- عالم الفوضى والتوازن مع التخلف:
الحضارة الغربية هي الحضارة المسيطرة... هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا تجاهل آثارها، خصوصا منذ أن دأبت السياسات الغربية على ربط (القوة) بالثقافة، مما أنتج هذا الشكل الأخير من العولمة، التي يراد من خلالها تنميط العالم وفقا للقيم الغربية أو الأمريكية على وجه الدقة.
وأخطر ما يهدد العالم اليوم من هذه العولمة، أن (النظام) بدأ يختفي ليترك مكانه لـ(الفوضى)... وهي فوضى نبه إليها مفكرون غربيون وغير غربيين على حد سواء، فصاحبا كتاب (فخ العولمة) ، يستهلان الفصل الثاني من كتابهـما، باقتباس من مسرحية لـ (تشيكوف)، فيها هذه العبارة "...أما الآن فقد صارت الفوضى تعم كل شيء ولم يعد المرء يفهم نفسه"
>[1] ، وهي الفوضى ذاتها التي جعلت غارودي يسأل (هل للعالم روح،
[ ص: 165 ] أي هل له وحدة ومعنى؟) ثم يكتب محللا سؤاله هذا فيقول: "نحن نعيش في عالم منشطر، بين الشمال والجنوب، وفي الشمال كما في الجنوب بين الذين يملكون والذين لا يملكون، إن ثمانين بالمائة من الموارد في كوكبنا يشرف عليها ويستهلكها 20% من سكانه"
>[2] ... والأمثلة أكثر من أن تحصر في هذا المجال، وهي كلها تشكل إشارات إنذار أطلقها مفكرو الغرب وفلاسفته بعدما شاهدوا وعاينوا المآلات التي قادتهم إليها فلسفتهم المادية، التي جعلت من القوة قاعدة لها في التعامل مع الإنسان والوجود ككل، وفي هذا السياق يندرج الحديث عن مفهوم تشييئ الإنسان وتسليعه، والحديث عن الإنسان ذي البعد الواحد، والحياة الخاوية من المعنى والغاية، وفلسفة النهايات ...
>[3] .
فإذا كان هذا هو حال الإنسان الغربي، وهو - بشكل أو بآخر من صناع العولمة - فكيف سيكون حال الإنسان المسلم؟
أشار الأستاذ بن نبي إلى المأزق الذي وقع فيه الإنسان المسلم، حين انبهر في البداية بالنظام الغربي، فإذا به يجد نفسه أمام (فوضى) ذلك النظام،
[ ص: 166 ] فبعد أن كان رواد العالم الإسلامي ونخبه المثقفة تبحث عن حل وسط بين عصر ما بعد الموحدين ونظام الغرب، اكتشفوا أنهم يقفون الآن بين مجالين من الفوضى.
يقول بن نبي -في منتصف القرن الماضي-: "يبدو أن رجال الإصلاح في كثير من المجالات يبحثون عن حل ثالث أكثر توافقا مع فكرة الإسلام ومع ضرورات العصر، بيد أن هذا البحث في ذاته يطفح بألوان التردد والمعاناة، ولا شك أن اضطراب أقطـاب الفكر المسلمين يحدث وقفة في تطور الأفـكار، إذ ليس في وسـع المجتمع الإسـلامي أن يعود إلى الوراء إلى مرحلة ما بعد الموحدين، أو أن يطفر إلى الأمام طفرة عمياء في حركته (نحو الغرب).
وهكذا تشعرنا حالة العالم الإسلامي بأنه يقف في منطقة (حرام) في التاريخ، ما بين فوضى ما بعد الموحدين والنظام الغربي.
بيد أن هذا النظام لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية غلابة، ظفر بها في عهد مصطفى كمال وإقبال، فالعالم الغربي الآن قد أصبح حافلا بمشاهد أخرى من الفوضى، لا يجد فيه المفكر الإسلامي الباحث عن (النظام) نموذجا يحتذيه، ومنبع إلهام خارجي يهدي مساره التقدمي، حتى لقد أوشك أن يرجع إلى قيمه الخاصة" (ص121-122).
إذا فمأزقنا اليوم ونحن نواجه عالم (العولمة) أخطر وأكبر؛ لأن منظري الغرب يريدون أن يجعلوا من (مشاهد الفوضى) نظاما سائدا، يقضي على
[ ص: 167 ] كل الأنظمة المخالفة، وكما ألمحنا من قبل، فسادة العولمة يحاولون أن يبحثوا لها عن سند فلسفي يبرر هيمنتها وتفوقها، وقد وجدوا ذلك بالفعل إن من خلال نظرية (نهاية التاريخ) أو من خلال نقيضها (صدام الحضارات)... فالمحصلة في الحالتين واحدة، هي سيادة (القيم الغربية) وهيمنتها، مهما بدت لا إنسانية بمنظور المخالف لها، في جوهرها ونتائجها.
والنظرة المستشرفة لبن نبي، جعـلته يدرك المآل الذي وصلنا إليه اليوم في علاقتنا بالغرب، من حيث تأثرنا بمشـكلاته وأزماته، فليس الأمر راجعا إلى ولعنا كمغلوبين في تقليد الغالب فحسب، وإنما الأمر يرجع أيضا إلى قدرة الغرب على جعل ثقافته ذات إشعاع عالمي، وقيمه ذات مظهر إنساني، فإذا أضفنا إلى هذا كله سطوته الإعلامية وتحكمه في صناعة المعلومات وترويجها، أدركنا لماذا تصبح مشكلات الغرب وأزماته شاغلا يشغل عقولنا المفكرة، وقد يذهب بها بعيدا إلى حد الانفصال عن هموم مجتمعاتها، يقـول بن نبي - متحدثا عن غرب النصف الأول من القرن الماضي-: "ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية" (ص123).
ومجتمع ما بعد الموحدين، كما لاحظ بن نبي، أضاف إلى حيرته أمام (فوضى) الغرب، ظاهرة أخرى لا تقل خطورة، من حيث كونها عائقا فعالا أمام كل مشروع إصلاحي وتجـديدي، وهي ظاهرة التوازن في فضاء التخلف.
[ ص: 168 ]
وهي ظاهرة تضاف إلى جملة المظاهر المرضية لإنسان ومجتمع ما بعد الموحدين، حيث إن المجتمع كان (متوازنا)، ولم يكن توازنه في الحقيقة سوى تناغم مع تخلفه وعدم وعيه بأزمته... ولهذا عندما جاء الأفغاني فجر ذلك التوازن وألقى في الواقع الساكن بذور القلق التي كان يفترض أن تتحول إلى وعي بالتغيير، بيد أن هذه البذور فقدت فعاليتها حال انحراف الحركة الإصلاحية عن الهدف، فعاد التوازن في فضاء التخلف من جديد (ص111).
ونعود لنسأل مرة أخرى: ما الذي علينا فعله ونحن نعيش بين سطوة (الفوضـى) تحـت شعـار العولمـة من جهة، وسلبـية التوازن مع التخلف من جهة ثانية؟
هل لدى بن نبي ما يفتح أمام المسلم المعاصر آفاقا نحو الأفضل، أم أن النهاية - بعد رحلة التشـخيص - لن تكون سوى الاستسلام للضياع كقدر حتمي، إذ لا شـيء يلوح في أفق المسلمين كي يعيدهم إلى التاريخ مرة أخرى؟
ها هنا أجدني مضطرا للانتقال مع الأستاذ بن نبي إلى النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن صاحبناه في رؤيته وتحليله لواقع النصف الأول من القرن ذاته... أقول: أنتقل معه إلى النصف الثاني من القرن الماضي، فنجده يفتح أمام المسـلم آفاقا نحـو المستقبل، ويطرح أفـكارا أخرى يستشرف بها القرن الواحد والعشرين، فيبعد عن المسلمين شبح اليأس ويذكرهم برسالتهم ودورهم في الوجود.
[ ص: 169 ]