الرؤية الإسلامية والمسألة الحضارية (دارسة مقارنة)

الأستاذ الدكتور / عبد الله محمد الأمين

صفحة جزء
المبحث الثاني

الرؤية الإسلامية لعوامل قيام وسقوط الحضارات

1- قيام الحضارات في الرؤية الإسلامية:

إن قيام أو سقوط الحضارة - كما سبق أن ذكرنا- يكمن في صميم الموقف البشري نفسه لا في الطبيعة أو العلاقات المادية، إنما في إطار الإرادة الإنسانية، فقد استخلف الله الإنسان في الأرض لأداء دوره الحضاري فيها، ومن ثم فإن أسباب تقدم المجتمع وأسباب تأخره وانحطاطه تعود للإنسان نفسه، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهو يتحدث عن الأرضية التي تبذر فيها بذور الرقي والانحطاط حيث أكد أن أي تغيير في عالم الشهادة يبدأ من نفوس الناس، سـواء كان ذلك نحو الأحسـن أو نحو الأسـوأ، ففي سورة (الرعد:11) يذكر: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وفي سورة (الأنفال:53) يذكر: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وصورة ذلك أن الانقلاب إلى الرقي أو الانحطاط له درجتان:

الأولى: درجة الانقلاب الذهني أو النفسي.

والثانية: درجة الانقلاب العملي أو الخلقي. [ ص: 79 ]

والأول يتعلق بالتغيير الداخلي، والثاني يتعلق بالتغيير الخارجي، أي أن الأمة إذا تدرجت إلى الرقي فإن إصلاح القوى الداخلية يتحقق في البداية، وتتغير الأفكار والأحاسيس والتصورات للحياة ثم تنشأ الجواهر، وحينما تصاب أمة بالذل والنكبة تفسد أولا قواها الداخلية ويتغير الفكر والنظم ثم تنشأ الجراثيم التي تقضي على أهلية الحياة بالتدرج كذلك. أي أن بقاء الأمة مرهون بصلاحها داخليا أولا ثم خارجيا بعد ذلك. وفناؤها مرهون بفساد نفوسها أولا ثم فساد أعمالها بعد ذلك، فسنة الله في خلقه أن الصالح يبقى؛ لأن فيه للبشرية نفعا، وغير الصالح لا يبقى لأنه لا نفع فيه: ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17). >[1]

وهذا التغيير الداخلي للأنفس هو ما يقوم به الإيمان، إذ إن الإيمان هو الوسيلة الوحيدة لتنشئة الأفراد على سيرة محكمة من الدرجة الأولى، وهو الذي يطبع الأفراد على الصدق والإخلاص والأمانة والعفاف ومحاسبة النفس وضبط نوازعها وإيثار الحق وسعة النظر والقلب وعلو الهمة والكرم والسخاء والفدائية والتضحية والتواضع والخضوع والشعور بالواجب والاستقامة والشجاعة والبسالة والقناعة، والاستغناء، وعاطفة السمع والطاعة واتباع القانون، ويؤهلهم لأن يبرز بهم إلى حيز الوجود أحسن مجتمع وأطهره" >[2] . [ ص: 80 ]

إن مما لا شك فيه أن تغيير عالم الأنفس لا يتم إلا وفقا لفكرة عن حقيقة الوجود وغاية الحياة وينعكس ذلك على عالم الآفاق فينشأ من دفع الفكرة وتوجيهها نمطا حضاريا معينا، وهو ما أكده مالك بن نبي بقوله: "إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته، أنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى"









>[3] .

إذا كانت الحضارة تعتبر وليدة فكرة فإن هذه الفكرة ينبغي أن تحمل تصورا معينا للإله والإنسان والكون والحياة وللعلاقات الناشئة بينها والتي تشكل بمجملها علم العقيدة أو الإيمان، حسب المصطلح القرآني. وقد يتبادر إلى الأذهان تساؤل هو: كيف يكون الإيمان بالله هو الموفر للشروط النفسية [ ص: 81 ] للتعمير والحال أن حضارات مشهودة سادت العالم بإنجازاتها وقد قامت بغير إيمان بالله ومن بينها الحضارة الغالبة اليوم؟.

