المطلب الثاني: محطات في حياة فتح الله جولن
>[1] :
- ولد محمد فتح الله جولن في 11 نوفمبر 1938م من أسرة متدينة تنتسب إلى آل البيت، في قرية تنتمي إلى محافظة "أرضروم"، وهي من أكثر المناطق تدينا ومحافظة في تركيا، فقد اعتنقت الإسلام مبكرا على يد الرعيل الأول من الصحابة الكرام أيام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقع هذه المحافظة في شمال شرق هضبة الأناضول، ومن تدابير القدر أن فتح الله ولد في اليوم الثاني لموت مؤسس العلمانية في تركيا مصطفى كمال أتاتورك!
- بدأت أمه رفيعة هانم بتعليمه القرآن وهو ما زال في السنة الرابعة من عمره، وواصل دراسة القرآن حتى فهمه وأتم حفظه، أما أبوه رامز أفندي فقد علمه أسس علوم الشريعة وقواعد اللغتين العربية والفارسية، بحكم أن كثيرا من المؤلفات الإسلامية التراثية ألفت بهاتين اللغتين.
- بدأ فتح الله يدرك مشاكل المسلمين من خلال مجالس أبيه التي كان يحضرها بعض الصلحاء من قريته ومنطقته، حيث كان إماما لأحد المساجد، وبدأ الابن يتعامل مع القضايا الإسلامية بروح المسؤولية فكان شيخا في إهاب طفل. وكان العمود الرئيسي في المبنى العلمي لجولن هو القراءة والتعلم الذاتي، وبهذا تتلمذ على أيدي الغزالي وابن تيمية وابن القيم وأبي حنيفة
[ ص: 43 ] والشافعي وغيرهم من القدامى، وأمثالهم من المحدثين كحسن البنا وسيد قطب والمودودي ومحمد إقبال وبديع الزمان النورسي وغيرهم، وقد أخذ من الجميع وترك، وبالتالي أوجد ذاته المستقلة المتميزة. وبقدر اهتمامه بالعلوم التي هي غذاء العقل، فقد اهتم بمجالس الذكر التي هي غذاء الروح، ومن هذه المرحلة المبكرة بدأ التوازن الشديد عنده بين العقل والروح.
- حصل على الشهادة الابتدائية النظامية عن طريق التعلم عن بعد، لكنه كان أكبر من المدارس الحكومية، حيث سعى للاستفادة ممن بقي من أهل العلم الشرعي، فكان دائم الطلب، دائب الحركة للبحث عن هؤلاء، وكان كثير التنقل من واحد إلى آخر، نظرا لأنه لم يجد من يشبع نهمه، فقد كان بحرا يطلب المدد من سدود أو بحيرات في أحسن الأحوال. جمع في تحصيله العلمي بين العلوم الشرعية التقليدية والآداب وعلوم الاجتماع والنفس، وانفتح بعدها على كل علوم الغرب، بما فيها العلوم المادية كالفيزياء والكيمياء والفلك.
- أثناء رحلة الطلب تعرف في طريق قطاره على رسائل النور سنة 1957م، وكان عمره 19 سنة، وهي لمجدد تركيا قبل جولن: بديع الزمان سعيد النورسي . وفي هذه الرسائل وجد ضالته، وأشبع نهمه، وروى ظمأه، ولذلك أحب بديـع الزمـان حبا جما، فصار أحد أنجب تلاميـذه، رغم أنه لم يلتق به وجها لوجه أبدا، ومع ذلك تفوق على من تتلمذوا عليه مباشرة، في استلهام فكره.
[ ص: 44 ]
- بعد محاولات عدة استطاع الحصول على وظيفة رسمية، كإمام لمسجد، وكان نصيبه قد دفعه إلى مدينة أدرنة التي تقع في القسم الأوربي من تركيا (تراقيا الشرقية). وهناك تعرض لابتلاءات كثيرة لكنه استعصم من غوايات الشيطان بأمر الله وحبله المتين، فنجاه الله كما نجى يوسف من امرأة العزيز، وأنجاه كما أنجى إبراهيم، عليه السلام، من النار، لكنها هنا نار الشهوة والغواية المتحالفتين مع الشيطان!
- أثناء عمله كإمام في أدرنة طلب لأداء الخدمة، وعندما انتهى منها عاد إلى أدرنة مرة ثانية، وبقي فيها فترة، وعندما اتسع تأثيره وكثرت معارفه، اشتد عليه التضييق، فطلب من بعض معارفه في الإدارة الدينية في أنقرة مساعدته للانتقال من أدرنة.
- انتقل عمله إلى مدينة أزمير سنة 1966م التي تقع في جنوب غرب تركيا، وتطل على البحر الأبيض المتوسط، وهي أهم المضايق الجاذبة للسياحة الخارجية والداخلية، ولذلك تكاد أن تكون أكثر المدن التركية تغربا، وبهذا أضافت هذه المدينة طاقة إلى طاقة التحدي التي امتلأ بها جولن، كحال حسن البنا مع مدينة الإسماعيلية في مصر.
