المبحث الأول
محطات في حياة ابن نبي وجولن
المطلب الأول: محطات في حياة مالك بن نبي:
ولد "مالك بن نبي" عام 1905م/1323هـ في مدينة قسنطينة، وهي من أعرق مدن العلم والتدين في الجزائر. نشأ في أسرة (فقيرة) في المال، (غنية) في التدين والمحافظة وحب العلم والمعرفة، فقد كان أبوه موظفا بسيطا في إحدى الإدارات الحكومية في مدينة (تبسة)، وكانت والدته تساعد زوجها في رفد ميزانية الأسرة من خلال عملها الخاص كخياطة. وبلغ الفقر بهذه الأسرة إلى حد أنها لم تكن تستطيع في بعض الأحيان دفع أجرة الكتاب لولدها "مالك"، فتولت والدته رهن سريرها مقابل المبلغ المطلوب في أحد الأشهر، وهذا يؤكد غنى الأسرة في الاهتمامات العلمية.
بدأ رحلة العلم من فترة مبكرة من عمره المديد، حيث تعلم القرآن في أحد الكتاتيب، وعندما وصل إلى سن الدراسة النظامية، واصل الدراسة في الكتاب من بعد الفجر حتى يحين وقت الدراسة في الثامنة صباحا، حيث انخرط في مدرسة فرنسية من المدارس الكثيرة التي كانت منتشرة آنذاك لفرنسة الشعب الجزائري.
[ ص: 37 ]
بسبب عمل والده في مدينة تبسة انتقلت الأسرة إلى هذه المدينة، وهناك تعلم "مالك" حتى أنهى المرحلة الإعدادية (المتوسطة) سنة 1918م. وبسبب تفوقه الدراسي حصل على منحة لدراسة الثانوية، فاختار مدينته الأم قسنطينة، ورغم سفره إليها عام 1918م فلم يدخل المدرسة وقسمها الداخلي إلا في العام الدراسي 1921 / 1922 م حيث يبدو أنه ظل يتأهل لدخولها، وكان يحضر مجالس العلماء، واقترب في هذه الفترة من جمعية العلماء المسلمين، التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان يحضر بعض فعالياتها، وهي الجمعية التي لعبت الدور الأكبر في استنقاذ العروبة والإسلام من الطمس والاجتياح الثقافي الفرنسي.
وانخرط في التعلم الذاتي، وخاصة في هذه المرحلة، حيث كان يتعلم العلوم التقليدية على أيدي بعض المشايخ، وتعلم العلوم الحديثة على يد أستاذ فرنسي، وفي ذات الوقت كان شديد الإقبال على قراءة الكتب الثقافية المتنوعة، ويبدو أنه اكتسب بسببها العقلية التحليلية في الفهم والغربلة والنقد، إذ كانت قراءاته كثيرة وشديدة التنوع، ولو كان يقرأ في اتجاه واحد، فلربما لم يكن قد اكتسب العقلية التحليلية التي نجح بواسطتها في تحليل الحضارات تشريحا ومعالجة.
أكمل الثانوية سنة 1925م، وفكر بالمستقبل، فسـافر مع صديق له إلى فرنسـا، كعادة كثير من الشبان الجزائريين آنذاك للبحث عن عمل لائق، ولما لـم يجـد عمـلا مناسبا عاد إلى الجزائر، وبحث عن عمل في
[ ص: 38 ] بلاده، حـتى حصـل على وظيفة كاتب محكمة سنة 1927م، ولخلافات مع بعض مسـؤوليه في العمل قـدم استـقالته من وظيفته، وعلى إثر ذلك اشترك مع صهـره وشخص ثالث في مطحنة كمشروع خاص، ولكن الأزمة الاقتصادية التي وقعت في العالم سنة 1929م وسميت بالكساد العظيم، يبدو أن رياحها وصلت إلى الجزائر، وكان من آثارها بيع "مالك" وشريكيه للمطحنة.
واقترح عليه بعدها والداه الذهاب إلى فرنسا لإتمام دراسته أسوة ببعض الجزائريين، فسافر سنة 1930م وحاول في البداية دخول معهد الدراسات الشرقية، لكنه لم يقبل لأسباب سياسية كما أورد في مذكراته، فسجل نفسه في معهد اللا سلكي وتخصص في قسم الكهرباء ليتخرج مهندسا كهربائيا سنة 1935م، لكنه آثر هندسة الحضارات، وإضاءة المجتمعات بأفكاره التجديدية، وكهربة وطنه بكتاباته التنويرية.
في بداية دراسته وبالذات في عام 1931م تعرف على فتاة فرنسية محترمة وتزوجـها، فاعتنقت الإسـلام متأثرة به حيث كان قدوة حسنة؛ إذ أحسن تمثل قيم الإسلام وتسمت باسم خديجة، ولم يخلف منها حيث كانت عقيـما، واستمرت معه إلى أن سافر إلى مصر سنة 1956م، حيث لم يعد إلى فرنسا نهائيا، ولم تغادر هي بلادها، وفي تلك الأثناء تزوج من إحدى قريباته في الجزائر وخلف منها فتاتين.
[ ص: 39 ]
أثناء دراسته في باريس، ثم أثناء عمله بعدها، صار شعلة من النشاط في حقول الفكر والثقافة والسياسة، وبالذات في ما يرتبط بمحاربة الاستعمار ونشر الوعي العام، ولذلك واجه في عمله صعوبات عديدة. وكان أن تعرف على شخصيات فرنسية وجزائرية وأجنبية كبرى في تلك الحقبة من حياته، وحاور بعضها عن قرب.
بعد تخرجه مهنـدسا ظل نحو عقـدين من الزمن في فرنسـا، فعمل في عدة أعمال، لكنه لم يجد نفسه إلا في الكتابة، حيث عمل مراسلا لصحيفة لوفيجارو - كما تذكر بعض المصادر - وبدأ منذ عام 1947م بتأليف الـكتب باللغة الفرنسية، واستمر على ذلك حتى انتقل إلى مصر سنة 1956م من أجل ترجمة وطباعة كتابه "الفكرة الأفروآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج".
وفي مصر قررت له الحكومة المصرية مرتبا، فاستقر فيها، وطبعت وزارة الإعلام كتابه آنف الذكر، وتنقل محاضرا في أقاليم ما كانت تسمى بالجمهورية العربية المتحدة ولاسيما في سوريا، بعد أن أعاد تعلم اللغة العربية في القاهرة وفي مكة المكرمة، وبعثها في ذاته من جديد!
بقي في مصر متفـرغا للكتابة والمحـاضرة والتأليف من عام1956م إلى عام1963م، عنـدما عاد إلى بلاده بعد استقلالها سنة 1962م عن فرنسـا، وأصبح مديرا للتعـليم العالي إلى أن استقال منه سنة 1967م،
[ ص: 40 ] تفرغ بعـدها للعمـل الفـكري وكان غزير الإنتـاج إلى أن توفاه الله يوم 31 أكتوبر1973م
>[1] .
ترك عددا كبيرا من التلاميذ والمتأثرين بفكره، ومنهم: اللبناني عمر مسقاوي، الذي قام بجمع تراثه ونشره والمحافظة على حقوق ورثته، والمصري د. عبد الصبور شاهين والذي ترجم أكثر كتب ابن نبي من الفرنسية إلى العربية.
ومن هؤلاء: الجزائري رشيد بن عيسى، الذي ظل وفيا لأفكار مالك رغم انتمائه فيما بعد لتيارات إسلامية حركية أبرزها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهناك أيضا المفكر السوري جودت سعيد الذي حاول أن يقتفي آثاره في مؤلفاته، وقد قدم له ابن نبي كتابه المعروف: "حتى يغيروا ما بأنفسهم"
>[2] [ ص: 41 ] وهو الكتاب الذي عنونه جودت سعيد بهذا الجزء من الآية القرآنية التي أكثر "ابن نبي" من الاستدلال بها كما لم يفعل مع أي آية أخرى.
وترك أيضا ثروة فكرية ضخمـة تركزت في عدد من الكتب، وهي: بين الرشاد والتيه، تأمـلات، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، شروط النهضة، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، الظاهرة القرآنية، الفكرة الإفريقية الآسيوية، فكرة كمنولث إسلامي، في مهب المعركة، القضايا الكبرى، مذكرات شاهد للقرن، المسلم في علم الاقتصاد، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مشـكلة الثقـافة، من أجل التغيير، ميلاد مجتمع، وجهة العالم الإسلامي.
و"سلسل مالك بن نبي كتبه تحت عنوان: (مشكلات الحضارة)، وقد درس فيها مشاكل العالم الإسلامي، ومحض مشكلة الاستعمار بشكل خاص، فوصل إلى نتيجة مهمة هي: أن محصلة عوامل التخلف من جهل وفقر ومرض وأوثان وانحطاط وانتكاس في مجتمع ما بعد الموحدين أدت إلى الاستعمار. وبين أن الاستعمار ليس ظاهرة خارجية بقدر ما هو ظاهرة داخلية، تدعمها أسباب اجتماعية، وأطلق على مجموع هذه العوامل التي تنخر المجتمع من الداخل اسم: (القابلية للاستعمار)
>[3] .
[ ص: 42 ]