والجواب أننا لو تفحصنا أمر هذه الحضارات لوجدنا أن الشروط النفسية التي كانت منطلقا لإنجازها لم يتم لها اكتمال فبقيت منقوصة في بعض أركانها، وكان لذلك انعكاس بين في طبيعة بنيتها فإذا هي معيبة من جراء نشوئها على غير إيمان بالله بما حملته في نفسها من بذور الفناء تعمل تحت بهرجها بما يؤول بها إلى الضعف والانحلال؛ ذلك أن نزوع هذه الحضارة إلى الفعل لم يكن مفضيا إلى التعمير الشامل، ماديا وروحيا وأخلاقيا، إذ انحصر فعلها الحضاري في الجانب المادي الذي غرضه الأعلى تحقيق الرفاه وإشباع الشهوة، وانعكس ذلك سلبا على أهل تلك الحضارة فإذا بالشعور بالخوف والقلق يسيطران على مجتمعاتها، وما ذاك إلا لقيام الحضارة على أساس غير الإيمان بالله >[4] ، يقول تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) (طه:124).

وفي الإيمان بوصفه الأساس الذي تقوم عليه الحضارة ترتبط علاقته بالتحـضر بما يحـدثه من آثار في الحيـاة العملية للإنسان، إذ إنه يصبغ الحيـاة كلها بصبغته، ويضـفي عليها من خيـرته ما لا تناله أبدا بدونه: [ ص: 82 ] ( هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) >[5] (طه:123-124).

وفي ضوء ما ذكرنا يمكن تلخيص سببية الإيمان وأهميته في عملية الحضارة في النقاط الآتية:

أولا: إن الإيمان بين حقيقة الوجود ورسم غاية الحياة. وحقيقة التوحيد في بنيتها الشمولية ممثلة لجوهر العقيدة هي التي رسمت المسار، الذي يجرى عليه البناء الحضاري كله. وقد أجاب القرآن الكريم في تقريره لأصول الإيمان على التساؤلات الكلية حول المبدأ والمصير، والعلاقة بين الخالق والمخلوق، وهي الأسئلة التي خاضت فيها الفلسفة دون أن تصل إلى النتائج المطلوبة؛ ذلك لأن الفلسفة قد استندت إلى العقل في بحوثها الميتافيزيقية دون وضع اعتبار للتفرقة بين عالمي الغيب والشهادة.. فالعقل في التصور القرآني قاصر عن الوصول إلى نتائج تزول معها الشكوك في البحوث الماورائية، فهو ليس عقلا ذا مدى وجودي ومعرفي >[6] .

ثانيا: إذا كان لـكل دائرة حضـارية نظريتها المعرفيـة، التي تحدد لها خصائصها الجوهرية، وتمنحها هويتها الثقافية والاجتماعية المتميزة، [ ص: 83 ] وتكون النظرية المعرفية عادة مرآة تعكس أوجه نشاطاتها الفكرية المتعددة وفي كافة تجلياتها، فإن الإيمـان هو الذي يشكل الوعي الجمـعي لمجتمع تلك الدائرة الحضـارية. حيث يصدر الوعي الجمعي لهم على مستويات ثلاثة متضايفة >[7] :

أ- منظومة عقائدية تحدد وجهة الإنسان الكلية عن الوجود والحياة .

ب- مواقف مخصوصة معينة من الوجود والحياة الإنسانية والعالم تتشخـص في طريقة مخصوصـة في الحياة وتتجسـد في نمـط سـلوكي له خصوصيته.

جـ- ولأن الدين لا يشكل مرتكز الحياة الفكرية فحسب بل هو خطاب يتسم بالعالمية وإلا غاب الالتحام بين المؤمنين به، وجب أن يتخذ الإيمان صيغة هوية اجتماعية مشتركة. وبهذا فإن الدين يحدد معالم وحدة اجتماعية تتشكل من أفرادها الذين أصبحوا أمة مخصوصة لها عقيدة نظرية وتسلك في الحياة منهجا أخلاقيا واحدا ولها هوية اجتماعية مشتركة.

