تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل الأمة المسلمة وارثة النبوة بكل عطائها، وتجربتها، وعبرتها، وجعل محور حضارتها وثقافتها وقيمها ومعتصمها من التفتت والانقراض والانكسار الحضاري (كتابا)، فكان هذا الكتاب (القرآن) العامل الأوحد في تشكيلها الإنساني، حيث جاء تشكيلها من كل الأجناس والألوان والأعراق، فهي دون سواها من الأمم تشكلت من خلال الفكرة، وثمرة الإرادة والاختيار الحر، فهي أمة الفكرة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وصول البشرية إلى عتبة الرشد الإنساني وبلوغ الإنسان أرقى مراحل تطوره واكتماله، وجاءت العلاقة بين أبنائها قائمة على آصرة الأخوة، فالمؤمنون إخوة، يقول تعالى:
( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (أخرجه البخـاري) ، ويقـول:
( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه... ) (أخرجه البخاري)، فإن كان ظالما أخذ على يده ومنعه من الظلم، وإن كان مظلوما أخذ بيده ونصره.
[ ص: 5 ]
وأمة تشكلت عقيدتها وفكرها وسياستها من خلال الكتاب (القرآن)، وبني سلوكها وصنعت أخلاقها من خلال المحراب (المسجد) لهي أمة جديرة بأن تثير الاقتداء وتتحمل مسؤولية الشهادة على الناس وقيادتهم إلى الخير، وذلك بما تضطلع به من رسالة نشر قيم الحق والعدل والإحسان، يقول تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143)، والوسط هنا هو إقامة العدل ونصرة الحق.
فنشر قيم الحق والعدل ونصرة المظلوم وتأمين حرية الإنسان وحماية كرامته وحقوقه من الانتهاك، وخاصة حرية اختياره، وعدم فتنته وذلك بإكراهه على تغيير معتقده، وغيرها من الخصائص كثير، هو الذي أهلها لمقام الشهادة على الناس وهدايتهم إلى هذه القيم الخيرة، وجعل هذه الأمة بطبيعة تكوينها الإنساني مجتمعا مفتوحا تأبى التعصب، وتبرأ من نزعات العنصرية، وتستعصي على الانقراض الحضاري، وعلى الأخص أن من تكاليف عقيدتها حراسة هذه القيم من التحريف والتأويل والانتحال، وذلك لضمان المسيرة الصحيحة، ونفي نوابت السوء، والحفاظ على نقاء التلقي.
فالنقد والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الحق وكشف الزيف والباطل هو حسبة هذه الأمة، يقول تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110 )، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( يحمل هذا [ ص: 6 ] العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) (أخرجه البيهقي)، وهذا التكليف حقق ولا يزال يحقق استمرار الوقاية من علل التدين، التي لحقت بالأمم السابقة وكانت سبب انقراضها، ويحمي الفهم الصحيح لقيم الدين.
والصلاة والسلام على المنقذ من الضلال، الهادي إلى سواء السبيل، الذي اجتمعت في شخصه كمالات الأنبياء وخصائصهم، وانتهت إلى رسالته أصول الرسالات السماوية، من لدن آدم، عليه السلام، وجعل الله الإيمان بما سبـق من كتب سمـاوية شرطا لصحـة الإيمان بوحيه الخاتم، كما جعله مهيمنا عليها، أي مبينا ورقيبا ومصوبا للرؤى الدينية السابقة وكشف ما لحق بها من تحريف وزيغ وضلال واعتلال، يقول تعالى:
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48).
وبهذا الإيمان بما سبق من الرسل والكتب، وبتلك الهيمنة اكتسبت النبوة الخاتمة خاصية النقد والنقض والتقويم والتصويب، كما تحققت بالعمق الفكري التاريخي لجميع الأمم والامتداد المستقبلي لوجهة الحياة، وبتلك الخصائص والمقومات من رصيد النبوة والوحي الخاتم امتلك الرسول صلى الله عليه وسلم مؤهلات الشهادة على الأمة، نواة الحضارة الإنسانية وأنموذجها، يقول تعالى مبينا هذه المهمة:
( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ، وامتلكت الأمة المسلمة السائرة على نهجه، في الوسطية والاعتدال، خاصية الشهادة على
[ ص: 7 ] الناس، يقول تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ، وأدركت أبعاد ومسؤوليات هذه الشهادة واستحقاقاتها من المناصحة، والتسديد، والمحاورة، والدعوة، والبيان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنـكر، وتحقيق التنميـة والتزكية السـليمة، والوقاية من الإصابات، أو التقوى، والكشف عن مواطن السقوط والانحراف، والتحذير منها، الأمر الذي يشكل روح الأمة، التي تعتبر الرافعة الأساس لارتقائها ودليل خلودها وبقائها واستعصائها على الانقراض؛ وتلك بعض الأبعاد الكثيرة والكبيرة للشهادة على الناس، التي يصعب الإحاطة بها في هذه الكليمات البسيطة والمساحات المحدودة.
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الخامس والخمسون بعد المائة: "معادلات العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن"، للدكتور فؤاد البنا، في سلسلة "كتاب الأمة" ، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها المستمر لبناء النخبة، العدول من كل خلف في الأمة، الذين يحملون الأمانة، ويؤدون الرسالة، ويفقهون الوحي بكل مقاصده، ويفهمون الواقع بكل مشاكله ومكوناته وتعقيداته، ويوائمون بين فقه النص المنـزل ومتطلبات الواقع القائم، ويؤمنون بالتخصص العلمي والمعرفي الموصل إلى الإحاطة بعلم الأمور، والتكامل بين التخصصات، لبناء العقل والمجتمع والدولة والأمة، استجابة
[ ص: 8 ] لقوله تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36)، وقوله تعالى:
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) (يونس:39 )، وقوله:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ، ويشكلون الترسانة الفكرية والفقهية، التي تحمي الصواب وتكفل النمو والارتقاء وسلامة تنـزيل القيم على واقع الناس وتحول دون الانحراف على مستوى (الذات) المتمثل بالغلو والانتحال والتأويل، كما تحول دون الاختراق على مستوى (الآخر)، الذي يستهدف تغذية هذه الإصابات وزرع الألغام الفكرية والاجتماعية وتوطينها في الداخل الإسلامي، والحيلولة دون تصويبها ومراجعتها ونقـدها ونقضها بمعاذير ومسوغات خادعة أو مخادعة، متدثرة في كثير من الأحيـان بغطاء ديني وفلسفـات شرعية ميتة ومميتة لم تحمل لنا إلا الصاب والعلقم.
