1- رؤية العالم في النموذج الغربي:

عجزت الفلسفة الغربية في رؤيتها للعالم عن الإجابة عن التساؤلات الفلسفية النهائية المتعلقة بالإله والإنسان والحياة والمبدأ والمصير، وهي أسئلة عقدية لا تستطيع أية معرفة بشرية الإجابة عنها بصفة نهائية وإنما الذي يستطيع تقديم الأجوبة هو الوحي الإلهي، وقد تم إبعاده من صياغة نظرية المعرفة الغربية، حيث أقيمت دعائم الوجود بعد عصر النهضة على أسس معرفية محورها إنسانية المعرفة والمذهب التجريبي أو المذهب المادي.

وهذه القضية، خلقت علاقة اعتمادية بين علم الوجود ونظرية المعرفة، وصار علم الوجود تابعا لنظرية المعرفة، بمعنى أن الوجود هو ما يمكن معرفته بالحس دون سـواه، وعلى هذا الأساس "تم اختزال مفهوم رؤية العالم ليقتصر على تكوين صورة للعـالم المادي ومكوناته، وهذا ما يجعله أقرب إلى مفهـوم علم "Cosmology" أو عـلم الكون ومكوناته، وهذا يعني أن موقف الإنسان من الوجود هو السعي نحو معرفة ما هو ظاهر وملموس من الوجود" >^[1] .

إن الافتراض الأساس في نموذج المعرفة الغربية الحديثة هو "أنه يمكن الوصول إلى الحقيقة النهائية فقط من خلال المعرفة المتمحورة حول الإنسان، ويتلاءم هذا الأمر مع الموقع الهامشي للوحي في العصر الحديث بالنسبة إلى [ ص: 34 ] كل من العقل والتجربة، وهي التي تتكامل مع الوحي لتحديد الحقيقة في المنظور الإسلامي. والمشكلة الأساسية، التي تواجه نظرية المعرفة في الفلسفة الحديثة هي تلك المتعلقة بالتمايز المزدوج بين مصادر المعرفة المؤدية إلى تحديد الحقيقة وتجزئتها، لأن هذا التمايز ما هو إلا ظاهرة مسيحية أوربية بحتة.. وعلمنة المعرفة كنتيجة تاريخية ومنطقية لهذا التحديد كانت دائما أمرا مناظرا لعلم الكون المتمركز حول الطبيعة، فمذهب العقلانية والتجريبية أصبحا طريقين أساسيين لتحليل العلم الحديث.. وهذا النموذج أرسيت دعائمه على افتراض أن أفكارنا مشتقة من مصدرين: الإحساس والعقل، فالأسس المعرفية لهذا النموذج هي إعادة تركيب وبناء المعرفة عقليا وتجريبيا، ويفترض في ذلك أن الإنسان ليس سوى كائن عاقل يعمل وفق مبادئ عقلية مسبقة عند التعامل مع أية معلومات معطاة أو معتقدات مكتسبة عن طريق الملاحظة لأجل بناء صرح المعرفة العلمية موضوعيا" >^[2] .

ويمكن تلخيص النموذج المعرفي الغربي في رؤيته للعالم في الآتي:

أولا: إن النموذج الغربي، الذي يعبر عن الرؤية الفلسفية الغربية عجز عن الإجابة عن التساؤلات النهائية، التي تتصل بالإنسان؛ وجوده ومصيره وموقفه من الوجود ككل، على الرغم من أن هذا النموذج يقدم باعتباره النموذج العالمي الأرقى. [ ص: 35 ]

ثانيا: لقد برزت المـدارس الفلسفيـة الغربية في وسـط بيئي علمي لا يشجع على العلم والمعرفة نتيجة لاستحواذ المعرفة اللاهوتية الكنسية على المعرفة؛ ونتيجة لهذا فقد كان توجه الفلسفة توجها علمانيا معاديا للدين، فصارت قضايا الدين والغيب والأخلاق قضايا لا معنى لها لأنها غير قابلة للتحقق والاختبار التجريبي



>^[3] .

ولقد احتج بعض العلمـاء على مناهج المعرفة المعاصرة مؤكدين أنه "لا بد من طريقة جديدة للمعرفة. ولا بد من معنى أوسع للعلم، فإن ملحد القرن التاسع عشر قد حرق البيت بدل أن يعيد ترميمه، فلقد رمى بجميع الأسئلة التي طرحها الدين وبإجاباتها معا، وأدار ظهره لكل مقررات الدين؛ لأن القـائمين على الدين قـد طلعوا عليه بإجابات لا يستطيع قبولها. ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فإنه وإن كان لا يستطيع قبول الإجـابات الدينية فقد أصبح واضحا لديه أن موضوعات البحث الدينية ومباحث الدين والأسئلة التي يطرحها الدين حول النشأة والوجود [ ص: 36 ] والمصير هي قضـايا علمية تستـحق الاحترام الكامل، وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعـة البشرية، ويمـكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي رصين؛ وأن الكنيسـة كانت تحاول الإجابة على أسئلة رفيعة صحيحة. وهي وإن أخطأت الإجابة فإن الأسئلة نفسها كانت تستحق القبول الكامل والتبرير الكامل" >^[4] .

ثالثا: إن الحديث عن إدبار الفلسفة الغربية عن المعرفة اللاهوتية يعني ضمنا أن الوحي كمصدر معرفي لم يكن مقبولا لدى المدارس الفلسفية الغربية مما جعل معرفتها تقتصر على عالم الشهادة، أي - بمنظور القرآن - اقتصر علمهم على ظاهر الحياة الدنيا مغفلين الدار الآخرة. وباعتبار أن هذا العلم قاصر على الحياة الدنيا وباعتبار أن هذه الفلسفة عملت على تضخيم الذات العارفة بجعل الإنسان مركزا للكون فإن هذا يعني أن العلم سعى ويسعى لتحقيق اللذة والمنفعة للإنسان، أي إشباع غرائزه، فظهر الخواء الروحي في العالم المعاصر، وتعالت الصيحات المنذرة بالخطر [ ص: 37 ] >^[5] .

رابعا: إن نظريات المعرفة الغربية وتحت وطأة مبدأ الصراع بين الأضداد والنظرة الأحادية الضيقة إلى الوجود الإنساني "فشلت في تقديم نظرية للمعرفة متكاملة ومتوازنة. وزاد من وطأتها إلى حدود بالغة النـزوع دائما القول "بمحورية الإنسان الفرد"، فحرمت الإنسان من الاهتداء بالوحي الإلهي، وأحالت الحياة إلى عبثية، فتنامت على ساحتها مشكلات حياتية مزمنة لا يرجى منها برء، كانهيار الأسرة وانتشار تجارة المخدرات والزواج من ذات الجنس والإجهاض القسري، وغير هذا من الأعراض التي صارت المجتمعات العلمانية تشكو منها" >^[6] ... العلمانية الشاملة التي "جردت الطبيعة من سحرها وجمالها، والسياسة من القداسة والأخلاق من الفضائل" >^[7] .

وقد بدت ملامح العلمانية واضحة ومتقلبة في القرن الثامن عشر الميلادي، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي، وهي السمة التي عملت الفلسفة الوضعية على ترسيخها بطريقة علمية من أجل الوصول إلى مشروعية التصورات المادية للعالم" >^[8] . [ ص: 38 ]