3- انسجام الأداة التأويلية:
من مظاهر الانسجام تفسير القرآن بالقرآن، أي تفسير النص بالنص من داخل النسق القرآني نفسه:
من أهم مزايا بيان القرآن بالقرآن أنه يضع اليد على مظاهر التماسك والانسجام في النص الكريم، ويكون للمفسر ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، وفي ذلك قال ابن كثير في خطبة تفسيره: "إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر"
>[1] ، وقال العلماء: "من أراد تفسير كتاب الله العزيز طلبه أولا من القرآن؛ فما أجمل في مكان فقد فسر في موضع آخر منه، فمن ذلك أنه قد يقع تبيين الآية منفصلا عنها أي يلتمس في آية أخرى نحو قوله تعالى:
( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) (البقرة:230)، بعد قوله:
( الطلاق مرتان ) (البقرة:229)؛ فقد بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرجعة بعده، ولولا الآية المبينة لكان الأمر منحصرا في الطلقتين. وقد أخرج
[ ص: 55 ] أحمد وأبو داود عن أبي رزين الأسدي قال: قال رجل: يا رسول الله أرأيت قول الله:
( الطلاق مرتان ) ، فأين الثالثة؟ قال:
( أو تسريح بإحسان ) . ومن ذلك قوله تعالى:
( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) (المائدة:1)، فسر ما بعده
>[2] :
( حرمت عليكم الميتة ) (المائدة:3).
ويلحق ببيان القرآن بالقرآن، بيانه بالسنة؛ فكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، لقوله تعالى:
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) (النساء:105)، وقال تعالى:
( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل:44)، وقال تعالى:
( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) (النحل:64)، وقـال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) >[3] ، يعني السنة. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) (الأنعام:59)، بقوله:
( مفاتح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينـزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأى أرض تموت، إن الله عليم خبير ) >[4] .
[ ص: 56 ]
فقـد بينت السنة أفعـال الصلاة والحـج ومقادير نصب الزكوات في أنواعها.
أما إن لم يجد المفسر في السنة رجع إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح. وقد روى الحاكم في المستدرك أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنـزل له حكم المرفوع
>[5] .
وهكذا فإن شرح كلمة قرآنية بأخرى أو جملة بأخرى أو آية بآية، من القرآن الكريـم لـيعد مظهرا من مظـاهر انسجـام النص القرآني، أما شرحها بأخرى من خارج القرآن فلن يؤدي المعنى المرجو، ويظل شرحا تقريبيا لأن العبارة اللغوية الشارحة لا تزن قيمة العبارة المنزلة وحيا. ولكنه على كل حال يظل خاضعا لمبدأ الترابط بين مكونات النص، سواء أكان ترابطا رصفيا (نظميا) أم كان ترابطا مفهوميا للأفكار، ويدخل هذا الارتباط أو هذه العلاقات في باب "التناص"
>[6] ، بمعنى أن بين النص وشرحه أو بينه وبين تفسـيره وتأويله، أو بينه وبين ترجمته أو ترجمة معانيه إلى لغة أخرى
[ ص: 57 ] أو محاكاته، أو أي شيء من هذا القبيل، رابطة تسمى "التناص"، فمن التناص تفسير القرآن بالقرآن، وتخصيص السنة لعموم القرآن...
>[7] .