ثالثا: الإيمان في التصور القرآني يبدأ كعملية باطنية حيث يتم إصلاح القلب، الذي يعتبر منبعا للعوامل الباطنية. ثم يتحقق التغيير في الذهن ووجهة النظر وينعكس ذلك على الأعمال، وهذا يعني أن الإيمان في التصور القرآني [ ص: 84 ] ليس عملية جوانية >[8] تتعلق بالقلب دون أن تنعكس على عالم الشهادة بالأعمال، كما أنه ليس عملية برانية تركز على عالم المادة دون اهتمام بإصلاح الباطن، فالإسلام على النقيض من اليهودية التي هي ديانة مقفلة على ذاتها تهتم بالعالم الخـارجي فنظرتها برانية خالصة. ولهذا فإن اليهود كما يشير "برتراند راسل": "شاركوا ويشاركون في بناء الحضارة المادية ولكنهم ليست لديهم خطوات تستحق الذكر في عالم الثقافة الروحية"

>[9] .

وعلى النقيض من ذلك جاءت المسيحية نموذجا لمثالية أخلاقية فائقة، جسدها المسيح، عليه السلام، في خطاباته الموجهة إلى اليهود خاصة وإصراره على غربته وحنينه الطاغي إلى العالم الإلهي >[10] .

وإذا كان الإيمـان ليس جـوانيا فقـط فإنه ليس برانيا كذلك، فهو -إذن- قائم على التوسط بين الجوانية والبرانية >[11] . ولقد أكد القرآن على أن [ ص: 85 ] التغييرات الخارجية في المجتمعات منوطة بتغيير ما بالأنفس: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)، ويتكرر ذات المعنى في سورة الأنفال: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الأنفال:53)، وقد أصبحت هذه الوسطية في المبادئ الإسلامية سيرة للمسلمين بنوا عليها حياتهم كلها، فكرا وسلوكا، فإذا هذه الحياة تقوم على العدل في التصور الوجودي، يتخذ فيه العالم المادي باعتباره حقيقة واقعية مأخوذة بالاعتبار والاحترام ويتخذ منطلقا للتعمير، ومزرعة للاستثمار، ولكنهما تعمير واستثمار لا يبتغيان لذاتيهما بل يتجه بهما إلى الوجود الأكمل وهو الله تعالى ابتغاء لمرضاته. وإذا بصورة الحياة تجري على توازن بين مطالب الجسم المادية ومطالب الروح المعنوية: تمتعا بطيبات الرزق دون حرمان في اتجاه روحي إلى الله بالعبادة، كما تجري على توازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع دون إهدار لهذا أو لذاك. وتجلى ذلك العدل كله في الحضارة الإسلامية كما نرى في آثارها المكتوبة والمرسومة، وفيما بقي منها ساريا في حياة الأمة. ولك أن ترى شاهدا على ذلك في هذه العلوم السلوكية الروحية وتلك المادية الكونية، وفي هذه الآثار العمرانية مثل المدن الإسلامية التي امتزج فيها المعمار المادي مع البعد الروحي المتمثل في صياغتها على أساس التوحيد، بحيث يمكن القول: إن هذه الوسطية كانت قاعدة أساسية من قواعد فقه التحضر الإسلامي في جوانبه الفكرية والسلوكية والتعميرية على حد السواء >[12] . [ ص: 86 ]

رابعا: إن إصلاح الباطن - الذي هو مناط التغيير - يتم من خلال منهج التزكية للنفس ارتقاء بها إلى الكمال. وهذا المنهج تلعب فيه العبادات دورا كبيرا فتكتسب النفس قيما أخلاقية مأمورة بها في الدين من جانب؛ ومن جانب آخر تجتنب أمورا منهية عنها في الدين. وبمعنى آخر تنشأ ملكة الحذر والاحتياط في اتخاذ الخطوات في مجال الحياة. وفي نواحي الفكر والعمل، وقد عبر القرآن عن ذلك بكلمة التقوى. وهي في الحقيقة اسم لكيفية روحية تتعلق بالقلب وتوجد بها حساسية وشعور في الإنسان فيتمكن من التمييز بين الخير والشر >[13] .

وفي ضوء ذلك فإن النظام الأخلاقي الإسلامي الذي يحقق هدف التوازن في كيان الفرد والمجتمع يمتاز بميزتين أساسيتين:

أ- إنه نظـام شامل بحيث تتسع دائرة الأخلاق الإسلامية فتشمل أفعال الإنسـان الخاصة جميعا أو المتعلقة بغيره سواء أكان هذا (الغير) فردا أو جماعة أو دولة.

ب- إن الأخـلاق ليست نسبية في الإسـلام، وإنمـا تنبع من حقائق خـالدة تستند إلى الوحي الإلهي. وهذه النظرة قائمة أساسا على نظرة الإسلـام التعـادلية إلى الوجـود، فمـذهبية الإسـلام في الوجود كله تقـوم على أسـاس الترابط والتوازن، ولا تقوم على مبدأ النقيض [ ص: 87 ] الذي يفترض عـدم وجود الحقائق الثابتة وينبني على ذلك نسبية الأخلاق في الحياة البشرية >[14] .

خامسا: وحيث إن القلب هو مقر الحياة الباطنية ومعقد الإلزامية الأخلاقية فإن النية وحدها هي التي تقود المؤمن المسؤول أخلاقيا في أفعاله وفي علاقاته بالآخرين وفي علاقات الجميع بالله سبحانه وتعالى.

سادسا: إذا كان الإيمان هو التصديق الجازم بالقلب، أي أنه قضية داخلية في النفس الإنسانية، فإنه يترتب على ذلك عدم إكراه الناس على الدخول في الدين: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256)، وعدم تعقيد إجراءات الدخول فيه، فكل من نطق بالشهادتين فهو محسـوب من المسلمين. وهذا يتيح للإسلام خاصية الانتشار والتوسع >[15] .

سابعا: وإذا كان الإيمان هو المعرفة والتصديق والإقرار والعمل فإن هذا يعـني تكامل العـلم والعمـل. وهذا يتيح للفعل الإنساني النماء والتطور مما يؤدي إلى تحقيق العمران للأرض وعدم الفساد فيها، أي تحقيق غاية الاستخلاف في الأرض، وهو ما يحقق مقاصد الشارع من وضع الشريعة، والتكامل بين عالمي الغيب والشهادة. [ ص: 88 ]

ثامنا: الإيمان بالله وتوحيده يمثل المركزية والمرجعية التي تنبثق عنها كافة المفاهيم والتصورات. فالله الواحد هو المبدأ والغاية لكل موجود ولكل فعل في الوجود. والقرآن الكريم يقرر حقيقة التوحيد بكافة أساليب الحجاج والاستدلال مؤكدا بذلك على محورية الإله في الوجود ونافيا في ذات الوقت محورية الإنسان في الوجود، مما يؤدي إلى بروز قيم المساواة والعدالة والحرية. وهذه القيم هي التجسيد الأخلاقي لقيمة التوحيد. وإن التوحيد وما ينبثق عنه من قيم ليصبغ الحياة العملية كلها بصبغته ابتداء من ما يضفيه على النفس من شعور بالطمأنينة والانسجام: ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) >[16] (الزمر:29)، أي وحدة النفس الإنسانية باتحـاد جميـع نوازعها مع فطرتـها السليمة "فتستقيم حياة الإنسان وتتضـافر قـواه وصفـاته النفسيـة والعقـلية لأداء مهمتـه في الحياة لأنـها متجهة حول هدف واحد، وخاضعة لرب واحد" >[17] . وإن حياة الجماعة المؤمنة لتستقيم كلها على نهج الوحدة، وحدة الشعور ووحدة الولاء ووحدة [ ص: 89 ] الغـاية، بحيث يصير كل نشاط ذهني أو عملي دائرا في بنيته أو غايته على قانون من الوحدة >[18] .

إن مبدأ توحيد الإله، ذاتا وصفات ومبدءا في الخلق ومدبرا في الكون وحاكما في حياة الناس ومعبودا لهم، ومنتهى لكل الكائنات في المصير هو الذي يمنح الحضارة الإسلامية هويتها ويربط جميع مكوناتـها معا ليجعل منها كيانا عضويا متكاملا نسميه حضارة، وفي ربط هذه العناصر معا يقوم جوهر الحضارة - وهو التوحيد في هذه الحـال - بطبع تلك العناصر بطابعه الخاص ثم يعيد تكوينها بشكل يتناسق مع العناصر الأخرى ويدعمها. ولا يقـوم الجوهر ضـرورة بتغيير طبيعة تلك العناصر بل يحولها ليصنع منها حضارة ويعطيها صفاتها الجديدة التي تكون الحضارة. وقد برزت هذه العلاقة في أذهان المسلمين الذين كانوا يتابعون ظواهر الحضارة لذلك اتخذوا التوحيد عنوانا لأبحاثهم وأدخلوا جميع الموضوعات الأخرى تحت لوائه . وقد عدوا التوحيد أهم المبادئ الأساسية التي تضم أو تحكم جميع المبادئ الأخرى، كما وجدوا فيه المنبع الرئيس أو المصدر البدئي الذي يحكم جميع الظواهر في الحضارة الإسلامية >[19] . [ ص: 90 ]

والتوحيد أو مبدأ وحدانية الله المطلقة وترفعه وغائيته يعني أن الله وحده الجدير بالعبادة والطاعة، والإنسان المطيع يحيا حياته في ظل هذا المبدأ، ويسعى أن تكون جميع أفعاله متسقة معه لتحقيق الغاية الإلهية، وتكون حياته برهانا على التوحد بين عقله وإرادته، وحياته لا تكون سلسلة من الأحداث المتجمعة كيفما اتفق بل مرتبطة بمبدأ واحد شامل يجمعها في إطار واحد، في وحدة واحدة، وهكذا تكون حياته ذات أسلوب واحد وشكل متكامل هو الإسلام.

وتأسيسا على ما سبق، فإن جوهر حضارة الإسلام الذي قامت عليه مؤسساتها وحدد امتدادها التاريخي وشكل تفاعلها الخارجي وحدد أهدافها هو التوحيد. وفي ضوء هذا التصور فقط يمكن أن نتحدث عن واقع الأمة الإسلامية وعن ماضيها ومستقبلها، وإن التوحيد هو الذي يعطي الحضارة الإسـلامية هـويتها وهـو الذي يربط بين أجزائها، وهو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيؤسلمها ويطهرها من عبورها في التوحيد متجانسة مع كل ما حولها >[20] .

وعليه، فإن التوحيد هو محور الحضارة الإسلامية، وهذه المحورية تعني أن الحضارة الإسلامية تعتمد في أصولها وتتفرع بالتالي من الأصول كل الفروع على استيحاء مبادئها الرئيسة لها من توحيد الإله عز وجل "فما من حقيقة من حقائق الدين الشاملة، عقدية كانت أو تشريعية، إلا وهي منبثقة [ ص: 91 ] عن التوحيد وراجعـة إليه، فهو روح الدين كله، الساري فيه مسرى الماء من النبات، أيما موضع انسحب منه أصابه الجفاف وآل إلى التلاشي" >[21] . وهذا يعني >[22] :

أ- إن الحضارة الإسلامية حضارة إيديولوجية مبدئية "عقدية" تعتمد على الإيديولوجية والمبدأ اعتمادا كليا. ولأن هذه الإيديولوجية ركيزة أساسية في الحضارة الإسلامية فإن أية دعوة للحضارة الإسلامية منسلخة عن إيديولوجية التوحيد تعتبر انحرافا وضلالا عن الخط الرئيسي لها، فالذين يريدون إسلام بلا إله أو دنيا بلا آخرة أو أحكام بلا روح إنما هو تأثير وتوجه نابع من الحضارة المادية لا يمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة.

ب- إن مبدأ الحضارة الإسلامية الذي هو التوحيد يعتمد على أساس الوحدة لا التنويع، ولأجل هذا فالحضارة لا تعترف بإلهين ولا تعتقد بإمكانية تجزئة حياة الإنسان الفردية أو الاجتماعية أو حتى تجزئة العلوم إلى مجالات مختلفة ومتضاربة.

ج- إن الحضارة الإسلامية التوحيدية تبتدئ من الله وتنتهي إليه، ولهذا فإن الفروع والأصول تبدأ من ذلك أيضا وتنتهي إليه. والنتيجة-إذن- أن محورية التوحيد في الحضارة الإسلامية ثابتة وعقيدة، ولهذا فإن تأثيراتها تصل [ ص: 92 ] إلى كل حكم وكل قانون وكل توجيه، وتنبثق من هذا الأساس سائر القواعد المتينة التي تعتمد عليها الحضارة الإسلامية، مثل الاستقلال والأمن والخير والصلاح والتكامل والتقدم. وعلى هذا الأساس تتضح بعض معالم الحضارة الإسلامية فهي حضارة الإنسان، وهي حضارة الجمال، وهي حضارة التطلع والبحث عن الأفضل. وعقيدة هذا موقعها من الدين من شأنها أن تطبع معتنقيها في ممارستهم للحياة كلها، فكرا ووجدانا وسلوكا، بطابع الوحدة بحيث يصير كل نشاط ذهني أو عملي دائرا في بنيته وغايته على قانون من الوحدة التي تتآلف بها المختلفات، وتتوحد بها المقاييس، وتلتقي بها المشارب على هدف مشترك، وذلك ما يبدو نظريا منطقيا في تجربة الحضارة الإسلامية في كل من الفكر والعمل >[23] .

تاسعا: إذا كان الله هو المبدأ والغاية لكل موجود ولكل فعل في الوجود فإن جماعة المؤمنين يتولونه ويوالون فيه، ويجعلونه الحاكم، ويتحاكمون إلى كتابه، ويتوجهون بالعبادة إليه وحده: ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) (البقرة:165)، وهذا يعني أنه لا انفصال بين العقيدة والشريعة والنظرية والتطبيق، حيث إن الجانبين متكاملان. فمن المستبعد أن يكون الإيمان كاملا إذا كانت جماعة المؤمنين تدين بالعقيدة تدينا تجريديا نظريا دون أن تنعكس هذه العقيدة على واقعها فتكون الحاكمة عليه. [ ص: 93 ]

عاشرا: يلزم الإيمان جماعة المؤمنين العمل بأصول نظريتهم العقدية، وتطبيقها بمقدار الاستطاعة، ومحاولة تنمية الاستطاعة لاستيفاء التكليف الشرعي. ومن ثم صارت الهجرة >[24] ، والجهاد >[25] ، والنصرة >[26] ، مناط الإيمان. فليس المؤمن بمعذور في قبوله عيش الذل والرضاء بالكفر وأساليبه، والاستثناء الوحيد ورد لطائفة المستضعفين: ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) (النساء:98)، ولعل السر في ذلك يرجع إلى أن الأمة الإسلامية منوط بها الشهادة على الناس والقيادة لهم، ومن ثم فإن استكانة أفرادها لواقع الشرك فيه قضاء على هذا الهدف الإلهي. والقرآن يقرر أن واجب الأمة تبليغ رسالة الإسلام أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر: ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) (الأحزاب:39)، ( فلا تخشوا الناس واخشون ) (المائدة:44)، ( فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) (البقرة:150)، ذلك أن الغاية الكبرى من الفعل [ ص: 94 ] الإسلامي هي إظهار دين الإسلام على غيره من الأديان: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة:33) (الفتح: 28). وفي ضوء ذلك فإن جماعة المؤمنين أمة من دون الناس لها خصائصها وشخصيتها التي تميزها عن جماعة الضالين والمغضوب عليهم >[27] .

ثاني عشر: إن القرآن الكريم يؤكد أن سعي الإنسان في هذه الدنيا مربوط بالدار الآخرة، بحيث يكون الحساب والجزاء النهائي للإنسان على أعماله أمام الله يوم القيامة. وهذا ما يقتضيه العدل الإلهي. ومن ثم كانت عناية القرآن الكريم بتوجيه النفس الإنسانية وسبل ترقيتها من خلال تصوير حقائق اليوم الآخر وإشعار الإنسان بوجود الرقابة على أعماله وذلك من خلال الحديث عن عالم الملائكة.