ونرى أنه من الأهمية بمكان استيعاب الأمة لمهمة هؤلاء العدول في كل خلف، رواد الإصلاح، الذين يحملون العلم، وإدراك أبعاد وظيفتهم، ووسائل عملهم وتعاملهم، ودورهم التنموي التزكوي والحمائي للأمة.
ولا شك أن الوصول إلى بناء أهلية هذه النخبة وتوفير مواصفات هذه المهمة يتطلب النظر والمراجعة لكيفية تشكلها وتنوع تخصصاتها، وليس ذلك فقط وإنما قد يكون المطلوب العمل على بناء المناخ الحر المسؤول والملائم، والبيئة المناسبة لبناء هذه الخرسانة الواعية لفكرها وفعلها وتفاعلها وتواصلها
[ ص: 9 ] مع الأمة، وتحضير الشروط الموضوعية والفرص المتكافئة لبروزها العلمي والطبيعي من خلال الميدان الواقعي والموضوعي، بمعنى أن تأتي ثمرة لسنن التدافع الاجتماعي والتنافس العلمي والثقافي في حياة الأمة لبلوغ الموقع المؤهل لهذه المهمة.
ولعل في مقدمة ثمرات بناء هذه النخبة أن يشيع في المجتمع تقبل ثقافة التقويم والمراجعة والنقد والمثاقفة والمفاكرة والمناقشة، التي تنتهي غالبا إلى حصحصة الحق وجلاء الحقيقة، والاعتقاد أنها من تكاليف هذا الدين والتي تهدف إلى مقصد واحد وهو تنقية المجتمع المسلم من نوابت السوء، والارتقاء به، وتخليصه من الاستعباد والاستبداد، والعودة به إلى الينابيع الأولى قبل أن يلحقها ويداخلها العكر، وحمايته من الإصابة بعلل التدين، التي لحقت بالأمم والحضارات وكانت سبب انقراضها.
ذلك أن غياب الاستشعار بأهمية التقويم والمراجعة والحس بالمسؤولية عنها أوقع العمل الإسلامي والعاملين للإسلام بالكثير من الحفر، وغيب الحذر والاتعاظ والاعتبار، وأدى إما إلى كثير مما نراه من سوء التقدير واستمرار الدخول في المواجهات الخاسرة والوقوع في الفخاخ المنصوبة لنا وخوض المعارك الخطأ، وإما إلى الإحباط والانسحاب من المجتمع وانطفاء الفاعلية، وترك الأمور مغيبة عن الوعي، والعجز عن الإفادة من تجربتها وعـبرتـها للأجيـال القـادمة، والسـقوط في ذهنيـة اليأس، وإيثار السلامة الخادعة.
[ ص: 10 ]
لذلك فقد لا نستغرب قول بعض الغيورين: إن العمل الإسلامي المعاصر قضى ما يقارب القرن من الزمان وهو يراوح في مكانه، ويكرر أخطاءه، ولا يفيد من تجربته الذاتية، ولا يشعر بالمسؤولية التقصيرية؛ وتغطية للفشل يؤثر الهروب إلى ساحة النوايا، التي يصعب ضبطها وكشفها وقياسها ومعايرتها، والتي الله أعلم بها والتي قد تكون في بعض الأحيان عمياء غير مبصرة لطريقها وغير مدركة لأبعاد ونتائج فعلها.
وفي أحسن الأحوال قد نجد أن ساحة الهروب غالبا ما تسوغ وتغطى أيضا بالعبث في تنـزيل النصوص الشرعية على غير محالها أو بالفهوم المعوجة والمغشوشة للإيمان بالقدر، فيأتي الجواب عن التقصير والخطأ والخلل وعدم الاعتبار ومصادمة سنن الله في الحياة والأحياء بأن هذا قدرنا(!) وبذلك نوصد الموضوع، بكل أخطائه ومسؤوليته التقصيرية، ونعطل العقول، ونحول دون أي سبيل للمناقشة أو المراجعة أو النقد أو التقويم وتحديد مواطن الخلل وبيان أسباب الفشل، ويكون ذلك مؤذنا، بشكل طبيعي، باستمرار مسلسل الفشل والسقوط، وكأن القدر خصم لنا، يستهدفنا دون سوانا من سائر البشر!
إن هذا الفهم المغشوش للقضاء والقدر، الذي يسلب الإرادة ويعطل الفاعلية ويبطل المسؤولية ويتعارض مع التكليف ويخالف سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، خير القرون، هو سبب التخلف والاستنقاع الحضاري وتغييب العقل وإلغاء المسؤولية وتعطيل آلية المراجعة والتقويم والنقد، وبيان مواطن القصور وأسباب التقصير واكتشاف الخلل واستمرار الفشل...
[ ص: 11 ]
كما أن هذا الفهم المغشوش قد يقود بعضنا إلى تحريم وتجريم التقويم والمراجعـة؛ لأن ذلك من الاعتراض ينافي مشيئة الله وقدره، إذ لولا القدر لما كان الفشل!!
