 ] التجمل إظهارا لنعمه عليهم، وحبا في الله الذي يحب عباده المتجملين. في هذا السياق أخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله مالا، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته ) >[24] .

وأخرج الترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" >[25] ، لذلك كان، عليه السلام، حريصا على إظهار ميزة الجمال الظاهر والباطن في وصفه للأنبياء، عليهم السلام، فيبين الجمال الباهر لإبراهيم الخليل عليه السلام، وأنه "أحسن الرجال" كما ورد في حديث المعراج: "فإذا أنا بإبراهيم خليل الرحمن مسندا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال" >[26] ، ويذكر صلى الله عليه وسلم جمـال موسى، عليه السـلام، ومحـاسن حيائه [ ص: 116 ] وعفافه؛ فقد روى البخاري ومسلم، رحمهما الله، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه ) >[27] ؛ وقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث الإسراء: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف، عليه السلام، في السماء الثالثة، قال: ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم إذا هو قد أعطي شطر الحسن >[28] فرحب ودعا لي بخير ) >[29] ؛ وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي [ ص: 117 ] وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني: ( فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل على الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) >[30] .

لقد فطر الإنسان على استلهام النماذج التطبيقية، واعتمادها قدوة للتأسي والاتباع، ونعتقد أن الوعي و الذوق الجماليين، لا يخرجان عن هذا الإطار، لذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء النموذج لصحابته، يشهد لذلك ما أخرجه ابن سعد عن جندب بن مكيث قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عليه أصحابه بذلك" >[31] ، وما أخرجه الإمام أحمد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم ولباسكم حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة >[32] فإن الله عز وجل لا يحب الفحش ولا التفحش ) >[33] .

وإذا كان المؤمنون شامة وسط الناس في الدنيا، فإنهم سيكونون كذلك في الآخرة، لذلك يستفز الرسول صلى الله عليه وسلم حسهم الجمالي قائلا: ( أنتم الغر [ ص: 118 ] المحجلون ) >[34] يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله" >[35] ، فهذه هي: "سيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يردون على المصطـفى صلى الله عليه وسلم ، وهي سيم ( ليست لأحد من الأمم ) >[36] ، بها يعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دجنة الفضاء. هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبدا!" >[37] ، وكيف يذبل وهو وسيلة التواصل والتعارف يوم القيامة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: "أرأيت لو دخلت صبرة (محجرا) فيها خيل دهم بهم، وفيها فرس أغر محجل، أما كنت تعرفه منها؟" قالوا: بلى. قال: "فإن أمتي يومئذ غر من السجود، محجلون من الوضوء! ) >[38] . [ ص: 119 ]

لذلك كان طبيعيا أمام هذا التشويق، أن يسارع الصحابة لتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجمل وأخذ الزينة، خاصة في المحافل والمنتديات وعند مقابلة الغير، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "وجهني على بن أبي طالب إلى أبي الكواء وأصحابه وعلي قميص رقيب وحلة ، فقالوا لي : أنت ابن عباس وتلبـس مثل هذه الثياب؟! فقلت: أول ما أخاصمكم به قال الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:32) و ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، وكان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة"، كما أخرج أبو داود عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما خرجت الحـرورية أتيت عليا، فقال: ائت هؤلاء القوم، فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، فأتيتهم، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟! قال: ما تعيبـون علي؟ لقد رأيت على رسـول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل" >[39] .

ومن عجيب الوصايا التي يجمل إيرادها في هذا الباب، ما روي عن قتادة قال: أخبرني محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، رحمه الله، [ ص: 120 ] قال: "كان ثابت بن قيس رجلا جهير الصوت، يحب الجمال والشرف، وكان قومـه قـد عرفوه بذلك. فلما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) ، انصرف ثابت بن قيس بن شماس، رحمه الله، من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينتحب؛ فدخل بيته وأغلق عليه وطفق يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه بشير بن سعد، رحمه الله، فأخبره خبره. فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره، فقال: أنزل الله تعالى عليك: ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) وأنا أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لست منهم. إنك تعيش بخير، وتموت بخير وتدخل الجنة. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته، وسر بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم " >[40] .

نقف لنلتقـط الإشـارات الجمالية المضيئة من الأحاديث السابقة، ومنها التنصيص على ضرورة انتقاء الثوب الحسن وإصلاحه، وتخير الراحلة الجيدة وانتخابها، ومنها محبة الجمال والرغبة في السيادة على الناس، وحرص المرء على التميز وسط أقرانه بأن يكون أغر محجلا، يشار إليه بالفرادة كأنه شامة بينهم:


لا تحسبوا شامة في خده طبعت على صحيفة خد راق منظره     وإنما خده الصافي تخال بـه
سواد عينيك خالا حين تنظره

>[41] [ ص: 121 ]

لكن أجمل الإشارات التي يخرج بها الباحث من الأحاديث السابقة المؤسسة للجمال الإسلامي، والتي لابد من التنبيه إليها هنا، هي أولا حرص الصحابة، رضوان الله عليهم، على تأصيل سلوكاتهم الجمالية، بإرجاعها مرة إلى أصلها القرآني، كما فعل ابن عباس، رضي الله عنهما، عندما خاصم المعترضين عليه بقوله تعالى: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:32) وحـاجـهم بقوله سبحانه: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، أو كما فعل، رضي الله عنه، مرة أخرى عندما سوغ تصرفاته تلك بالإحالة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلية، قائلا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة" ومستنكرا على خصومه بقوله: "أتعيبـون عـلي؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل" >[42] .

ثاني هذه الإشارات، هي غرابة الربط بين خشونة المركب والملبس وبين الفحش والتفحش، غرابة تتقوى أكثر عندما نطلع على الروايات الأخرى لحديث: ( إن الله جميل يحب الجمال ) وما فيها من زيادات، كما في الرواية التي أخرجها البيهقي عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته [ ص: 122 ] على عبده ) >[43] وأضاف: "ويبغض البؤس والتباؤس" >[44] ، وفي رواية أخرى للطبراني وابن عساكر، رضي الله عنهما، بزيادة: "ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" >[45] .

إن التأمل الهادئ في الإشارتين الجماليتين الأخيرتين، يهدينا إلى الإقرار بأن المواقف والسلوكات الجمالية المعبر عنها أعلاه، هي أعمال عبادية تجمل رؤية الإسلام المعرفية للجمال، أعمال يتماهى فيها الظاهر بالباطن، والمادي بالمعنوي، وتجلياتها ذات بعد جمالي واضح، في الشكل والمضمون، في المبنى والمعنى، في الرسم والوجدان.

[ ص: 123 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية