المبحث الثاني
العلاقة بين الحضارات في الرؤية الإسلامية
تطرح الرؤية الكونية الإسلامية تعارف الحضارات كخيار ثالث بين نهاية التاريخ وصراع الحضارات، حيث إن التصور الإسلامي لا يكرس الصراع قانونا تاريخيا مطلقا كما تقدمه المدرسة الواقعية بروافدها المختلفة، ولكن الصراع بمعنى التدافع كسنة من سنن الاجتماع البشري
>[1] . ويطرح القرآن الكريم مرتكزات أساسية لتعارف الحضارات تمثل بجملتها رؤية الإسلام للعلاقة بين الحضارات ولتأسيس المجتمع العالمي والحضارة الإنسانية المشتركة، هي:
أولا: إن الاختلاف بين الناس مبدأ تكويني، فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون حياة الإنسان في الدنيا فترة ابتلاء واختبار، يظهر فيها التزام الأفراد مبادئ الحق ويختبر من خلالها عزمهم على تطويع ميولهم وأهوائهم إلى القيم العليا، التي انبنى عليها نظـام الوجود وبينتها الشرائع والرسـالات، وهذا ما تؤكده النصوص القرآنية التالية:
( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس [ ص: 131 ] فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) (البقرة:213)؛
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ) (المائدة:48)،
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين *
إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119)،
( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) (الشورى:8).
وإذا كان الاختلاف بين الناس مبدأ تكوينيا فإن هذا يؤدي إلى تعدد الحضارات وخصوصيتها وعدم تماثلها، لكن في ذات الوقت يوجد بينها نوعا من التشابه والقواسم المشتركة التي تؤدي إلى انفتاحها على بعضها بعضا وعدم تعاديها
>[2] . هذا الانفتاح هو ما يعرف بالمثاقفة "Acculturation" أو التثاقف الحضاري حيث تسعى كل حضارة إلى التفاعل مع غيرها من الحضارات من أجل تطوير ذاتها.
ثانيا: إن التعارف هو المبدأ الذي ينبغي أن تتأسس عليه العلاقات بين الأمم، وهو ما أكده النص القرآني التالي:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ ص: 132 ] إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13)، ذلك أن التعارف هو أحد أرقى المفاهيم وأكثرها قيمة وفاعلية، ومن أشد وأهم ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوة لأن تكتشف وتتعرف كل أمة وكل حضارة على الأمم والحضارات الأخرى بلا سيطرة أو هيمنة أو إقصاء أو تدمير.. والتعارف هو الذي يحقق وجود (الآخر) ولا يلغيه، ويؤسس العلاقة والشراكة والتواصل معه لا أن يقطعها أو يمنعها أو يقاومها ... فقد ربط ذلك بوحدة الأصل:
( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) ، وبقاعدة التنوع الإنساني:
( وجعلناكم شعوبا وقبائل ) ، وأكرمية التقوى:
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) >[3] ، فمعيار الأفضلية هو التقوى أي البعد الإيماني بينما يجعل النموذج الدنيوي معيار الأفضلية والتفوق للعنصر أو الجنس أو الطبقة.
ثالثا: إذا كان معيار التفاضل بين الناس هو التقوى فإن الحضارة الجديرة بالهيمنة هي تلك الحضارة التي تحمل قيم الحق والخير للإنسانية جمعاء لا لمجموعة بشرية محدودة. وهذه القيم ينبغي أن تتسم بخاصية الشمول والوسطية والمعيارية والرحمة. ولقد تجسدت هذه القيم في الخطاب الإسلامي إذ أن القرآن الكريم قد أنزل:
( تبيانا لكل شيء ) (النحل:89)، وشمولية تلك القيم تحتوي على عناصر الإجابة عن التساؤلات المطروحة في سياق المتغيرات العالمية.
[ ص: 133 ]
ومهما يكن من أمر فإن الموقف القرآني من العالم "لا يقوم على خصومة أو عداوة أو حتى تكفير ولكنه يقوم بمنطق المودة والتصالح والتعاون على البر والهداية، ومن ثم فالمشكلة الحقيقية ليست في موقف المسلمين تجاه غيرهم ولكنها في سلوك (الغير) إزاء المسلمين، ذلك أن الموقف النظري والمبدئي للمسلمين يواجه الواقع العملي بتحديات تصيب علاقتهم بالآخرين بدرجات متفاوتة من التوتر والتعقيد"
>[4] .