أما فهم القدر وأبعاد الإيمان به كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله وأدركه الصحابة بتعاملهم مع صناعة الحياة وإقامة الحضارة واستيعاب سنن المدافعة وامتلاك القدرة على تسخيرها ومواجهة قدر بقدر والفرار من قدر إلى قدر فذلك فقه وفهم لا يلائم إنسان التخلف، ويجعل (الآخر) أحق بإدراكه وفهمه وممارسته وتفوقه وسداد وسائله والإفادة من تجربته وعبرتها.
فأين المسلم الحق المؤمن بالقدر كما بينه ابن القيم، رحمه الله: ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، بل المسلم الحق هو الذي يغالب القدر بقدر أحب إلى الله؟ أين المسلم الحق اليوم من مجتمعنا المتخلف وأمتنا المهزومة وفعلنا ومفاهيمنا المغشوشة وثقافتنا الشرعية القاصرة ونخبنا الفاشلة والعاجزة، التي تحاول أن تستر عوارها وتغطي عورتها بفلسفة بئيسة للقدر ليشكل لها حماية من المحاسبة والمراجعة والمسؤولية؟ ولو كان ذلك المفهوم كذلك لما كان معنى للحياة والتكليف والحساب والثواب والإيمان بيوم الحساب، حيث يسأل الإنسان عن مثقال الذرة، ولأصبحت الحياة عبثا من العبث!
لذلك نقول: قد يكون من الأهمية بمكان اليوم وبعد هذه الإخفاقات المتوالية والإحباطات المستمرة والهزائم المتكررة وتغييب العبرة والمراجعة حتى لا يخترم الإيمان بالقدر، بزعمهم...! قد يكون من الأهمية بمكان القيام بعملية مراجعة وتحرير وتقويم للمفاهيم والأفكار والوسائل والثقافة السائدة، التي
[ ص: 12 ] باتت تشكل الذهنية المسلمة اليوم، ونفي ما يداخلها من تحريف وانتحال وغلو، في ضوء قيم الإسلام الصحيحة وظروف العصر المركبة والمعقدة والمتداخلة والتي أصبحت اليوم تتطلب النظر فيها من خلال تخصصات معرفية متنوعة؛ لأن الثقافة السائدة مدانة بالواقع البائس، الذي ما تزال تنتجه، والخيبات المستمرة التي تورثها، والفشل الدائب الذي ما يزال يلاحقنا، حيث يسلمنا فشل إلى فشل، ومع ذلك يصر بعضنا على المفاهيم والأفكار والأشخاص والقيادات نفسها، تحت ذريعة: (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، وأن ذلك كله قدرنا!! كيف لا وهذه المفاهيم هي مفاهيم إسلامية شرعية مستقاة من قيم الإسلام، وشعارها إسلاميا!! لذلك فقد تكون الإشكالية، كل الإشكالية، في إحاطتها بأسوار من القدسية وتحضير الناس من خلال الفهم المعوج للإيمان لقبولها على أنها مسلمات غير قابلة للمناقشة؛ لأنها شريعة الله ودينه المعصوم!! مع أنها فهم البشر، الذي يجري عليه الخطأ والصواب والزلل والتأويل الباطل والانحراف والجهل.
وقد تكون الإشـكالية الحقيقية أيضا والتي أشرنا إليها في كثير من كتبنا إلى درجة أصبح يخشى معها من التكرار، قد تكون الإشكالية في الالتباس بين القيم المعصومة المقدسة المحكمة، وبين فهمها من قبل البشر القاصر، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، أي الالتباس بين (الذات) و (القيمة) أو ما يسمى بشخصنة القيم؛ أو ما يمكن أن نعبر عنه بالالتباس بين قيم الدين وصور التدين، بين نص الشارع وفهم المجتهد والشارح.
[ ص: 13 ]
إن هذا الالتباس شكل الأسوار المحكمة حول هذه المفاهيم وجمدها في رؤوس الناس، وعطل عقولهم، وحال دون تقويمها ومراجعتها واختبار مدى ملاءمتها لواقع الناس.
إن عصمة القيم وصوابية تنـزيلها على واقع الناس وإنجازها الحضاري في عصر النبوة لا يعني بحال من الأحوال عصمة الأحكام والاجتهادات المستنبطة منها لكل عصر، حتى ولو كان مصدر تلك الاجتهادات القيم المعصومة في الكتاب والسنة؛ لذلك فمجـال التدليس والتلبيس والالتباس إنما هو بنقل العصمة من القيم إلى الأفكار والأحكام المستنبطة منها، الأمر الذي يحول دون التصويب والتسديد والتجديد والاجتهاد، ويؤدي إلى تحنيطها وانقطاعها عن بناء الحياة الفاعلة والنامية بسبب تغير محل الأحكام، وتبدل استطاعة الناس المكلفين، وتغير أقدار التدين، والتعسف في تنـزيلها على غير محلها.
لذلك نقول: بعد هذه الرحلة الطويلة والمسيرة الشاقة والتضحيات الكبيرة، وخيبات الأمل المستمرة، وغياب الاعتبار، وتحولنا إلى ميدان دراسة وتجارب وعبرة لغيرنا، ذلك أن العاقل من يعتبر بغيره والأحمق من يكون عبرة لغيره، بعد هذه الرحلة أصبح لزاما شرعيا وواقعيا وحضاريا مراجعة بعض المفاهيم المفصلية من مثل مفهوم أبعاد الجهاد ومدلولاته وساحاته وحكمته وهدفه ووسائله، ومجالات وروده في القرآن والسنة، الأمر الذي يقتضي أول ما يقتضي مراجعة آيات الجهاد، حيثما وردت وتناثرت في آي
[ ص: 14 ] الكتاب، حيث لم تجتمع في سورة واحدة، والخلوص منها إلى رؤية واضحة مبصرة، وعقل واع قادر على التمييز وضبط النسب، وإدراك متى استخدم القرآن مصطلح (القتال)، ومتى استخدم مصطلح (الجهاد)، واستيعاب مدلول قوله تعالى:
( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52 )، لإبصار قيم الجهاد الكبير الأكبر، وقوله تعالى:
( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45)، فنبصر الميدان الكبير والحقيقي للجهاد، فنعاود مراجعة مفاهيمنا ووسائلنا ومساهمتنا السلبية في كثير من الأحيان والتي قد تكون عن حسن نية ومزيد حماس عند بعضنا، وغفلة عن الاعتبار وسوء في التقدير وعجز عن إبصار تدافع السنن، عند بعضنا الآخر، الأمر الذي قد يؤدي إلى مساهمتنا بحصاد أجيالنا كلما استوت على سوقها.
