3- حول عوامل تدهور الحضارة الإسلامية
>[1] :
إن من المعلوم أن الحضارة الإسلامية حضارة قيم، تستمد مقوماتها في المنشأ والصيرورة من مرتكزات الدين متمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وهما يتضمنان الشروط المناسبة والمحفزة للفعل الحضـاري، ولذلك لا يمكن القول: إن الحضارة الإسلامية يمكنها أن تسقط سقوطا نهائيا أو أن تنسحب من الميدان، بخلاف العديد من الحضارات الأخرى التي انتفت عوامل أو شروط نشوئها، وأصبح مستحيلا إعادة قدراتها على الفعل مرة أخرى، فالذي يتعرض للتدهور بالنسبة للحضارة الإسلامية هو الفعل الحضاري نفسه وليس أصوله العقدية بطبيعة الحال. وما يدلل على عدم سقوط الحضارة الإسلامية سقوطا نهائيا هو توافر عوامل الإمكان الحضاري لديها للنهوض مرة أخرى لمركز قيادة العالم، وعوامل هذا الإمكان الحضاري تتلخص في عملية التغيير الذاتي، أي تغيير عالم الأنفس ووجهة النظر أولا ثم التوجه لتغيير عالم الآفاق، وهذا ما أكده القرآن في قوله تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)، كما بينت
[ ص: 107 ] الأحاديث النبوية عوامل الإمكان الحضاري، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) >[2] ، كما أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أجار الأمة من ثلاث خلال، يقول صلى الله عليه وسلم :
( إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة ) >[3] . وجعل أهل الحق الطائفة المنصورة:
( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) >[4] ، فهذه العوامل هي التي تتوافر للحضارة الإسلامية ولا تتوافر لغيرها من الحضارات.
يرى محمد علي ضناوي
>[5] أن الحضارة الإسلامية متى ما ابتعدت عن الضوابط التي تحكمها فإنها تتوقف عن العطاء بالقدر الذي يجعلها غير مسؤولة عما يحدث وبالقدر الذي تحافظ على نضارتها وخيرها، وبالقدر الذي تتمكن فيه من إيجاد الفعل عند جماهير الأمة للتعرف على أسباب التوقف ولمعالجة تلك الأسباب. وهذا التوقف يختلف عن الاندثار والتشتت أو الأفول، إذ أن التوقف عملية ذاتية تفرضها الحضارة على نفسها بفعل
[ ص: 108 ] تعطل بعض أو جميع ضوابطها، فهي - أي الحضارة - موجودة في مفاهيمها، وربما في ممارسة جزئية لتلك المفاهيم، غير أنها محجمة عن العطاء والإبداع، ذلك أن الحضارة الإسلامية لا تقبل الترقيع، وترفض التجزئة والإشراك وأنصاف الحلول، وأن الرفض الذي هو أبرز معالمها يدل بعمق على أصالتها وقدرتها على المجابهة والتحدي.
إن عوامل تدهور الحضارة الإسلامية ترجع إلى:
أ- غياب مفهوم التوحيد وتسلل مفهوم الشرك:
فمن المعلوم أن التوحيد هو عصب التصور الإسلامي، وهو الذي صنع الحضارة الإسلامية ابتداء، غير أنه تعرض منذ العصر الأموي إلى مماحكات المتكلمين بتأثير الفلسفة اليونانية وظلالها المسيحية فانعكس ذلك سلبا على الفعل الحضاري.
إذا كان التوحيد هو السبب، الذي صنع الحضارة الإسلامية ابتداء فإنه سيبقى على مر الدهور العامل المحرك للحضارة الإسلامية استئنافا وتعديلا وترشيدا، ويعزى تدهور الحضارة الإسلامية وركودها بعد زمن الشهود الحضاري للأمة الإسلامية لما أصاب الفكرة الإسلامية في تصور المسلمين من الغبش فيما تحدد من مفهوم لحقيقة الوجود وغاية الحياة، وعلاقة الإنسان بالبيئة الكونية، فإذا بالركن الأساس لتلك الفكرة وهو عقيدة التوحيد يؤول إلى انحسار في مفهوم مجرد، فلم يعد قوامه يتقوم به كل تفـكير وسلوك، وإذا بغاية الحياة ينفصل فيها ما هو أخروي عما هو دنيوي، وينحل ما بين
[ ص: 109 ] النجـاة في الآخرة والتعمـير في الدنيا من روابط النتـائج بالأسـباب، وإذا بالبيئة الكونية المادية تقع في النفوس موقعا مال بها إلى الزهد فيها من جهة، وإلى انحسار الفهم السببـي لحقيقتـها من جهـة أخرى، وقد أدى ذلك كله. إلى تراجع الفـكرة الإسـلامية عن أن تكون فيها قوة الدفع الحضاري لإرادة الأمـة، فتراخى الإنجاز الحضاري شيئا فشيئا، وآل الشهود إلى غياب بصفة تدريجية... وكانت النتيجة أن انتهت الأمة الإسلامية إلى وضع العطالة الحضارية"
>[6] .