- عين مديرا لمدرسة دينية تابعة لأحد المساجد في أزمير، وهي تتبع الحكومة رسميا، لكن تمويلها كان يأتي من جمعية خيرية شكلها الأهالي لهذا الغرض، ومن هنا التفت إلى أهمية الأهالي في تمويل مشاريع الخدمة التي أسسها فيما بعد.
[ ص: 45 ]
- بدأ يتحرك في أزمير على أكثر من صعيد، حيث كان يخطب، ويؤم، ويعظ، وأسس في تلك الأثناء جمعية "الانبعاث"، لكنه سرعان ما عاد وحلها، لما رأى عدم انسجام مؤسسيها، وعدم وضوح الغايات من إيجادها، وبالتأكيد أنه استفاد من هذا الدرس السلبي بطريقة إيجابية.
- تولى جمع التبرعات من أصدقائه ومعارفه التجار، من أجل بناء أول ثانوية للأئمة والخطباء في أزمير، ومبنى للمعهد الإسلامي للتعليم العالي التابع لجامعة أزمير، والذي كان مبناه متهالكا، وبذلك ذاع صيته، وزاد معارفه، ولاسيما وسط طلاب وأساتذة جامعة أزمير.
- ذهب للحج عام 1968م، وكانت عودته من مكة إلى أنقرة، فدعي هو ومفتي أزمير لزيارة بعض البيوت التي أعدها طلاب النور لسكن الطلاب، وهناك أعجب المفتي بما رأى من أنشطة دينية واجتماعية للطلاب، فأخبر جولن أنه يريد مثل ذلك في أزمير، وهنا انطلقت شرارة فتح الله لتنير الكثير من الدروب المظلمة. وبدأ منذ عام1970م بإقامة المخيمات الصيفية للطلاب في أزمير وضواحيها.
- تأثر به في أزمير تلاميذ كثيرون من طلبة الجامعة والتجار، ويبدو أنه بدأ معهم عملا منظما منذ عام 1971م، وهو العام الذي تعرض فيه للاعتقال، بعد الإنذار الذي وجهه الجيش للحكومة، بحجة وجود محاولات من داخلها وخارجها للانتقاص من العلمانية الأتاتوركية.
[ ص: 46 ]
- قام في أزمير بحملة نشطة لبناء عدد من المساكن الطلابية، وانتقل بعدها إلى إيجاد معاهد الإعداد للجامعة، ولما كانت مخرجات هذه المساكن والمعاهد من أفضل الكوادر الطلابية، فقد توسعت في أنحاء تركيا خلال سنوات، حتى وصلت إلى كل الأطراف، فضلا عن اسطنبول وأنقرة.
- وكان منذ عام 1970م قد بدأ تنظيم مخيمات صيفية للطلاب، بالتعاون مع بعض من تأثر به وأحبه وآمن بأفكاره وطريقته في إصلاح الشباب، وانتقلت هذه العدوى إلى تركيا كلها فيما بعد.
- أصبح خلال هذه الفترة واعظا متجولا في كل مناطق جنوب غرب تركيا، إضافة إلى بعض المناطق الأخرى، ألقى خلالها آلاف الدروس العامة والخاصة، والمحاضرات، والمواعظ، وخطب الجمعة.
- وفي الفترة من 1970م إلى 1980م كان نشاطه قد وصل إلى الذروة، وكانت التيارات الإسلامية ذات الاتجاه السياسي كذلك نشيطة، إضافة إلى عوامل أخرى أدت بقائد الجيش كنعان إيفرين إلى الانقلاب على الحكومة الديمقراطية - التي كان نجم الدين أربكان أحد أعمدتها - وصار فتح الله جولن أحد المطلوبين للقبض عليهم .
- في الوقت الذي كان فتح الله مطاردا، قام بعض تلاميذه ببناء أول مدرسـة نموذجية للتعليم الأساسي سنة 1981م، وهـي مدرسة الفاتح، ثم توالت المدارس، وانتشرت في كل مدن تركيا.
[ ص: 47 ]
- ظل جولن متخفيا من عام 1980م إلى 1986م، وهذا منحه تفرغا للتركيز على بناء تلاميذه بناء فولاذيا، ليكونوا أهلا لتحمل المسؤولية، فكانوا لها أهلا.
- عندما وصل تورجوت أوزال إلى السلطة بعد عودة الديمقراطية سنة 1986م، حدث انفراج للحريات في تركيا، ولاسيما ما يرتبط بالأنشطة الإسلامية، فتصاعدت وتيرة عمل فتح الله وتلاميذه الذين صاروا يعرفون بتيار الخدمة، وظهروا منظمين، رغم نفيهم لكونهم تنظيما من أي نوع، فهم يصرون على أنهم أصحاب خدمة، ممن أحبوا هذا الدين وتأثروا بجولن، مسخرين طاقاتهم وأموالهم وأوقاتهم لخدمة وطنهم وأمتهم.
- بدأ جولن الوعظ في اسطنبول منذ عام 1977م، لكنه ظل ينطلق في كافة مناشطه وتحركاته من مدينة أزمير، التي طلعت منها (شمسه) رغم أنها تقع في (الغرب)، وهذه من عجائب فتح الله، وفي عام 1996م استقر نهائيا في اسطنبول.
- منذ أن وطأت قدماه أرض اسطنبول - عاصمة المسلمين طيلة قرون - بدأ فتح الله حملة واسعة لزيارة الصحف والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني ورجال الثقافة والإعلام والفن والرياضة، ثم دعا الجميع إلى موائد الطعام عند تلاميذه (أبناء الخدمة)، فتقابل المتخاصمون والمتنازعون لأول مرة وجها لوجه، واكتشفوا بمساعدة جولن أن المسافة بينهم ليست بذلك البعد التي كانت تبدو عليه من قبل.
[ ص: 48 ]
- أنشأ عام 1996م "وقف الصحفيين والكتاب" الذي أصبح مؤسسة عملاقة أقامت عشرات الفعاليات داخل وخارج تركيا حول الحوار بين الأديان والقوميات والمذاهب والطوائف، وتوزعت بين مؤتمرات وندوات وحوارات ومحاضرات، شارك فيها نجوم الفكر والثقافة والأدب والفن من بلدان إسلامية وغربية. ويتبع هذا الوقف عدد من وسائل الإعلام، ولاسيما المجلات الثقافية والفكرية.
- عندما وقع عام 1997م الانقلاب العسكري المبطن ضد الحكومة المنتخبة - التي قادها نجم الدين أربكان -، هاجر فتح الله إلى أمريكا وأقام فيها بضعة أشهر للعلاج، وعندما انقشعت العاصفة عاد إلى تركيا ليواصل دوره في قيادة تيار الخدمة الذي أصبح أحد أهم أسس النهضة التركية المعاصرة، ولاسيما المنتظرة منها، إذ يمتلك هذا التيار مئات المدارس النموذجية وعشر جامعات، وعشرات الصحف والمجلات والدوريات المختلفة، ومئات العمارات والبيوت السكنية للطلاب، وتسع قنوات فضائية، وعشرات المواقع الإلكترونية التي تتحدث بـ22 لغة عالمية، وأقسام للترجمة إلى أهم لغات العالم الحية (42 لغة).
- وبسبب وجـود مخاطر على حياة جولن من عدد من الأمراض القاتلة، ومن بعض الجهـات الخفيـة في تركيا التي تستهدف اغتياله لإحداث فتنة داخلية، فقد هاجر في مارس 1999م إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهـو منذ ذلك العام مقيم في ولاية بنسـلفانيا في بيت على
[ ص: 49 ] قمة جبل تحيط به غابة، يمارس الكتابة وتعليم تلاميذه علوم القرآن، رغم منع الأطباء له من ذلك.
- حصل عام 2008م على المركز الأول بين أكبر مائة شخصية هي الأكثر تأثيرا في ذلك العام على مستوى العالم، وذلك في استفتاء قامت به مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الذائعة الصيت في الأوساط الأكاديمية، بالتعاون مع مجلة "بروسبيكت" البريطانية المشهورة.
- أنشـأت له عدة جـامعات في الولايات المتحـدة وأستراليا وإندونيسيا كراسي باسمـه، ومـراكز علمية متخصصة بدراسة فكره، وأقيمت عنه وعن تجربته عشـرات المؤتمرات والندوات والورش النقاشية، إضافة إلى عشرات الرسائل الأكاديمية التي أعدت أو تعد عنه وعن جوانب متعددة من خبراته وتجاربه، ولاسيما في دائرة التعليم والتربية والعمل الإعلامي والاجتماعي.
- تعرض للاعتقال عدة مرات، وحوكم في بعضها، لكن براءته ثبتت في كل مرة من التهم المنسوبة إليه.
- ترك فتح الله آثارا ضخمة، توزعت بين الآلاف من شرائط الكاسيت وشرائط الفيديو التي احتوت على كثير من خطبه ومواعظه ودروسه ومحاضراته، وبين الكتب التي وصلت إلى خمسة وستين كتابا، ترجم بعضها إلى أكثر من عشرين لغة، منها الإنجليزية والبلغارية والألبانية والإندونيسية والروسية والكورية، وقد ترجم إلى العربية خمسة عشر كتابا من كتبه حتى الآن.
[ ص: 50 ]