2- الديمقراطية... أسس وشروط:
لئن كان المستوى اللغوي في تحديد المفهوم لا يفي بالغرض، فإن بن نبي يضع أمامنا مستوى آخر يراه كفيلا بإثراء النقاش وجعل المقارنة بين (الديمقراطية) و (الإسلام) أمرا ممكنا.
هذا المستوى - كما أشرنا من قبل - يتمثل في تجاوز التحديد اللغوي وعدم جعل المصطلح الثاني مقياسا للأول، وإنما علينا أن نتعامل مع كل مصطلح بشكل مجرد، في إطاره العام دون تحديد مسبق، يقول: "ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقا بأي موضوع آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها، أي في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق" (ص137).
فهذا الإجراء يعزز من موضوعية الباحث ويمكنه من الوصول إلى حقيقة (المفهوم)، دون أن يقف التحديد اللغوي المرتبط بزمان النشأة ومكانها، حائلا بينه وبين مبتغاه، ودون أن يجعله التحديد المسبق يقفز على الحقيقة إما بالرفض وإما بالتأويل وإما بالتلفيق، وهي آليات المنظومات [ ص: 58 ] الفكرية المغلقة التي لا تكاد تفتح في بنيانها نافذة لشعاع آخر يأتيها من الخارج، وأنى لها ذلك وهي على يقين من أن ما عداها ظلام في ظلام!!
وبناء على ذلك، فالديمقراطية لا يمكن اختصارها في عبارة (سلطة الشعب/الإنسان)، وإنما ينظر إلى جوهرها الذي يتحدد من خلال ثلاثة وجوه، هي:
1- الديمقراطية كشعور نحو (الأنا).
2- الديمقراطية كشعور نحو (الآخرين).
3- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.
"فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية (الذاتية) و (الموضوعية)، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقـراطي، والعـدة التي يستند عليها النظـام الديمقراطي في المجتمع... فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد" (ص137).
فبن نبي هنا يضع يده على موطن الخلل في المحاولات التي عرفها العالم العربي والإسلامي لبناء الديمقراطية، إذ هو خلل (معرفي) يكمن أساسا في التحديد الأولي لمفهوم الديمقراطية.
فنحن حينما تعاملنا معها من منطلق أنها (حكم الشعب)، لم نتجاوز هذا المستوى لطرح السؤال عن مفهوم (الحكم) ومفهوم (الشعب)، وعن [ ص: 59 ] كيفية هذا (الحكم) الذي يمارسه (الشعب)، وإنما استسلمنا لبريق الشعارات غافلين عن الأسس الحقيقية لتجسيدها على أرض الواقع، وكأنما رفعنا تلكم الشعارات لنلهو بها كما يلهو الأطفال وهو يقـلدون الكبار في لعبة الحياة، ثم ينصرفون عن لهوهم إلى لهو آخر!
فالديمقراطية -كما يرى بن نبي- تنطلق من الذات شعورا، كما تتفاعل مع الآخرين شعورا أيضا، ولا يكتفى فيها بذلك حتى نلحق ذلك الشعور بضمانات اجتماعية وسياسية تعززه وتنميه في ذات الفرد.
ولكي تتحول الديمقراطية أيضا إلى واقع سياسي، يجب أن تتوفر شروط (ذاتية) وأخرى (موضوعية)، ولنا أن نسأل عن ذلك الشعور وعن تلكم الشروط، فنجد الجواب عند بن نبي كما يلي:
- الديمقراطية شعور قبل أن تكون ممارسة، بل لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطية -كواقع سياسي- إن لم تسبق بشعور ديمقراطي يتحرك في كيان الفرد ويمازج أفكاره "وهذا الشـعور بالديمقراطية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين.
فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان" (ص137-138). [ ص: 60 ]
هذا النص يوصلنا إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: أن الشعور الديمقراطي يكتسب عبر حركة في واقع الحياة، والحركة تقتضي بذل الجهد لإحداث التغيير، ومن ثمة لا يمكن أن نتصور وجود هذا الشعور في الفرد مصادفة، أو بمقتضى التغير غير الواعي للظروف، كأن يكون الإنسان في مرحلة تاريخية (كالاستعمار مثلا)، ثم يدخل مرحلة تاريخية أخرى (كالاستقلال).
فالمسألة ليست تغيرا آليا، وإنما هي نتيجة عمل دؤوب وواع، قد يمتد قرونا عديـدة، يبدأ فيها هـذا الشعور صغيرا ثم ينمو إلى أن يصل إلى مرحلة الاكتمال، فيخرج للواقع إنسانا جديدا قادرا على بناء الديمقراطية كواقع سياسي.
وهذه الحقيقة يدلل عليها بن نبي من خلال استحضار النموذج الغربي، فهو يرى أن الديمقراطية الغربية لا تفهم حقيقة إلا إذا عدنا إلى أصولها الأولى، ووقفنا مع الشعور الديمقراطي في بداياته البسيطة، قبل أن نقف مبهورين مع ما أنجزته هذه التجربة في الواقع السياسي والاجتماعي للإنسان الغربي... فالمرحلة الممتدة من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى قيام الثورة الفرنسية، كلها كانت مرحلة تخلق ونشوء لذلك الشعور الديمقراطي لدى الإنسان الغربي.
فتصفح تاريخ تلك الرحلة - كما يقول بن نبي - "يبين كم كانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي [ ص: 61 ] ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن، ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية" (ص138).
وهذا الشعور لم يأت ثمرة مصادفة غير واعية، وإنما "كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة، فهذا هو معناه التاريخي الصحيح" (ص139).
فإذا تجـاوزنا التجـربة الغربية وما تحمله من خصوصيات، وجدنا مالك بن نبي يعطي لفكرته تلك، صيغة القانون، (وهو أن كل شعور ديمقراطي إنما نتج عن عمل اجتماعي واع، وحركة تنقل الإنسان من وضع إلى آخر، فتعيد تقييمه وتهيئته لإنتاج واقعه الجديد).
يقول: "القانون العام بالنسبة لطبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر، هو أن هذا الشعور نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحد الوسط بين طرفين كل منهما يمثل نقيضا بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد من ناحية أخرى" (ص139).
وسنعود لاحقا لبسـط هذه الفكرة المتعلقة بتقييم الإنسان وعلاقته بالبناء الديمقراطي. [ ص: 62 ]
الثانية: أن أساس الشعور الديمقراطي، الذي يأتي -كما بينا- عن طريق حركة واعية، يتمثل في تقييم مزدوج للذات وللآخر.
- تقييم للذات ينتفي معه الشعور بـ (العبودية).
- تقييم للآخر ينتفي معه الشعور بـ (الاستعباد).
فنحن نرى في النهاية أن جوهر الديمقراطية هو الإنسان في تفاعله مع ذاته ومع الآخر، وما القوانين والدساتير إلا ضمانات تدعم البناء الديمقراطي ولا تنشئه، وهذا ما سنوضحه أكثر في العنصر الموالي.
التالي
السابق