ب- الاستبداد السياسي:
صارت الممارسة السياسية الإسلامية قائمة على التسلط بعد موت آخر الخلفاء الراشدين حيث تحولت الخلافة إلى ملك عضوض في عصر الأمويين
>[7] وما تلاه، وقادت التداعيات والإحساس المتراكم بالاستبداد إلى تضاؤل الفاعلية وإصابة العقل المسلم بالعقم والشلل، لا سيما وأن ثمة انفصام قد حدث بين القيادتين، الفكرية والسياسية، "ولقد شكل هذا التمزق والفصام بين القيادة الفكرية الإسلامية، والقيادة السياسية الاجتماعية الأساس لتراجع الطاقة المسلمة وتمزق النسيج المسلم، وفتح الباب واسعا أمام قوى التدهور والفساد والانحطاط، وأخذت طاقة دفع الإسلام تخبو تدريجيا،
[ ص: 110 ] ولم يبق لحضارة الإسلام وعطاء الأمة في العصور المتأخرة إلا بقايا طاقة معالم الإسلام ونور هدايته في النفوس وتخلف الأمم من حولهم وغياب البديل الحضـاري الذي يكشف عورتـهم ويتهدد أصل كيانهم على الرغم مما اجتاح أرضهم من غزو البرابرة المغول والروم والصليبيين"
>[8] . وكانت النتيجة هي وجود "قيادة سياسية محرومة من قاعدة فكرية تخدمها، وقيادة فكرية بعيدة عن مسرح الأحداث"
>[9] .
ج- طغيان القبلية والإقليمية والعرقية على مفهوم الأمة:
أكد الإسلام مفهوم الأمة، وكان عصر الرسالة سعيا موصولا لتحقيق هذا المفهوم. وأصبح مفهوم الأمة ينطوي على كل الجماعات والشعوب التي انتمت إلى الإسلام، بغض النظر عن ألوانها وأصولها القومية وبيئاتها الجغرافية، وقد أتاح ذلك تلاقح الخبرات وإغناء الحضارة الإسلامية بالمزيد من الخصب والعطاء. لكن ما لبث أن ظهرت النـزعات التفككية عبر التاريخ الإسلامي منذ عهود مبكرة مثل الردة والفتنة والصراع بين عرب الشمال وعرب الجنوب "القيسية واليمانية" وصولا إلى الحركة الشعوبية التي أعلنت الحرب ضد كل ما هو عربي، وهذا أدى إلى تفتيت قدرات الأمة ومنعها من أن تصب في بؤرة الفعل الحضاري.
[ ص: 111 ] د- الظلم الاجتماعي:
وكنتاج طبيعي للفساد الذي ضرب الجهاز السياسي والإداري في الدولة الإسلامية فقد ظهرت بوادر الظلم والتمزق والتشرذم الاجتماعي وسوء توزيع الثروة وفرض الضرائب الجائرة على الطبقات الكادحة والقسوة في جبايتها، ونجد لذلك شواهد في كتاب "الخراج" الذي صنفه القاضي أبو يوسف.
- الترف والتكاثر:
ظهر الترف بعد توسع الدولة الإسلامية، ويمكن ملاحظته في عصر الدولة العباسية، حيث وصل البذخ والترف إلى حد الأساطير في حفلات الزواج والمناسبات العامة، وإنفاق المال بغير حساب على الشعراء والمرتزقة والمتملقين. وهذا انعكس سلبا على الأخلاق والسلوك، حيث شاعت الفاحشة وانتشرت الجواري والغناء والخمر. وهذا هو الإخلاد إلى حب الدنيا، وقد نبه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الآثار السيئة لذلك بقوله:
( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله،وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ) >[10] . وهذا يعكس تقاعس الأمة عن الجهاد وعن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[ ص: 112 ] - التمزق المذهبي:
نهى الله سبحانه وتعالى عن التفرق حيث قال:
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (آل عمران: 103).. وقال:
( ولا تكونوا من المشركين *
من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم:31-32)، و قال:
( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (الأنفال:46).
ولم يتمسك المسلمون تماما بهذا التوجيه الإلهي حيث حدث التناوش والاختلاف وبدأ اختلافا في وجهات النظر إلا أن وجهات النظر هذه سرعان ما تم تأطيرها في مذاهب على مستوى العقيدة والشريعة
>[11] ، وصور ابن تيمية الدرجة التي وصل إليها الخلاف والتعصب بقوله: "والكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره ولا يرى الجزع المعترض في عينه، ويذكر من أقوال غيره ومخالفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس الأقوال أو أضعف منها"
>[12] . ويقول الشهرستاني: "وكان التضاد بين كل فرقة وفرقة حاصلا في كل زمان، ولكل فرقة مقالة حيالها، وكتب صنفوها، ودولة عاونتهم، وصولة طاوعتهم"
>[13] . ووصل
[ ص: 113 ] التعصب للمذهب وعلمائه أن صارت أقوال الفقهاء شريعة بجانب الشريعة، يقـول الفقيـه الحنفي أبو الحسـن الكرخي (260 هـ -340 هـ)، عفا الله عنه: "كل آية أو حـديث تخـالف ما عليـه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ"
>[14] !! هذا الغلو والتطرف الذي يتنافى مع روح الإسلام القائمة على اليسر ورفع الحرج والإعنات عن الإنسان صاحبته من جانب آخر انتشار الرؤية الإرجائية لدى قطاع عريض من المسلمين، حيث تم فصل العمل عن الإيمان، فما دام المرء مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر فهذا كفيل بإدخال صاحبه الجنة ولو ارتكب الكبائر وتقاعس عن العمل. وهكذا انطفأت فاعلية الأمة وأفسحت المجال لأعدائها لعمارة الكون.
وجملة القول: إن الإصابة قد لحقت بجميع النظم والأبنية الإسلامية الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي انعكاس للحال التي وصل إليها إنسان الحضارة الإسلامية، أفرادا ومجتمعات ودولا. وكما ذكرنا سابقا فإن عوامل الإمكان الحضاري متوافرة للأمة للنهوض متى ما رجعت إلى عقيدتـها، "ومن الأمـور المنطقيـة في قضايا الحضارات أن الحضارة لا تتجدد ولا تقوم مرة أخرى إلا في إطار منطلقها الأول وخصائصها الذاتية واستحضار ماضيها وربطه بحاضرها؛ لأن الانسلاخ عن منجزات التاريخ أمر مستحيل"
>[15] .
[ ص: 114 ]