إن القرآن الكريم - باعتباره حامل الرؤية الكلية للعالم - قد استوعب ميراث النبوات السابقة بمنطق الهيمنة والحاكمية والتصحيح. وفي اعتراف الإسلام بالنبوات السابقة انفتاح للإسلام على بقية الثقافات والحضارات؛ فالقرآن الكريم لم يلغ (الآخر) بل دعا إلى محاورته ومدافعته بالأسلوب الذي يرتضيه (الآخر)، فتشكيل واقع العالم في منظور القرآن يتم من خلال الحوار الحضاري والمثاقفة والمدافعة التي تهدف إلى المحافظة على عمارة الكون.. "وإن عالمية تستند إلى التعارف والاعتراف بالاختلاف والتنوع والحوار وحقيقة الإقناع لتعبر بذلك عن رؤية تأسيسية للعالم يحتل فيها الآخر مساحة مهمة لا تقوم على تصنيفه المؤبد في دائرة العدو إلا إذا اعتبر هو - أي الآخر- أن ذلك خياره في أن يكون عدوا .. عالمية الاستخلاف تقوم بالأساس على مراعاة حق الغير"
>[5] .
[ ص: 134 ]
فعالمية الإسلام لا تعني هيمنة الجزء الداعي على الكل المدعو، وإنما تعني توحيد كافة الأجزاء ودمجها في كلية جامعة، ومن هنا ينبثق مفهوم الأمة الوسط لا كتميز عن الشرق والغرب ولكن كإلغاء لثنائية الشرق والغرب بإعادة تركيب الحضارات والثقافات ضمن وحدة جامعة، وليس في هذا نفي أو هيمنة على خصائص (الغير) الحضارية
>[6] .
بينما النموذج المعرفي الغربي المهيمن على العالم يسير وفق مقولات خطاب حصري أو دنيوي يهدف إلى الهيمنة على الشعوب وحضاراتها دون وضع اعتبار لخصوصية الثقافات والحضارات ومن ثم فقد تولد عن هذا العنف والصراع كطريق وحيد لفرض إرادة القوة أو مقاومتها.
ولقد طرح القرآن الكريم البعد العالمي للإسلام والخروج إلى الناس في إطار الأمة الوسط، التي تتفـاعل مع الآخرين وتحمل إليهم قيم الحق والخير لما تتميز به من قيم الإيمان والدعوة إلى المعروف والنهي عن الشر، وذلك لتكون شهيدة عليهم، وقد كلفها الله بأداء هذه المهمة تكليف اجتباء وجعل إلهي. وهذا البعد العالمي للإسلام قد تم تقريره في القرآن منذ العهد المكي:
( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) (الأعراف:158)،
( وما أرسلناك إلا كافة للناس [ ص: 135 ] بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (سبأ:28)،
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، ويرتبط هذا البعد العالمي بختم النبوة.
إن شهادة الأمة الإسـلامية على أمم العالم تقتضي التفاعل الحضاري بما فيه من مثاقفة ومدافعة وانفتاح على (الآخر). والقرآن الكريم باعتباره الكتاب الخاتم قد وضع الأساس لهذا التفاعل فاسترجع كافة الموروث الروحي للبشرية بمنطق التصديق ثم عالجه وأعاد قراءته بمنطق الهيمنة، وهذا يعني الاستيعاب الإيجابي للثقافات البشرية ومناهجها المعرفية ومن ثم يتجاوزها ليسمو بها.
ولقد كانت الحصـرية هي سمة الخطاب الديني، ابتداء من النبي آدم، عليه السلام، وانتهاء برسالة النبي عيسـى، عليه السلام، وهذه الحصرية تعني أن الخطـاب الديني كان محصورا بإطاري الزمان والمكان، وذلك مراعاة لمصالح تلك الأقوام، لكن ببعثة النبي محمد (r) أطلق الخطاب الديني ليخـاطب البشرية جمعـاء، ومن ثـم فقـد احتوى هذا الخطـاب ميراث النبوات وأصبح بذلك بديلا للنبوات
>[7] ، وختمت النبوة، وذلك لتوحيد المرجعية فلا نسخ ولا تعارض ولا اختلاف. وقد جاء الإعلان
[ ص: 136 ] صريحا عن هذا الختم في قوله تعالى:
( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (الأحزاب:40)، وفي الحديث النبوي
( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلـي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) >[8] ، واكتمال هذا البناء بختم النبوة يعني اكتمال الدين:
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ) (المائدة:3)، حيث تم تبيان كل شيء في الكتاب. "والنتيجة اللازمة لكمال الدين وتمام النعمة هكذا أن تنقطع صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في طاعتها واتباعها وأن تتوقف سلسلة الرسالة والنبوة بالنسبة للمستقبل"
>[9] .
هذه العقيدة - عقيدة ختم النبوة - الثابتة بالنص القرآني والنبوي تتجاوز مجرد الإقرار إلى منهجتها عبر رؤية صاغت موكب الأنبياء السابقين ضمن تصور "فتح مغاليق الماضي مفسرا حركة الشعوب والأنبياء، ومبشرا بتحول الدين من ذات منكفئة على نفسها معادية لكل ما عداها إلى هوية
[ ص: 137 ] منفتحة على العـالمين ومتألقة بهذا الانفتاح. فالنص القرآني قدم تاريخا للبشرية من خلال رسالات الأنبياء والرسل وكأنها بناء متكامل وتراكم تاريخي ينتهي بتتويج وغاية، لا يتميز شعب عن آخـر ولا أمة عن أخرى. ثم جاءت عقيدة ختم النبوة كمبدأ يتمكن من خلاله المؤمن أن يتوجه إلى إرساء الواقع الجديد"
>[10] .
على صعيد الحضارة، فإن فكرة عالمية الحضارة الإسلامية متصلة مباشرة بفكرة ختم النبوة ودلالتها على الصعيد المنهجي والفكري والعملي لفهم المسلم لرسالته بصورة خاصة، وفهمه لحركة العالم ومآليته بشكل عام. ومن جانب آخر فإن ختم النبوة يمكن النظر إليه على أنه "فكرة تعلن انتهاء الدورات الحضارية... وبانتهاء النبوة وختمها انتهت الدورات وأمسك الإنسان بسنن الحضارة ليجعلها مستمرة... فمعنى ختم النبوة ختم الدورة الحضارية. والميزة الأخرى لمحمد (r) أنه للناس كافة وهذه هي عالمية الحضارة وانتهاء زمن الدورات وإن كنا لا نزال نعيش دورة الحضارة وتعددها إلا أن إرهاصات زوالها بدأت تبرز لمن تأمل"
>[11] .
[ ص: 138 ]
فبختم النبوة جاء الخطاب عالميا والكتاب مصدقا ومهيمنا على ما عداه من الكتب السماوية، فهو الحاكم بينهم وشريعته شريعة تخفيف ورحمة وذلك هو "الأساس القوي المحكم الذي أقيم عليه بناء الحضارة الإسلامية العالمية الخالدة، وما أقيم عليه بناء هذه الحضارة إلا ليتمكن أفراد النوع البشري أجمعون إلى أبد الآباد من الاجتماع على كلمة واحدة وحضارة واحدة، على كلمة يكونون على شعور تام من كونها كلمة خالدة، وعلى دين يكون محيطا بالهدى والحق من جملة نواحيها ولا يكون شيء من جنسها خارجا من دائرة سلطانه، وعلى حضارة تكون في مأمن من حدوث ثغرة في بنائها لفرقة جديدة مصطنعة بين الإسلام والكفر"
>[12] .
إن اعتراف الإسـلام بالأنبياء واستصحـابه لأعراف السابقين - التي لا تخالف عقيدته - مكن حضارته وأعطاها قدرة فائقة على الاستمداد الثقافي "Cultural Borrowing" من الدوائر الحضارية، التي اتصلت بها بعيدا عن أسباب البغضاء والعداوة، مع إمكانات واسعة وفعالة وذكية لنقل مضمون العناصر الثقافية المستمدة إلى صور إسلامية تلتئم مع المبادئ والمفاهيم والمثل الأساسية للإسلام، وهذا ما يضفي عليها صفة الاستمرارية والديمومة
>[13] .
[ ص: 139 ]
ولقد امتد الفعل الحضاري الإسلامي رافدا مجرى الحضارات البشرية بالعطاء المتنوع، وظلت الحضارة الإسلامية تحترم التراث الحضاري البشري الذي سبقـها والذي عـاصرها. ولم يكن العقل الإسلامي بالذي يتشنج في دائرة الذات وينقفل على حدود الأنا.. بل لقد علمته العقيـدة التي أعادت تشكيله تقاليد الانفتاح المرن على كل حضارة أو إنجاز ما دام أنه قد يتضمن جانبا من الحكمة التي يتحرق العقل بحثا عنها. ولقد أصبحت هذه التقاليد بالنسبة إليه ممارسات يومية وعادات سائدة امتدت لكي تغطي مسيرته الطويلة.
وقـد أشـار كبار المستشرقين لهـذه الخـاصية، فتحدث عنها "غوستاف فون جروبناوم" في دراسته المتعلقة بالتاريخ الثقافي للإسلام وبخاصة في كتابيه "الإسلام في العصور الوسطى"
>[14] . و"الإسلام الحديث - بحث عـن الهوية الثقـافية"
>[15] ، واصطـلح على تسميتها بقدرة الفكر الإسـلامي وقـابليته الفـائقة عـلى الاستيـعاب الثقافي المتنوع "Cross-Cultural Absorptiveness". وقال عنها "أجنتس كولد تسيهر": "إن الإسلام قد أكد استعداده وقدرته على استيعاب الآراء وتمثلها، كما أكد قدرته كذلك على صهر تلك العناصر الأجنبية كلها في
[ ص: 140 ] بوتقة واحدة، فأصبحت لا تبدو على حقيقتها إلا إذا حللت تحليلا دقيقا وبحثت بحثا نقديا دقيقا"
>[16] . أما "برنارد لويس" فقد قال: "إن الحضارة الإسلامية - رغم تنوع أصولها - لم تكن مجرد جمع آلي للثقافات القديمة، بل هي بالأحرى خلق جديد انبعثت فيه جميع العناصر لتكون حضارة جديدة، وذلك بأن انتقلت إلى صور عربية وإسلامية، وهذه العملية سمة مميزة لكل مرحلة من مراحل تطور هذه الحضارة"
>[17] .
إن الحضارة الإسلامية بما تملكه من تصورات وقيم وتفاعل ووجود تتعارف مع غيرها من الحضارات وتقبل حوار الحضارات من خلال الركائز التي تقررها، وهي أن الحضارة العالمية هي تلك التي تتمكن من استيعاب الإنسان منذ وجوده وحتى النهاية المنتظرة للوجود. وهي حضارة عالمية لها فكرها المتكامل وتصوراتها عن الكون والإنسان والحياة وتصوراتها عن المناهج الحياتية المختلفة والمتوازنة التي تصلح للإنسان في كل زمان ومكان؛ وهي الحضارة التي تستوعب الحكمة أنى وجدت؛ وهي حضارة تعترف لغير المسلم بحضارته إلا أنها تعتبر تلك الحضارة غير ملائمة في كثير من جوانبها مع حاجات الإنسان وتطلعاته
>[18] .
[ ص: 141 ]
وخـلاصـة الأمر أن الرؤية الغربيـة للعـلاقة بين الحضـارات تأسست على النـزعة الصـراعية بينما الإسـلام يقوم على فكرة الواحـدية والمركزية الحضـارية وانحيـازه إلى فلسفة التعددية كرؤية كونية، حيث يرى الإسـلام أن هذه التعددية هي السنة الإلهية والقانون الكوني؛ والبديل الإسـلامي لصراع الحضارات هـو تدافع الحضـارات، وهذا التدافع هو حراك اجتمـاعي وثقافي وحضاري، أي تنافس وتسابق بين الحضارات، وهذا التنافس يحافظ على التعددية، والتدافع الحضاري هو سبيل التقدم والإصلاح
>[19] .
[ ص: 142 ]