وليس أقل من ذلك شأنا مصطلح الشهيد والشهادة أيضا، حيث إنه بحاجة إلى الكثير من النظر والتحرير والمراجعة والتتبع لدلالته والمواطن والمعاني التي استعمل لها، وعدم اختزاله في موطن وإلغاء ما وراءه من القرآن؛ ولا يتسع المجال للإتيان على بعض الآيات التي تذكر الشهادة والشهيد بمعان كثيرة في مواطن متعددة ومتنوعة.
هذا إضافة إلى جملة من المفاهيم، التي يأتي على رأسها أيضا مفهوم الحاكمية، وأبعاده ومجالاته وعلاقته بالتكليف والاستطاعة، والشروط المطلوبة لانعقاده؛ وأبعاد قضية الولاء والبراء... وغير ذلك كثير كثير جدا.
[ ص: 15 ]
وقد تكون الإشكالية كلها في غياب الاجتهاد في محل الحكم، ومدى توفر شروط تنـزيله على هذا المحل، وفهم قولة: "لا اجتهاد في مورد النص" فهما سطحيا مبتسرا، ذلك أن الاجتهاد، كل الاجتهاد، قد يكون في محل تنـزيل النص ومدى توافر الشروط المؤذنة بتنـزيل النص عليه.
إن الأوضاع المتردية والمتخلفة، والارتكاسات والهزائم المستمرة التي نمنى بها، والقيادات التي ما تزال صامدة ومستمرة رغم ذلك كله، تتطلب المراجعة الكاملة والتغيير على مستوى الأصعدة كلها، على مستوى الأفكار والمفاهيم والوسائل والخطط والأشخاص، مراجعة تؤدي إلى اختبار مدى ملاءمتها للواقع، واكتشاف الخلل، وتحديد أسبابه وكيفية معالجته، والحيلولة دون معاودته.
إن إصرار بعض الجماعات والتنظيمات على استمرار الحال، التي يملأ تاريخها الفشل وسوء التقدير، بدافع التعصب الحزبي والجهوي والإقليمي أو... أو... لا يقل خطـورة وإشكالية عن إصرار القيادات الفاشلة والعاجزة إلا على إعـادة الفشـل والمسـاهمة بتدمير الأجيال الناشئة، وكأننا على موعد مع مواسم حصاد الأجيال -كما أسلفنا- فكلما تربى جيل وكان أمل الأمة دبرت له المكائد والفخاخ، وساهم به سلبيا عجز (الذات) وسهولة اخـتراقها من قبل (الآخر) وإيجاد الفلسفات والمسوغات من القيادات الجاهزة لتكرار المهمة وارتكاب الحماقة نفسها، ووضع الناس أمام فقه الضرورة، الذي يستباح معه المحظور، ونحن الذين صنعنا الضرورة، إن لم نقل شيئا آخر!
[ ص: 16 ]
والأمر الملفت أن بعض القيادات هي ما تزال نفسها، وكأنها وقفا على الأمة، وخاصة في مراحل هزائمها، حيث لم تنجز لها إلا الفشل والخيبات المتتالية والتي ما تزال مستمرة في توبيخ نفسها وإحاطتها بهالة من تفخيم (الذات)، وذكر البطولات والمواقف الشجاعة والحكيمة، وتصنع لنفسها دوائر من الأتبـاع والمريدين تحيط بـها، بل ترفعها على الأكف، لكن كما ترفع الجنائز في عاقبة الأمور، وتوهمها بالزعامة والحكمة والشجاعة و...و... دون أية مناصحة أو ملاحظة، وبذلك تحيط بنا جميعا أخطاؤها، وتصبح عبئا على نفسها وأمتها وجماعتها.
كيف يكون ذلك، ويستمر في ثقافتنا الدينية المغشوشة، وقد تعلمنا من قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم واجتهاد علمائنا وثقافتنا وأدبياتنا أن
( الدين النصيحة ) وكان لفعل النصيحة والمراجعة والتقويم مساحات ووقائع كبيرة قصتها علينا آيات القرآن، ودرب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وكان وهو المؤيد بالوحي، المسدد به، محل نصح أصحابه، ولقد مارسها الصحابة، رضي الله عنهم؛ وكانت هذه الحقيقة الكبيرة ماثلة في ذهن الجيل الأول: أن الرجل يعرف بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، وأن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ؛ وأن كل ابن آدم يعرف منه وينكر.
أما في واقعنا المتردي، المتخلف المنهزم، فالرئيس والزعيم والقائد والمرشد والشيخ و... كلهم معصومون وعلى صواب!! ولم نعثر لواحد منهم على اعتراف بخطأ واحد في تاريخه الطويل، ولم تقدم دراسة واحدة
[ ص: 17 ] تقويمية عن قيادته وسياسته، وأين نجح وأين أخفق، لتكون عبرة لمن يأتي بعده.. المشكلة أننا أمام سلسلة من المعصومين، الذين هم فوق طبقة البشر، وحالنا معهم لا تخفى ولا تغيب عن أحد، وهذه من البلايا.
لذلك قـد لا يكون غريبا ولا عجيبا في مناخ هـذه الثقافة المغشوشة -كما أسلفنا- التي أفرزت هذه النخب العـاجزة الفاشـلة، أن لا نعثر على دراسـة تقويمية معمقـة وموضوعية واحـدة عن سلسلة الجهاد المعاصر في أفغانستان، وما استخدم ووظف له، والمفاهيم التي تحرك من خلالها، والأموال التي رصدت له، وما انتهى إليه، وما صارت إليه الحال هناك من التردي والتخـلف والتخـالف والتقاتل، تلك الدراسة التي تحمل لنا العبرة والبصـيرة، ذلك أن الأمر، فيمـا نرى، يعيد نفسه ويتكرر بالطريقة نفسها والاحتـواء نفسه؛ والتكرار ليس على مستوى الذهنية والثقافة فحسـب بل يتكرر على مستـوى الأشخاص.. وما صـار إليه الأمر في أفغانستان صار ما يشابهه في كثير من البلاد العربية والإسلامية الأخرى ولا يزال، في الثمانينيات والتسعينيات وما يزال الأمر مستمرا في العراق وسورية واليمن ولبنان والصومال... وغير ذلك مما يكاد يختص بخارطة عالم المسلمين.
فالمتأمل في الأعماق والذي يحاول إجراء مقارنات ومقاربات قد لا يجد كبير فرق، في التاريخ المعاصر والقريب منا جدا، بين الدور المصنوع والمتكرر وما انتهت إليه الأمور، إن كانت قد انتهت، ولكن يبقى السؤال
[ ص: 18 ] الكبير كامنا في قوله تعالى:
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) فأين الادكار؟!
والشيء المحزن حقا، والعلة الذهنية تكاد تكون واحدة وإن تعددت أشكال وألوان إفرازاتها، أنه على الرغم من أن المفكرين والخطباء والكتاب والمنـابر والمحـاريب والدعاة والوعاظ يملأون المجتمعات الإسلامية، مع ذلك نجد أن المجتمع ما يزال هشا في هذه القضايا، وسريع العطب، ينساق وراء عـواطفه وأمنيـاته، لذلك نراه دائما يسقط عند الصدمة الأولى.. فأين سبب المشكلة؟
إن معظم تلك القيادات على أحسن الأحوال لم تبصر علل الأمة الحقيقية، ومن ثم فهي لم تحسن العلاج، وإنما هي تعيش خارج الموضوع، والسؤال الكبير: هل فكر زعيم أو خطيب أو داعية أو كاتب أو... أن يختبر جدوى فعله وفعاليته وسلامة وسـائله وأثره ومدى تحقق مقاصده، ولو لمرة واحـدة؟ أم أننا جميعا نهوى الحراثة في البحر والسباحة بدون شواطئ والسفر بدون بوصلة؛ لأن الهروب من التقويم والمعايرة والمراجعة يعفي من المسؤولية؟
لقد مرت في تاريخنا المعاصر تجارب كبرى ومريرة، ما تزال آثارها محفورة في نفوسنا، ومقابرها تملأ أرضنا، وتكاد تتمحور جميعا حول رؤية واحدة وإصابات متكررة، فأين الدراسات؟ وأين الاعتبار؟ أين التقويم والمراجعة؟ أين النقد واستشعار المسـؤولية والاعتراف بالخطأ؟ أين نجحنا؟ وما دلالة النجاح، إن كان هناك نجاح؟ وأين أخفقنا؟
[ ص: 19 ]
لقد أخفينا فشلنا حتى نضمن الاستمرار في الزعامة، ولو كان ذلك يؤدي إلى التهيؤ لفشل جديد!!
والزعامات فينا غالبا ما تبنى وتأتي من الاختباء وراء كلمات فخمة يملؤها التحدي للشرق والغرب والشمال والجنوب، واستخدام مصطلحات ذات ضخامة ندعي فيها الشجاعة والتميز والبطولة في الفراغ، فالزعامة والقيادة أصبحت عندنا صناعة كلامية قادرة على أن تختار المفردات والأشعار، وتسعى إلى معاودة إخراجها وإنتاجها من جديد، وتظن أنها من مواصفات الزعامة والقيادة والريادة!! والأنكى من ذلك أننا نصر عليها، وهي التي تسلمنا من هزيمة إلى هزيمة ومن فشل إلى فشل....
ولعل الأشد خطورة أن الكثير ممن يفتون بأمر المسلمين وينظرون في شؤونهم لا علاقة لهم بالفقه والعلم، وكل كسبهم الفقهي ومؤهلاتهم أنهم يحملون هوية بعض التنظيمات الإسلامية، وبهذا الانتساب يسوغون لأنفسهم التطاول على الأحكام الشرعية وتنـزيلها على واقع الناس وتشويه صورتها والعبث بها والقفز إلى مواقع القيادة والمسؤولية، وقد تكون المفارقة عند بعضهم في أنهم يغادرون اختصاصاتهم وما تعلموه لإفادة الأمة في مواقع اختصاصهم إلى التعاطي مع ما لم يحيطوا بعلمه، وبذلك يكرسون التخلف والفشل والتراجع، ويشكلون أدلة واضحة عليه، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.
والإشكالية الكبيرة أننا لسنا أفضل ولا أحسن حالا من الآخرين الذين نناصبهم الخصومة، فبعض القيادات والزعامات مصرة على الاستمرار أكثر من إصرار الحكام الظلمة في أنظمة الاستعباد والاستبداد السياسي، وهي غير
[ ص: 20 ] مؤهلة لإبصار الواقع وفهمه وتحليله وقراءة المستقبل والإعداد له.. بل لعلنا نقول: إنها تفاجأ بكثير من القضايا والمشكلات والنوازل كما يفاجأ العامة من الناس؛ وقد تكون أكثر عجزا عن إدارة الأزمات والتعامل مع المشكلات، لذلك فهي تقود إلى مزيد من الإشكال والتأزيم.
وهنا ابتلاء من الابتلاءات الكبيرة، التي يعاني منها عالم المسلمين على مختلف الأصعدة، وهو إدراك الأعداء من خلال قراءة التاريخ الطويل والقوانين الاجتماعية، التي تحكم الحياة والأحياء منذ فجر الإسلام، أن هذا الدين جاء استجابة لفطرة الإنسان، وكأن بينه وبين الإنسان في كل زمان ومكان تواعدا والتقاء، وأن المشكلة غالبا إنما تتمثل في العوائق، التي تحول بين الدين وفطرة الإنسان.. والنظرة السريعة إلى خارطة عالم المسلمين اليوم، وامتداد الإسلام في أرقى البلاد حضارة وتقنية وعلما وأدناها بداوة وتخلفا في السلم الحضاري تؤكد هذه الحقيقة، وأن انتشار الإسلام في معظم بلاد العالم إنما كان ثمرة الدعوة والقدوة والأنموذج الصالح، وأنه حوصر وحجز وتوقف عن الامتداد بسبب الظلم والطغيان والاستبداد والحصار.
ومن هنا أدرك أعـداء الإسلام وخصومه أنه لا يحد من انتشار الإسلام إلى البلاد التي لم يصل إليها، ولا يحد من نموه وإحيائه في بلاده ومحاولة المسلمين لاسترداد حضارتـهم إلا إلغاء الحرية، وإشاعة مناخ الاستعباد والاستبداد السياسي، وتحويل بلاد المسـلمين إلى مخافر ظاهرة وباطنة، وإشاعة الجوع والخوف، ودعم الانقـلابات العسكرية، التي تكاد
[ ص: 21 ] تختص ببلاد المسلمين والتي تستهدف أول ما تستهدف قيم الدين، في التربية والتعليم والثقافة والإعلام، لكن بشكل خفي وخبيث، لا يستثير العامة، ويتعهد العاملين للإسلام بالمطاردة والسجن والاعتقال وعدم التوظيف والقهر بالسلاح.
ولعلنا نقول هنا: إن أول تجربة حملت الكثير من الأبعاد وحققت الكثير من الأهداف المرسومة لها هي الإتيان بأيديولوجية غربية وغريبة عن الإسلام والمسلمين فيما سمي بالعلمانية وزرعها في تركيا، مركز الخلافة الإسلامية، وحمايتها بالعسكر الأتاتوركي، الذي حاول القضاء على كل شيء يمت إلى قيم الإسلام بصلة، وكانت تجربة أغرت بنقلها إلى سائر أنحاء العالم العربي والإسـلامي بأقدار متفاوتة، ولم ينجو منها بلد تقريبا، إلا من رحم الله.
وهنا حقيقة لا بد من الإشارة إليها ولو بقدر، وهي أن الإتيان بالأنظمة الاستبدادية والقمعية التي حكمت بلاد المسلمين باسم القومية واليسارية والاشتراكية والعلمانية كانت وراء ظهور نزعات العنف والتطرف والإرهاب، تلك النزعات التي جاءت نتيجة ردة فعل طبيعي لتطرف وعنف وإرهاب السلطات الحاكمة.
كما أن ما أسمي في بلاد المسلمين بالاتجاهات القومية والعلمانية والاشتراكية كانت في حقيقة الأمر قناعا يخفي الواقع ويغطي حكم الأقليات والطوائف الموجه أساسا لعزل الإسلام عن حياة الأمة.
[ ص: 22 ]
لقد كان الإنجاز الوحيد لهذه الأنظمة الاستبدادية التمكين لإسرائيل وإيقاظ النـزعات الطائفية والعرقية والمذهبية والإثنية على حساب الأكثرية وتفتيت الوحدة الوطنية الجامعة.
إن تاريخ الأمة المسلمة لم يعرف هذه النزعات الطائفية والمذهبية والأقلية والأكثرية قبل اغتصاب هذه الأنظمة للشأن السياسي وإقصائها لغير أبناء طائفتها، والغريب هو الاستمرار بالمخادعة حيث تحاول اليوم اتهام غيرها بذلك (رمتني بدائها وانسلت) وتلك من المفارقات العجيبة.
والعجيب الغريب أن أعداء الإسلام يسكتون عن ممارسات وأفعال هذه الأنظمة القمعية الطائفية عمليا، حيث إن أمرها لم يعد خافيا، ويتحولون إلى التخويف من الاتجاه الإسلامي، ويحذرون من حضوره المستقبلي، ويبنون مواقفهم وسياساتهم على الوهم واتهام النوايا، في الوقت الذي يعايشون يوميا أفعال القمع والاستبداد وانتهاك كرامة الإنسان وإهدار حقوقه من قبل حكام الاستبداد السياسي والاستعباد الاجتماعي.
لقد كانت معادلة الإتيان بالعسكر وحكم العسكر والتحدي بالقوة والسلاح والأمن والمواجهة، أن دفعت بالكثير، من خلال استشعار حالات التحدي واليأس، إلى التوهم أن الحل هو في المواجهة وامتشاق السـلاح، دون التبصر بالإمكانات المتوفرة والوسائل المطلوبة والظروف المحيطة والإعداد المناسب.
[ ص: 23 ]
لقد أدت عسكرة معظم الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، تحت شيء الأسباب والمعاذير وفي مقدمتها محاربة إسرائيل، أدت في الحقيقة والواقع إلى حماية إسرائيل، وقتل روح الأمة وإلغاء قيمها ومطاردة عقيدتها، التي تضمن حياتها ومقاومتها وبقاءها؛ والأنكى من ذلك أن القتل يتم تحت شعار المقاومة!!
وكان من لوازم هذا الضغط والاستبداد وانعدام الحرية وإهدار الحقوق قيام المواجهات هنا وهناك، والتحول إلى ردود الفعل بدل الفعل الواعي، وصناعة التطرف لتكون مبررا ومسوغا لرمي الدعاة بدائها ومطاردتهم في أوطانهم وأرزاقهم وأعمالهم، فحل التطرف بكل مسالكه وإفرازاته.
لذلك نقول: إن عسكرة العالم الإسلامي آتت أكلها تماما، ولم ينطل على الناس تغيير أثواب الحكام العسكرية واستبدالها بالثياب المدنية.
وللحقيقة نقول: إن أعداء الإسلام فهموا كيف يتعاملون معنا، وبقينا بنخبنا غير المؤهلة عاجزين عن فهم كيف نتعامل معهم، وتركنا ما نملك من قوة وتأثير وحق إلى ما لا نملك من صور المواجهة، فمنينا بالهزائم المتتالية.
وبالإمكان القول: إن رد الفعل لاستخدام القوة والإتيان بالعسكر لحكم العالم الإسلامي أدت -كما أسلفنا- بالمقابل إلى عسكرة مفاهيم الإسلام، واستنفار المسلمين للمواجهة، واقتضى الغطاء الشرعي الانتقاء من الآيات والأحاديث، والانتهاء إلى التأويل الجاهل والتحريف الباطل والمغالاة، والعبث بالأحكام الشرعية، وتنـزيلها على الواقع دون أية مؤهلات علمية
[ ص: 24 ] أو فقهية أو عقلية -كما أسلفنا- وأدى الأمر إلى الكثير من الممارسات الشاذة والمحظورة والمحرمات باسم فقه الضرورات التي تبيح المحظورات.
وبذلك شوهنا صورة الإسلام بأيدينا، وحاصرنا امتداده والاقتناع به، وبدل أن يهرب الناس إلى الإسلام ويجدوا أنفسهم في رحابه بدأوا يهربون منه.
هذا عدا عن تغذية هذه العسكرة واستخدامها وقودا في اللعبة العالمية، واستنفار شباب وأموال العالم الإسلامي، حتى لا تقوم له قائمة مستقبلا، ليكونوا وقود ذلك وتنكشف مواقعهم وتوضع الخطط للمكر بهم.
ولعلنا نقول هنا: إن ما نلاحظه من المدافعة بكل أشكالها عبر التاريخ الإنساني بشكل عام وتاريخ النبوة بشكل خاص، ومنه بعض الظواهر من العنف والمواجهة والصراع هو من سنن الله في الأنفس، فلو أحسنا تسخير سنن المدافعة بين الحق والباطل، وكيفية مغالبة قدر بقدر لأوصل ذلك إلى حماية الحق ونصرته، يقول تعالى:
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40).
فصراع النبوة مع الملأ والكبراء والفراعنة والمستبدين هي من سنن المدافعة بين الحق والباطل، يقول تعالى:
( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) (الرعد:17)، ويقول:
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) (الفرقان:31).
فلقد صبر أولو العزم من الرسل فذهب الطغاة، وامتدت النبوة، وظهر الحق وزهق الباطل.
[ ص: 25 ]
لكن المواجهة في العصر الحديث كانت الأظهر عند إقامة إسرائيل وتحضير الظروف لقبولها واستمرارها، وإيجاد شبكة من المسؤولين الضامنين لأمنها، حتى أصبح ذلك شرطا وعربونا للوصول إلى استلام السلطة والاستمرار فيها، حيث تفاتح به اليوم الأحزاب والجماعات من قبل القوى المتحكمة في العالم، الضامنة لأمن إسرائيل.
وقد يكون من المفيد في هذا المجال أن نذكر بما يمكن أن يكفل تفسير الكثير من ممارسات أنظمة الاستبداد السياسي، ولعل ذلك بدا واضحا عندما قامت بعض فصائل العمل الإسلامي بجهاد مقدر في مدافعة الاستعمار الإنكليزي في قناة السويس وعلى أرض فلسطين وما قدمته من التضحيات، التي أذهلت المراقبين ونبهت إلى خطورتهم المستقبلية على أمن إسرائيل واستمرارها، لذلك كان لا بد من وضع الدراسات والتقارير والخطط الكفيلة، التي تدمغ ذلك بالإرهاب والتعصب ومن ثم التخويف من صور التطرف والإرهاب القادمة، والتفكير الجاد بمراجعة مفاهيم التعليم وتدجينها وإخراجها من ساحة الجهـاد، ووضـع البرامج المناسبة لتجفيف المنابع.. ولا نزال نذكر حقبة السبعينيات وما نشرته الصحف والمجلات من دراسات عن مخاطر الاتجاه الإسلامي، وإيهام حكام الاستبداد في العالم الإسلامي، وخاصة العسكر منهم، بأن هؤلاء أخطر عليهم وعلى حكمهم منهم على إسرائيل، لذلك لا بد من التعاون، فكان المسلسل الخطير من المواجهات والمطاردات، الذي لـما ينته بعد.
[ ص: 26 ]
وهذا الكتاب، الذي يشكل محاولة جادة للإجابة عن سؤال النهضة واستدعاء منهج رائدين من رواد النهضة، وبسط شيء من سيرتيهما الذاتية وعوامل النشأة، والقيام بمقاربات ومقارنات لمنهجيهما، يمكن أن يصنف ضمن مشروعات بناء الوعي والمساهمة بالنهوض والإجابة عن السؤال المزمن والذي ما تزال الأجوبة المطروحة غير كافية ولم تتحقق بالقدر المطلوب من تقديم خارطة عمل تتضمن إمكانية صناعة النهوض وتحديد الخلل وكيفية التعامل معه.
كما يمكن تصنيفه في إطار مكتبة النقد والتقويم والمراجعة والفكر المقارن، الأمر الذي أصبح يعتبر لازمة من لوازم التصويب والتسديد واكتشـاف العلل ومحاولة معالجتها قبل استفحالها، وأخذ العبرة والوقاية لعدم تكرارها.
وقد يكون من الإنصاف أن نقول: إن الداعية الكبير "فتح الله جولن" شكل مع إخوانه في تركيا، في الحقول الدعوية والثقافية والسياسية الأخرى أنموذجا يحتذى، حيث أدركوا أن المواقع المجدية والمؤثرة هي في مجال صناعة خمائر التغيير والنهوض في تركيا العلمانية بكل هدوء وابتعاد عن المواجهة الفاشلة، وأدركوا أن الأمة المسـلمة تاريخيا إنما أخرجت من خلال كتاب ولم تتشكل من خلال الحراب، حيث كان الانحياز للقرآن، عندما ينفصل السلطان عن القرآن، والظفر بالمجتمع، لذلك كان ميدان التغيير والمجاهدة هو المجتمع بكل استحقاقاته، وكان الجهاد الكبير بالقرآن
( وجاهدهم به [ ص: 27 ] جهادا كبيرا ) (الفرقان:52)، ومعاودة ربط الأمة بالقرآن، بكل معطياته ومقاصده وتربيته وتزكيته ودعوته للإنسان، فبدأوا العمل بالعمق الاجتماعي وبناء الرؤية المستقبلية وتركوا العبث بالسطح الاجتماعي والسياسي للأيدلوجيا الجديدة أو الدين البديل، العلمانية الأتاتوركية، بعسكرها المدعوم من الغرب وسواعدها القوية الممسكة بالسلاح.
لقد أبصروا أن الجهاد إنما هو بالقرآن، بكل أبعاده، وأن هذا الجهاد هو سبيل الخروج من النفق، وليس المواجهة الخاسرة مع أقوى جيش وأخطر تغريب أقيم على أنقاض الخلافة الإسلامية؛ بدأوا بالمجتمع وعزلوا السلطان عن ضمير الأمة، وأخذوا مواقعهم في خدمة المجتمع والتدرب على إدارته حتى وصلوا إلى القمة بهذا الجهاد، الذي يمثل حقا القوة الناعمة، التي تثير الاقتداء، واستطاعوا استرداد الهوية وإحياء قيم الدين دون أن يخسروا ولو نقطة دم واحدة.
فهل يكون الأنموذج الدعوي الثقافي والسياسي التركي هو أحد النماذج المعاصرة، التي تصلح للدراسة والإفادة منه؟
وما أدري، لماذا نعدل عن النماذج الدعوية الثقافية الناجحة إلى نماذج المواجهة غير المتكافئة، الخاسرة؟ وهل هذا بكامل إرادتنا واختيارنا، أم أن الحقيقة أنه ليس لنا من الأمر شيء؟ إنما هي معارك ومعادلات دولية وتصفية حسابات نزج بها، وتستعار تضحياتنا المتميزة، وتصرف أموالنا، ويكرس التخلف في بلادنا وإنساننا لنبقى أدوات للاستعباد، وتزرع فينا حواس الذل، ويسهل علينا الاستبداد؟!
[ ص: 28 ]
وقد نقول: إن المقاربة والمقارنة والتقويم والمراجعة تتطلب -فيما نرى- عدم الاقتصار على البحث في المنهج وظروف النشأة والرسالة والرؤية والفعل، وإنما كان المطلوب أن يعرض الباحث لبعض الإخفاقات والجوانب السلبية؛ لأنه ما من إنسان إلا ويؤخذ من كلامه ويرد، إلا يعرف منه وينكر، فأين ما يرد إلى جانب ما يؤخذ؟ تلك فجوة كبيرة وخطيرة في دراساتنا، ما يزال العقل المسلم مسكونا بها، وإلا فكيف نحقق الاعتبار والوقاية الحضارية ونصنع الارتقاء؟ هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن عقد المقارنة والمقاربة بين الداعية "فتح الله جولن"، حفظه الله، و"مالك بن نبي"، رحمه الله، احتاج من الباحث إلى الكثير من الجهد في محاولة لتطويع المنهج للوصول إلى المشترك بينهما، فمالك مفكر في الجزائر المستعمرة من قبل فرنسا، بمشكلاتها اللغوية والعرقية والثقافية والشرعية، استطاع أن ينمي الحواس، ويوقظ العقل المسلم، ويقدم له أبجدية لقراءة الواقع واستيعاب شبكة العلاقات الاجتماعية، ويبصره بالوجهة المستقبلية للواقع القائم، حتى يدرك أعماقها وسننها الاجتماعية، بينما الداعية "فتح الله جولن" له ظروف نشأته وتحديات مجتمعه، لذلك جاء منهجه في حقل آخر، وإن التقيا بمشترك عام للمصلح والمفكر والداعية الإسلامي المنطلق من مرجعية الكتاب والسنة.
ويبقى أن نقول: إن دراسة حركات وأعلام التجديد وتقويم مسيرتها ونقد مناهجها هو المساهمة الحقيقية في بناء الوعي والارتقاء بالواقع الإسلامي، والتدريب على النقد واكتشاف مواطن الخلل.
[ ص: 29 ]
إن من الخطورة بمكان اختزال الإسـلام في شخص أو جماعة أو تنظيم أو زمان أو جنس أو جغرافيا، وقد بلغ ما بلغ الليل والنهار وجاء خطابه عالميا عاما، ومن ثم العبث في أحكامه، وتفصيلها وقولبتها حسب تصور أي جماعة أو تنظيم محكوم بظروف زمان ومكان بعينه.
لقد جاء الخطاب الإسلامي في الكتاب والسنة للناس، كل الناس، المؤمن والكافر، في كل الأوقات، لذلك لا يجوز اختزال تاريخه الحضاري بمفهوم أو مصطلح أو تفسير أو مذهب أو جماعة، وعسكرة أحكامه الشرعية وتاريخه الثقافي، كرد فعل لظرف موقوت؛ فالإسلام ليس حكرا على أحد من البشر؛ واختزاله في جماعة أو تنظيم أو طائفة وإخراجه من المجتمع ليكون اتجاه جماعة أو تنظيم أدى إلى إساءات خطيرة، ومحاصرات كبيرة، وأنشأ فهوما معوجة وخسائر فادحة.
وحملة العلم العدول من كل خلف هم المنوط بهم العودة بمفاهيم الإسلام النقية إلى الأمة، والعودة بالأمة إلى الكتاب والسنة.
[ ص: 30 ]