ثالث عشر: إن الإنسان في التصور القرآني حر ومسؤول عن أعماله، حيث إن وجوده قائم على التكليف. وهذا التكليف ابتلاء للإنسان، والابتلاء يستلزم حرية الاختيار حتى يتحمل الإنسان المسؤولية عن أعماله، ومن ثم فلا جبرية في دائرة التكليف. وعلى هذا فإن الإيمان بالقضاء والقدر [ ص: 95 ] لا يشل فاعلية الإنسان بل إنه ليصنع الإنسان الفاعل إذا فهم القضاء والقدر فهما صحيحا: ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) (النحل:76).

والخـلاصة هي أن أي تغيير ناجح في عالم الشهادة لإحداث التحضر أو استعادته لا بد أن يبدأ من تغيير ما بالأنفس، وهذا لن يتحقق إلا من خلال المنظومة الإيمانية التي تنبثق كلها عن عقيدة الإيمان بالله وتوحيده. وحينما يتم تثبيت العقيدة الصحيحة في النفوس فإنه يسهل تحقيق كل شيء. ومهما يكن من أمر فإن أمور الإيمان التي تقوم عليها الحضارة، فيها من جانب القوى التي تحلي الإنسان بالأخلاق الجميلة والملكات الحميدة وتعمل على تنميتها والمحافظة عليها، وفيها من جانب آخر جميع القوى التي تحرضه على الرقي والتقدم في الدنيا وتؤهله لأن يستغل أسباب الدنيا ووسائلها، وهي إلى هذا تنشئ فيه الأوصاف والأخلاق الفاضلة التي لا بد منها لإحراز الرقي والتقدم الحقيقي في الدنيا. وفيها أكمل قدرة على أن تنظم قوى الإنسان العملية وتحركها بنظام، وفيها مع ذلك أكمل قدرة على أن لا تدع هذه الحركة تتعدى حدودها المشـروعة وتنحرف عن الطرق والمناهج التي يؤدي الانحراف عنها إلى الهلاك >[28] . [ ص: 96 ]

وهكذا فإن الإيمان الذي يقوم عليه بنيان الدين يجيء دائما بمثابة معامل حضاري يمتد أفقيا لكي يصب إرادة الجماعة المؤمنة على معطيات الزمن والتراب ويوجهها نحو مسالكها الصحيحة، ويجعلها تنسجم في علاقاتها مع حركة الكون والطبيعة ونواميسها فيزيدها عطاء وقوة وإيجابية وتناسقا.. كما يمتد عموديا في أعماق الإنسان لكي يبعث فيه الإحساس الدائم بالمسؤولية، ويقظة الضمير، ويدفعه إلى سباق زمني لا مثيل له لاستغلال الفرصة، التي أتيحت له كي يفجر طاقاته ويعبر عن قدراته التي منحه الله إياها على طريق القيم، التي يؤمن بها والأهداف التي يسعى لبلوغها فيما يعتبر جميعا في نظر الإسلام عبادة شاملة يتقرب بها الإنسان إلى الله... وهكذا تجيء التجربة الإيمانية لا لكي تمنح الحضارة في مرحلة نشوئها ونموها وحدتها وتفردها وشخصيتها وتماسكها وتحميها من التفكك والتبعثر والانهيار فحسب، وإنما لكي ترفدها بهذين البعـدين الأسـاسين اللذين يؤول أولهما إلى تحقيق انسـجامها مع نواميس الكون والطبيعة: ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) (آل عمران :83)، ويعطيها ثانيهما قدرات إبداعية أكثر وأعمق تتفجر على أيدي أناس يشعرون بمسؤوليتهم ويعانون يقظة ضمائرهم ويسابقون الزمن في عطائهم؛ لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر و ( لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) (القصص:83) >[29] . [ ص: 97 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية