تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي خلق الإنسان من طينة الأرض، التي استخلفه فيها، وهداه بالوحي لأبعاد مهمة الاستخلاف، وميزه بالعقل للقيام بأعباء الاستخلاف والعمران واكتساب الخبرات واكتشاف المعايش المركوزة في الأرض، وحسن تسخيرها، وتحقيق مقاصدها وكيفية التعامل معها، وفق السنن والآيات الدالة عليها في الأنفس والآفاق، ومنحه الحرية والاختيار في الفعل، ورتب عليه المسؤولية عن العمل، ليبقى باستصحاب هذه المسؤولية يقظا واعيا مدركا قاصدا لحقيقة ما يقدم عليه، يقول تعالى:
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61)، ويقول:
( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (يونس: 14)؛ ويقول:
( ... عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف: 129).
[ ص: 5 ]
ذلك أن محور مهمة الاستخلاف والبناء الحضاري هو الإنسان، الذي خلقه الله من مادة الأرض، التي يسكنها ويأنس بها ويكتشف كنوزها ويفقه معايشها ويستشعر المسؤولية عن العبث بها، فلقد جعله الله سبحانه وتعالى هو وسيلة الاستخلاف والبناء الحضاري وهدفها، في الوقت نفسه.
وبمقدار ما يدرك الإنسان مهمته في هذه الحياة ويستوعب الأمانة المنوطة به ويستشعر مسؤوليته عنها أمام خالق الحياة بمقدار ما يرتقي ويعمر ويسعد ويتحقق بالحياة الطيبة؛ وبمقدار ما يغفل ويعرض عن رسالته وعن استشعار أهمية الاضطلاع بمهمته ويتقاعـس عن أداء وظيفته فيعبث بمعايشـه بمقدار ما يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة، يقول تعالى:
( ... فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى *
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى *
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا *
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) (طه:123-126).
ولعل ذلك الاستخلاف، بكل أبعاده ومقاصده وتكاليفه، هو في المحصلة النهائية ميثاق البناء الحضاري، الذي عهد الله به لآدم، أبي البشر، عليه السلام، واستمر تكليفا في تاريخ النبوات، وتأكد في قيم الرسالة الخاتمة.. لقد كان سيدنا آدم، عليه السلام، المستخلف الأول ومحل الأنموذج الأول، الذي وضع البذور الأولى في تربة الحضارة ووعائها (الأرض)، وهكذا بدأت قصة الحضارة ومسيرتها، وانسلكت فيها الأمم، وتفاوتت في
[ ص: 6 ] إدراكها لمهمة الاستخلاف ومقاصدها، وتمايزت بقدرتها على المراوحة بين العزم على البناء والاسترخاء والنسيان للمهمة كحال باني الحضارة الأول سيدنا آدم، عليه السلام، الذي عهد الله إليه بالميثاق الحضاري، وابتلاه فقوي وضعف، يقول تعالى:
( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) (طه:115)، وبالقوة والضعف، والسقوط والنهوض، تدور عجلة الحضارة وتخضع لسنن التداول الحضاري.
والصلاة والسلام على المبعوث بالحنيفية السمحة، الذي كانت رسالته بناء حضارة عالمية إنسانية تحمل الرحمة للعالمين، وكانت نبوته جماعا لرحلة النبوة وتجربتها الحضارية التاريخية، من لدن آدم، عليه السلام، إنسان الحضارة ونبيها الأول-كما أسلفنا- إلى النبوة الخاتمة، التي أوضحت معالم طريق البناء الحضاري بما بينت من السنن والقوانين، التي تحكم الحياة والأحياء، سقـوطا ونهوضا، وبما قدمت من وسائل وأدوات معينة على التدبر والإدراك والاستدلال، وطلبت السير في الأرض والاعتبار بتاريخ الأمم والاهتداء بقصص الأنبياء مع أقوامهم، التي تكاد تكون استوعبت أصول النهوض وسبب الهلاك وعلل التدين المعدية، التي كانت سبب الانقراض، كما أشارت إشارات واضحة إلى تسرب حالات الوهن الحضاري، التي يمكن أن تلحق بأمة الرسـالة الخاتمـة إن لم تأخذ حذرها، وتبصر سنن الله في الأنفس والآفاق، وتتحقق بالتقوى، أو بالوقاية من السقوط أو الوهن الحضاري.
[ ص: 7 ]
لقد قدمت النبوة الخاتمة، وهي جماع النبوات -كما أشرنا- أنموذجا حضاريا، وإن شئت فقل: مختبرا حضاريا مر بكل ظروف الحياة ومتعرجاتها، من نصر وهزيمة، وقوة وضعف، ونهوض وسقوط، ودعوة ودولة، وكيف تعاملت معها من خلال عزمات البشر وسنن الله الجارية، لتكون أنموذج اقتداء ودليل عمل لكيفية التعامل مع الحياة بكل ابتلاءاتها، سواء في ذلك التعامل مع (الذات) أو (الآخر)، ولتؤكد أن الإنسان بثقافته هو الحضارة، وأن الإيمان (المحرض الحضاري) هو الانعتاق من الاستبداد والاستعباد، وإن شئت فقل: من الشرك بكل أثقاله؛ فالإيمان المحرر هو الوقود الحضاري، وهو أساس الحضارة وسبيل فاعليتها ومنجم التضحية في سبيلها على هداية الوحي وبصيرة العقل.
ويبقى سؤال الحضارة الكبير، الذي أشار إليه القرآن وهو يحكي قصة الحضارة الإنسانية بكل تطوراتها ومراحلها من التشكل والنهوض إلى التحلل والسقوط، ويقدمها لإنسان الرسالة الخاتمة منجما للاغتراف، ومخبرا لتأكيد اطراد سنن الله في الأنفس والآفاق، ومجالا للتأمل والادكار، وسبيلا للتفكر والاعتبار، لذلك يمكن القول:
إن قصة الحضارة الإنسانية وتاريخها، سقوطا ونهوضا، واضحة المراحل والمعالم في القرآن، لذلك دعا القرآن إلى الادكار، ودعا إلى التحقق بالاعتبار والبناء، من الشهود على التاريخ الحضاري إلى الشهادة على الناس، لذلك يدعو القرآن إلى التوغل في تاريخ النبوة وما لحق بها، وأهمية التدبر والادكار
[ ص: 8 ] في أحوال الأمم السابقة، وكيف أن نكولها عن معرفة الوحي كان إيذانا بالسقوط الحضاري:
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17)؟ وكأنه السؤال الخالد، الذي يتطلب الاستدعاء وإعادة الطرح في كل حين يتخلف النهوض ويشتد الغموض والاشتباه:
( فهل من مدكر ) ؟ لإبصار كيفية معاودة النهوض واكتشاف علة الحضارة على مستوى (الذات) و (الآخر).
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثالث والخمسون بعد المائة: "الرؤية الإسلامية والمسألة الحضارية.. دراسة مقارنة"، للأستاذ الدكتور عبدالله محمد الأمين النعيم، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولتها الدائبة لاسترداد فاعلية الأمة المسلمة، وبناء وعيها برسالتها، واستشعار مسؤوليتها تجاه الإنسانية، وتبصيرها بمقومات الإمكان الحضاري، للاضطلاع بمهمة الاستخلاف الإنساني، من امتلاكها القيم الهادية المرتكزة إلى الوحي الإلهي الخالد والخاتم والتي أوقفتها على خلاصة تجربة النبوات التاريخية وقصص الأنبياء مع أقوامهم وأسباب السقوط وعوامل النهوض الحضـاري وسنن الله التي لا تتبدل في التداول الحضاري:
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران :140).
[ ص: 9 ]
وامتلاكها الأنموذج التطبيقي، الذي تجلت فيه هذه القيم وأثبتت قدرتها على الاستجابة لكل المتغيرات والتعاطي مع كل الحالات الإنسانية،
وامتلاكها التجربة الحضارية التاريخية العالمية، التي شاركت فيها بفرص متكافئة كل الألوان والأجناس والأقوام والشعوب والمناطق الجغرافية، فجاءت حضارة إنسانية ساهم في بنائها الجميع، الأمر الذي بات يصعب معه تلوينها بلون أو حكرها على جنس أو قوم أو جغرافيا، ويكاد هذا أن يكون من البدهيات رغم المحاولات الكثيرة، التي تحاول أن تشوه صورتها وتقرأها بأبجديات خاطئة.
هذا إضافة إلى ما تمتـلك الأمة المسلمة اليوم من الرصيد البشري (البعد الديمغرافي)، والطاقات الروحية (العقيدة والعبادة التي تغذيها وتدرب عليها وتحرض الفاعلية وتجددها)، والخامات المادية (النفط والغاز، الذي تتوقف عليه حركة عجلة الحضارة)، والموقع الجغرافي، لذلك يبقى السؤال الكبير المطروح:
ما هي الإشكالية، التي تحول دون استرداد الدور الغائب؟ وأين موطن الخلل؟ وكيف يمكن للأمة أن تسترد دورها في الشهود الحضاري، وتقدم للناس رؤيتها الحضارية مقرونة بالنماذج العملية والتلازم بين الفكر والفعل كما أراد الله تعالى لها:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143)؟
[ ص: 10 ]
والحقائق، التي لا مهرب من الاعـتراف بـها هي أن الأمة المسلمة تمتلك النبوة الخاتمة، وتمتلك القيم الصحيحة الخالدة في الكتاب والسنة، وتمتلك تجسيدها في أنموذج الاقتداء، وتمتلك التجربة التاريخية الحضارية، وتمتلك الطاقات البشرية والروحية والخامات المادية -كما قدمنا- ومع ذلك تفتقد الأهلية والفاعلية والبصيرة، وتغيب عنها ملكة الفرقان، التي تمكنها من التفاعل مع هذه الحقائق، وتعاني من التخلف والتراجع الحضاري، على الرغم من كل الضجيج والعجيج والدعوات والادعاءات بالتميز والإنجاز، التي قد يوبخها الواقع في كثير من المواقع.
وقد تكون بعض وجوه الإشكالية أن الكثير من الجهود الفكرية والثقافية والحضارية لم تقع في الموقع المجدي، الموقع المنتج، لذلك استمر التخلف واستمرت المراوحة والتكرار في ذات المكان؛ ذلك أن معظم الجهود على مستوى (الذات) انصرفت - فيما نرى- للثناء والمديح والفخر بإنجازات السلف ودورهم الحضاري ورسالتهم الإنسانية وعطائهم الإنساني، والتوقف عند ذلك دون القدرة على تعدية الرؤية واستصحاب هذا الإنجاز والإفادة منه لحاضر الأمة ومستقبلها.
واستمرت هذه الحال من المديح والفخر وسيطرة ثقافة معالجة مركب عقدة النقـص حـتى كانت السبب عند كثير من بني جلدتنا، الذي أدى إلى فقدان الثقة بهذه القيم، التي يصب تميزها على رؤوسهم صباح مساء دون القدرة من القائمين على أمرها على تغيير الحال، التي يعانون منها،
[ ص: 11 ] لذلك بدأوا يتطلعون صوب (الآخر) لعلهم يجدون عنده الدواء لعلة التخلف، فيتقدمون كما تقدم، لكنهم مع شديد الأسف، انتهوا إلى صورة أشد ارتكاسا وتخلفا، إنهم باتوا يطلبون النهوض في إطار (الآخر) واعتناق قيمه، وقياس واقعهم على أصول ثقافية وحضارية غريبة عنهم؛ فأصبحوا أشد تخـلفا وضياعا، وبذلك عجزوا عن تنمية (الذات) فكانوا أدوات إضافية في تكريس التخلف، فلا استطاعوا النهوض من خلال قيمهم وتجربتهم الحضـارية التاريخية، ولا قـدروا على امتلاك أدوات النهوض عند (الآخر)؛ لأنـهم غير مؤهلين، بتخلفهم وأصولهم الحضارية، للتعامل معها بشكل سليم.
وفي الصورة المقابلة، نجد أن هذه الحالة، التي أفرزت كثيرا من حالات اليأس والإحباط وفقدان الثقة والارتماء على (الآخر) ونشـدان تقدمه كثيرا ما دفعت شرائح أخرى ممتلئة حماسا من داخل (الذات) إلى العيش في عالم خيالي افتراضي خارج فقه الوحي وفهم الواقع، الأمر الذي أدى بها إلى انفجارات عشوائية أول ما ألحقت الضرر بها وشوهت صورة الإسلام النقية عند كثير من أهله وعند (الآخر)، ولقد دفعها حماسها الزائد وتفكيرها المعوج وفقهها القاصر إلى إقامة إمارات مزعومة وموهومة تختزل الحضارة الإسلامية في موقف وتقوم بانتقاء الأحكام الشرعية، التي تروق لها، بفقه قليل وعقل كليل، وتعبث في تنـزيل الأحكام الفقهية على غير محالها،
[ ص: 12 ] والإساءة للناس وإكراههم باسم تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله، وكأن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم الإكراه والمجادلة بالتي هي أحسن ليست مما أنزل الله؟!
وبذلك، استباحت المحرمات باسم الضرورات التي صنعتها، ومارست الاعتداءات، وشوهت صورة الإسلام، وساهمت بصورة سلبية في محاصرته والتنفير منه وهي تحسب أنها تحسن صنعا، ظنا منها أن القوة هي الحل، أليس في تاريخها قولة الشاعر واصفا تحرير عمورية: أن (السيف أصدق إنباء من الكتب) ؟ دون أن تدرك أن:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني
وأن العنف في تاريخنا الطويل لم يحمل لنا خيرا وإنما كان سببا في تكريس التخلف، والتخويف من الإسلام، وتشويه صورته، الأمر الذي دفع الكثير من الناس إلى مغادرته، فبدل أن نهرب من واقعنا المأساوي ونفر إلى الله ونعتصم بالإسلام أصبحنا نهرب منه!
ولعلنا نقول: إن المزيد من الجهود الفكرية ببيان نقائص (الآخر)، والاستمرار في ذلك، والانغلاق على ذلك، دون القدرة على إبصار كيفية التعامل معه واكتشـاف الأدوات والآليات التي يمـكن أن نفيد منـها، وهو يتقـدم ونحن نراوح في مكاننا بتغـير الأيام والظروف ونزداد تخلفا
[ ص: 13 ] ولا نتغير، سوف لا يجدي كثيرا، حتى في حماية (الذات) والاعتزاز بها، فأين إمكانية ووسائل استرداد هذه (الذات) اليوم التي نقضي أعمارنا في امتداحها والدفاع عنها، ونكتفي بالفخر والتضخيم لمعالجة مركب النقص دون القدرة على تحديد موطن النقص وأسبابه؟ أين عطاؤها، وأين دورها وقدرتها الغائبة على هضم المعطيات الحضارية والإفادة منها؟
وكم يتمنى الإنسان أن نطرح على أنفسنا السؤال الكبير والمستمر، الذي يمكن أن يقودنا إلى اكتشاف مواطن الخلل ويوفر كثيرا من جهودنا ويضعها في المكان المجدي.
فإذا كانت الحضارة الغربية تحمل كل هذه المثالب - وهي تحمل الكثير منها- التي كنا وما نزال نبدي فيها ونعيد، وبذلك نكرر أنفسنا ظنا منا بأن ذلك يحمي ذاتنا الحضارية، وأن حضارتنا الإسلامية تمتاز بكل هذه المحاسن والخصائص المتميزة، وهي كذلك وأكثر، فلما تقدم أهل الحضارة الغربية حتى تكاد تسود العالم عمـليا وعلميا؟ ولماذا تخـلفنا حتى أصبحنا تاريخا من التـاريخ؟ كيف لحضـارة تحمل هذه المثالب كلها أن تتقدم بأهلها؟ وما هي السنن والقوانين التي كانت سببا في تقدمها؟ وكيف يمكن أن نبصرها، وما هي أسباب نهوضهم وعلل سقوطنا؟
لذلك لا مناص ولا مخرج لنا للتحول من حالة الندب على ماضينا الزاهر والاقتصار على الرجم لـ(الآخر) ونحن نعيش في جوف حضارته ومعطياتها، من تحليل العلل ودراسة أسباب التخلف والتراجع ومعالجة تلك الأسباب، بتوفير كل استحقاقات ذلك، من العلوم والمعارف والتخصصات
[ ص: 14 ] والتدريب والإفادة مما وصل إليه (الآخر)؛ أما أن نمضي أوقاتنا بمدح أنفسنا ولعن (الآخر) ويسلم كل جيل ذات الحالة الثقافية إلى الجيل الذي يليه فتلك المأسـاة الممتدة، وتلك المصيبة المستمرة، وتلك ثمرة أخطائنا التي تحيط بنا، ولما ندري كيف ننفك عنها؟
وطالما أننا نلقي بالتبعة على (الآخر) دون أن ندين أنفسنا فـ
( الكيس من دان نفسه )
وطالما أننا ننغمس بالتاريخ دون اعتبار واهتداء وقياس للأحوال والخلوص إلى اكتشاف الطريق الصحيح للنهوض، وذلك باستصحاب الماضي والاعتبار بدرسه:
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:2)، حتى نتمكن بتلك الدراسة وذلك الاستصحاب من عبور الماضي إلى المستقبل.
وطالما أننا ما نزال نبـذل جهودنا العلمية والفكرية كلها أو معظمها في تحقيق النص وإثباته ولا نفقه أو نبذل الشيء الكافي في كيفية إعماله في واقع الناس،
وطالما أننا نصر على الخطأ وتصنيم القيادات والتستر على الفشل والإبقاء على القيادات العاجزة، التي تسلمنا من هزيمة إلى هزيمة متعذرة باسم القدر، الذي لا يختار ويتوعد غيرنا من سائر البشر،
وطالما أن فقهنا هو الاقتصار على فقه النص، وتكرار ونقل ما اجتهده السابقون، حتى أننا لا نستطيع أن نأتي بمثال آخر، ونفتقر إلى القدرة على التقدم لفهم الواقع وتوفير تخصصات هذا الفهم،
[ ص: 15 ]
وطالما أن الفقهاء والطبقة المثقفة تسير خلف المجتمع، وتعجز عن الاستشعار المبكر وإبصـار العواقب والمآلات، والتعرف من المقدمات إلى ما يمكن أن يقع من نتائج، وتقدم الرؤية السليمة، وتضع الأوعية الشرعية لحركة الحياة والأمة، وتفاجأ بالنتائج وحركة الحياة كسائر العوام،
وطالما أن العامية الثقافية أو عمى الألوان يوهمنا أن كل من رفع شعار الإسلام وانتسب إليه وقدم الولاء لقياداته، مهما كان كسبه، يصلح لكل موقع وكل مقام وكل مقال، فلا توجد بارقة أمل في النهوض حتى نستبدل ويأتي قوم لا يكونوا أمثالنا.
فليس هذه الحال، التي نحن عليها هي فقه الإسلام وحضارته ولا تاريخ المسلمين ودورهم في الشهود الحضاري.
إن هذه الحال المحزنة التي نعاني منها هي التي تحملنا إلى رجم حضارة (الآخر) وتكرار الكلام عن مثـالبها؛ لأن الأمر لا يكلفنا شيئا، ولا يغير من واقعنا شيئا، ولا يمنحنا أفقا أو سبيلا للخروج من حالة التخلف والاستنقاع الحضاري والاسترخاء الثقافي.
والحضارة التي نجلدها ونكد الأذهان لبيان عيوبها كل يوم هي في تطور دائم وتجدد وإبداع مستمر وإنتاج وتقدم وارتقاء في شتى المجالات ومحاولات دائمة لتقديم قراءة جديدة للعالم، الذي تعمل فيه، ومن ورائها ترابط جيوش من الباحثين والدارسين والخبراء لكل قضية، حتى لنكاد نقول: إنهم أعلم بقضايانا منا؛ وكثيرا ما نستوردهم لحل مشكلاتنا.
[ ص: 16 ]
فالحضارة الغربية اليوم في تجديد دائم، فلكل مرحلة مصطلح وعنوان ودراسات واستشرافات مستقبلية، ولكل قضية وإشكالية مذاهب ومدارس ومؤلفات وفلسفات ورواد وأعلام، من الوجودية إلى الواقعية إلى الليبرالية إلى الحـداثة إلى ما بعد الحـداثة إلى انتصـار الرأسمالية ونهاية التاريخ، ونهاية الوجودية ونهـاية كذا... وهكذا بقية النهـايات، وغير ذلك كثير من النهايات ونهاية النهايات، فهي لا تتوقف عن إنتاج الأفـكار والأشياء، بل تحاول أن تمتص جميع الطاقات والخبرات والخيرات العالمية وتسخيرها لصالحها وبناء هيمنتها.
ونحن نراوح في الأرض المنخفضـة ومواقع التلقي لكل هذه الإفرازات، جيدها ورديئها، لم نقتصر على افتقاد المعيار للأخذ والرد والتفاعل الحضـاري والتبادل المعرفي فقط وإنما تحولنا لنصبح من أدوات تلك الحضارة وأشيائها.
نعيش هذه الحالة البائسـة في الوقت الذي نرى أهل الحضارة الغالبة بما أبدعوا ووفروا من أدوات ووسائل واختصاصات وأقاموا من مراكز بحوث وهيأوا مناخ الحرية التي ينمو فيها البحث ويتولد فيها الإبداع والابتكار، يقرأون اليوم كل الحضارات ليتعاملوا معها على فهم ودراية، ويفيدون من جوانب كثيرة فيها، يستصحبونـها ويتقوون بها بدون عنجهية أو كبر، وفي ذات الوقت يحاولون اختراقها وتوجيه مساراتها ورسم سياساتها لتحقيق مصالحهم.
[ ص: 17 ]
ونحن مازلنا دون سوية استيعاب حضارتنا، بله الحضارات الأخرى، وإجراء مقارنة صحيحة بينها وبين الحاضر، فما أسهل أن نقفز من فوق ذلك كله، الذي يشكل أبجدية النهوض من خلال (الذات) والذي يمكن من الإفادة من (الآخر)، نقفز للكلام عن مثالب ومفاسد الحضارات الأخرى، دون أن نكلف أنفسنا التحقق بعلمها لمعرفة ما نأخذ وما ندع منها.
وفي تقديرنا أن إنسانا عاجزا عن استيعاب حضارته ومقاربتها مع واقعه ومقارنتها مع الحضارات الأخرى هو أكثر عجزا عن استيعاب حضارة (الآخر) والإفادة منها والوقاية من إصاباتها.
لذلك نقول: لا الذي ينتصر عاطفيا لحضارتنا مستوعب لها، ولا الذي يخاصمها دون أن يقدر على توليد الرؤية الحضارية للتعامل على متغيرات الواقع مدرك لعطائها وإمكانية الإفادة منها لحاضرنا ومستقبلنا، وهذا حال من يخاصم الحضارات الأخرى أو يناصرها.
هذه المعادلة الحضارية الصعبة والمستعصية، كيف نفك رموزها ونحلل مكوناتها؟ كيف نصوبها أو على الأقل ننصرف إلى التفكير فيها، وإبصار اليسر، داخل العسر، ونرى سبيل الخروج من هذا النفق المظلم، فيصدق فينا قولـه تعـالى:
( إن مع العسر يسرا ) (الشرح:6)؟ هذه المعية بين العسر واليسر، التي تمثل إشكالية الابتلاء متى نكتشفها فنبصر الحل من خلال حسن إدارة الأزمة؟
[ ص: 18 ]
ولعل الإشكالية في بعض وجوهها التوهم، الذي شكل الذهنية الثقافية، وكان ذلك أحد إفرازات وإصابات التخلف، ألا شأن للمسلم بعمارة الدنيا، وأن من لوازم التعامل معها العزوف عن الآخرة!!
هذا الفهم المحزن يتنافى مع الكتاب والسنة، ويناقض حياة الصحابة وفقههم، وواقع الحضارة الإسلامية وإنجازاتها، ويؤدي إلى انطفاء الفاعلية، وإماتة القلق الحضاري، ويخرج الإنسان المسلم من حركة الحياة، وينتهي به إلى غرفة انتظار يوم القيامة، إلى حالة من الموت قبل الموت، ولا ندري كيف يعد ليوم القيامة إذا خرج من الدنيا وفعالياتها؟!
وأعتقـد أن فترات التألق والإنجاز في تاريخنا الحضـاري لم تنفصل فيها عمارة الدنيا والقيام بأعباء الاستخلاف الرباني، التي ناطها الله بالإنسان، عن التأهل بذلك للآخرة.
لقد كان الأمران متلازمين، فالقيم الدينية جاءت لإصلاح الدنيا وتعميرها والقيام بأعباء الاستخلاف؛ وتعمير الدنيا كان طريق التحقق بسعادة الآخرة؛ لذلك نقول: إن علل التخلف وإصاباته لحقت بفهم قيم الدين والتعاطي مع الدنيا على حد سواء، وإنه من الصعب التصور في إطار القيم والحضارة الإسلامية أن يأتي التـدين الحق على حساب الاستخلاف، أو يأتي الاستخلاف على حساب التدين السـليم؛ ذلك أن رجاء ودعاء المسلم كان ولا يزال يتمثل في قوله تعالى:
( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) (البقرة:201).
[ ص: 19 ]
لذلك نخشى أن نقول: إن حالتنا التي انتهينا إليها اليوم لا نحسد عليها في أمور الدنيا وشؤون الآخرة معا، وإن معظم جهودنا الفكرية في التعاطي مع (الذات) و (الآخر) تصب في الموقع الخطأ - فيما نرى- لذلك فمن الخطأ والخلل طرح خيار الدنيا أم الآخرة على وجه التقابل، ووضع الإنسان حضاريا أمام هذا الخيار الصعب، ذلك أن أمر الدنيا والآخرة متلازمان ومتكاملان ومتوازيان لا يصطدمان، ومنسجمان لا يتناقضان في التصور الإسلامي وواقع وتاريخ الحضارة الإسلامية.
إن الجهود الفكرية، التي تتوجه إلى التضخيم والتفخيم والتعصيم من الخطأ لذاتنا وتاريخها الحضاري، وتتوجه بالمقابل للتركيز على مثالب الحضارة الغربية، بكل معطياتها، وتجردها من كل فضيلة أو نفع، دون دراسة نقدية تحليلية تبين مواطن الخلل في الحضارة الغربية وتعترف بجوانب النفع الإنساني، ودراسة نقدية تحليلية لواقع الحال الإسلامية اليوم وبيان مواطن الخلل، التي أطفأت فاعليتها وأصابتها بالعقم، والاستمرار في العجز عن الإنتاج سوف تؤدي إلى انتكاس حضاري، وتساهم بتكريس التخلف، وتدفع إلى التفلت من (الذات)؛ لأن ما يطرح يخالف الحق ويناقض المنطق ويوبخه الواقع.
فإلى متى تستمر جهودنا في الضياع؟ وإلى متى نحرك المفاتيح الحضارية في الفراغ، نضعها في غير مواقعها، فيستمر الإغلاق والانغلاق وانسداد الأفق، ويتحول المثقفون والأكاديميون والمفكرون من موطن رجاء الحل إلى موقع صناعة المشكلة وتكريسها واستعصائها؟
[ ص: 20 ]
وهذا الكتاب محاولة لقراءة معاصرة في ملف المسألة الحضارية، ذلك الملـف الذي لم يغلق ويسحب من التداول منذ أكثر من قرن، إن لم نقل: إنه موجود من تاريخ وجود التنوع الحضاري وسيرورة الحضارات، سقوطا ونهوضا؛ فقصة الحضارة كانت وما زالت مطروحة على مستوى (الذات) و (الآخر)، بكل أبعادها، من دراسة في عوامل السقوط والنهوض وعوامل التغيير والوهن والهرم الحضاري، ومحاولة قراءتها من خلال سنن ودورات حضارية، من بدء النهوض إلى مراحل الأفول والانقراض، أو إن شئت فقل: ابتداء من مرحلة الفكرة الفاعلة (الإيمان)، التي تمثل الرافعة الحضارية الأساس والتي تشكل إنسان الفطرة والواجب والتضحية، وانتهاء بمرحلة اللذة وبروز إنسان الغريزة والاستهلاك، حيث الإيذان بالانقراض الحضاري الذي عبر عنه المعصوم بـ: "حب الدنيا وكراهية الموت"، يقول صلى الله عليه وسلم :
( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله،وما الوهن؟ قال: حب الدنيا ) (بروز إنسان الاستهلاك)
( وكراهية الموت ) (غياب إنسان الإنتاج والعطاء)" (أخرجه أبو داود)..
وبالإمكان القول: إن الباحث في رؤيته الحضارية المقارنة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية حاول أن يحشد في بحثه معظم الكتابات السابقة،
[ ص: 21 ] التي عرضت للرؤية الحضارية الإسلامية وقدمت إضاءات حول الرؤية الغربية والرؤية الإسـلامية، وهذا من التثقيف والتخصيب والتشكيل الذهني والتعرف على (الذات) الحضارية و (الآخر) ليدرك المسلم المعاصر من خلال ذلك كله موقعـه ورسـالته ودوره المستقبـلي في هـذا العـالم الواحد، ذي الثقافات المتعددة.
إن القيام بمقارنات ومقاربات حضارية على غاية من الأهمية، لكن يبقى هذا يشكل المدخـل أو يشكل المقـدمة الضرورية، التي لا بد منها للولوج إلى ما بعدها، ومحاولة الإجابة عن التسـاؤل الكبير والصعب، الذي كان وما يزال مطروحا: إذا كانت الحضارة الإسلامية بهذه الخصائص المتميزة عن الحضارة الغربية، وهي كذلك بما تمتلك من قيم الوحي الخالدة، التي تشكل نهاية النبوات بكل تجاربها، وما تقدم من أنموذج تجسدت وتخلقت وتجلت واختبرت فيه هذه القيم من خلال السيرة وفعل خير القرون، وبما تمتلك أيضا من التجربة الحضارية التاريخية وما ركز في عالم المسلمين من الإمكانات البشرية والمادية والطاقات الروحية المحركة واستعصاء الحضارة الإسلامية عن الموت والخضوع لدورات الانقراض الحضاري، فلماذا هي اليوم تعاني الكثير من أمراض التخلف؟
وإذا كانت الحضـارة الغربية بكل مثالبها، التي عرض إليها البحث وما سبقـه من البحـوث، تعاني من هذه الإصـابات ومع ذلك تشكل
[ ص: 22 ] الغلبـة الحضـارية، فأين الإشـكالية إذن؟ وأين الخلل؟ الذي نعاني منه وكيف نعالجه؟
ولعل البحوث المطلوبة والأهم - فيما نرى- الخلوص من هذه المقارنات والمقاربات إلى الاهتداء إلى موطن الخلل، وبيان أسبابه، ووضع رؤية حضـارية استراتيجيـة في ضـوء الإمكانات المتـاحة والظروف المحيطة لكيفية معالجة تلك الأسباب وتوفير شروط الإقلاع الحضاري، ومن ثم الشهود الحضاري
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143).
وقد يكون المطلوب الأهم التوجه صوب بحوث جريئة للقيام بمقاربات بين قيم الوحي والتجربة التاريخية وواقع المسلمين، والتوقف ولو بأقدار معقولة عن ممارسة تعظيم (الذات) والفخر بالإنجاز التاريخي لمعالجة مركب النقص، ذلك أن الاستزادة من ذلك قد تؤدي إلى الإحباط عند المقاربة والمقارنة بين الحضارة الإسلامية وواقع المسلمين، وبين واقع المسلمين وواقع حضارة الغالب، ومحاولة التوجه بالجهود صوب تقديم الدراسات المجدية واستيعاب الواقع الحضاري وتحديد موقع المسلمين فيه وكيفية التعاطي معه والإفادة منه.
إن الحضارة الغالبة تحاول اليوم قضم الحضارات جميعها، والإحاطة بعلمها، والإفادة منها، والتقوي بكل نافع ومفيد، من وجهة نظرها؛ فهي حضارة تخترق العالم، وتحاول التقوي بكل إمكاناته، بحيث تتحول الحضارات الأخرى إلى حضارات خادمة للحضارة المهيمنة؛ فهل تتحول
[ ص: 23 ] الدراسات من حقل المقارنة والمفاخرة إلى حقل دراسة مواطن الخلل ومقومات النهوض وموانع وعوائق التغيير؟
وخلاصة ما أردت طرحه وبيانه والتأكيد عليه من الفقه الحضاري الغائب عن الواقع الثقافي الإسلامي اليوم يتمحور في أهمية إعادة قراءة قصة الحضارة الإنسانية في القرآن، والتأمل في دلالة قوله تعالى، بعد أن ذكر عوامل النهوض وبين أسباب السقوط:
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17)؟
ولابد أن نعترف بأننا نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ونقيم المدارس والمساجد والخلاوى ومراكز التحفيظ، لكن رغم ذلك يبقى السؤال الكبير مستمرا:
( فهل من مدكر ) ؟ فأين الادكار، الذي يحملنا إلى الاعتبار؟ وأين الاعتـبار؟ الذي يصـوب طريقنـا ويحمـلنا إلى الإنجـاز وتحقيق الشهود الحضاري؟
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 24 ]