المعلم الخامس: الجمـال في الإسلام شأن حياتي ويومي، لا يمكن تصور وجود حقيقي للحياة بدونه:
يتوجه هذا المعلم لتوضيح الجانب التربوي الذي يجب أن ينتبه إليه علماء الجمال المسلمين، انطلاقا من اعترافهم بحاجة المسلم الضرورية للجمال تعبيرا وذوقا وممارسة، وتعليمه أن الجمال وتذوقه نعمة في الدنيا والآخرة، تستحق شكر الله والثناء عليه.
فقد رأينا في مباحث سابقة كيف أن النص القرآني الكريم يقرن الظواهر الجمالية كلها بضرورة شكر مسبغها وباريها, كما أن نصوص الحديث الشريف بينت أن المسلم مطالب بإظهار نعم الله عليه بالزينة الظاهرة والباطنة، وعدت ذلك من شكر الله ومحبته.
إذا كان الأمر كذلك، فعلى المسلم أن يعلم أن إدراك الجمال يتجاوز الحدود الحسية والمادية، إلى آفاق أرحب مدى وأوسع أفقا، فالجمال موجود
[ ص: 157 ] في الطبيعة والنفس، في المبادئ والقيم، في التصورات والمواقف، في شبكة علاقات المسلم مع ربه عبادة وابتهالا، ومع نفسه تفكرا واستبصارا، ومع الكون عمارة واستخلافا، ومع (الغير) تعارفا وتعاونا. إن هذا التنوع يقتضي توسيع مجالات إدراك الجمال واكتشافه وتذوقه، بدءا بالتجليات المدركة بالحواس، مرورا بتلك المدركة بالعقل والمنطق، ثم بالخاطر والوجدان، وأخيرا ما لا يوصل إليه إلا بالبصيرة الخفية التي يصفها التعبير القرآني بقوله:
( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (الحج:46)، وهذا يتطلب دربة دائمة، ورعاية متواصلة، وتكوينا مستمرا لتنمية الذوق الجمالي للمسلم ومراكمة خبراته الجمالية في مختلف الفروع والـمجالات.
الأمر يقتضي إذن، تربية جمالية موجهة وقاصدة، تهدف إلى تشكيل السلوك الجمالي للمسلم، وتحيينه ليتجلى في إبداعه اليومي، ركوعا وسجودا، دعاء وابتهالا، صياما وتهجدا، كتابة وتأليفا، رسما ونقشا، بناء ومعمارا: "ويـمتد الجمال في الإنسان المؤمن؛ فإذا مصدر الجمال فيه إيمانه، فتراه في جمال الفطرة التي فطره الله عليها، ثم في نفس الإنسان المؤمن وخلقه، ثم في عمله، ثم في كلمته وبيانه: صبر جميل، صفح جميل، سراح جميل، هجر جميل، وغير ذلك. هكذا يمتد الجمال في تصور المؤمن حتى إنه يعيش الجمال الحق في أمره كله، على قدر إيمانه واتصاله بالكون وخالق الكون رب العالـمين، يعيشه حياته كلها، ويـمتد الجمال إلى الكلمة
[ ص: 158 ] والبيان، ليكون الأدب في الإسلام هو الأدب الملتزم التزام صدق ويقين، والتزام لغة ودين، والتزام شكل ومضمون"
>[1] .
هل يـمكن إذن أن نتحدث في هذا السياق عن ميثاق جمالي يؤطر حياة المسلم ويضبطها؟ وما هي حدود التجمل ومحاذيره؟ وما هو المطلوب شرعا من المسلم بعد الطهارة والنظافة؟ وما هي الـمـجالات التي يجب أن تعطاها الأولوية في التربية الجمالية للمسلم؟
إن الحديث عن ميثاق جمالي، يأخذ مشروعيته من تعاليم الإسلام التي تحض المسلم على أخذ الزينة في كل تفاصيل حياته اليومية، بدءا من التطهر للصلاة والاهتمام بجمال المظهر والمـلبس والمسكن والمركب، مرورا بجماليات التواصل والتخاطب، والتوجيهات الـمرتبطة بالمبالغة في التزين في العلاقات الزوجية، وهي علاقة يحيطها الإسلام بهالة من التوصيات الجمـالية التـي لا تغفل تفاصيل الكلمة الجميلة، والنظرة الحانية، واللمسة الرقيقة، وانتهاء بالآداب المختلفة لقضاء الحاجة والسواك والتطيب وانتقاء الجميل من الثياب.
من الناس من يظن أن التقرب إلى الله لا يتحقق إلا بإهمال المظهر، وخشونة الثياب، ويفهم حديث
( البذاذة من الإيمان ) >[2] على شـاكلته فيزهد ويتدروش. ومن الدعـاة المتشـددين من يرغب أن تلبس المـرأة
[ ص: 159 ] مسـوحا من الجـلد أو من مـادة صـلبة كما كان يلبـس الرهبان، ومن الناس من يقـرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن الله جميل يحب الجمال ) فيستبيـح من التجمل ما يتجاوز به الحد والذوق، متجـاهلا أن المظـهر السـني هو ما كان بين الخشـونة والرفاهـة، توسط جميل بين رذيلتين.
هذا التوسط الجميل، هو مطلب الإسلام وتوجيهه الدائم للمسلم في سلوكاته الجمالية مظهرا ومخبرا، ظاهرا وباطنا، وهو الذي يـمكن المسلم من ترسيخ الحسن والجمال باعتباره قيمة كبرى في تكوينه وبنائه معرفيا وسلوكيا وذوقيا، وهذا لن يتحقق إلا بتربية جمالية ترسم له مسارات البناء، وتوضح له الصور والمعالـم، على هدى من جمال القرآن، وبصيرة من ضياء الهدي النبوي الراشد.