العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

صفحة جزء
رابعا: معادلة (مادة النهوض) بين الواجبات والحقوق:

تشبه هذه الدرجة في سلم الصعود الحضاري الدرجة التي قبلها في أهميتها البالغة في إيجاد الفاعلية لمحاولات النهوض.

ومن يستقرئ كتابات ابن نبي يجد أنه يرسم خط الصعود الحضاري ومنحناه دائما عند الحديث عن الحقوق والواجبات، فالمجتمع الصاعد هو الذي يتسابق أبناؤه لأداء واجباتهم دون السؤال عن حقوقهم، والمجتمع [ ص: 72 ] المستـقر حضـاريا - وهـو الذي وصل إلى ذروته الحضارية وتوقف - هـو الذي تتوازن فيه الحقـوق والواجبـات، أما المجتمع الذي يتسابق أبناؤه للبحث عن حقوقهـم دون القيام بواجباتـهم فهو المجتمع الذي يسير في منحنى الهبوط.

ومن هذه الزاوية يعيد صعود المجتمع الإسلامي الأول - مجتمع الصحابة - إلى هذا العامل، حيث كان الصحابة يتسابقون على أداء واجباتهم بشغف بالغ، "إنه الطور الحضاري الموسوم بأروع أشكال التقشف التي كان الرسول، عليه الصلاة والسلام، مثلها الأعلى في حياته الشخصية والعائلية، وهو يتميز كذلك بالمواقف الأشد بذلا من صحابته - كأبي بكر وعثمان - الذين وضعوا ثرواتهم في خدمة الإسلام والمجتمع الإسلامي" >[1] .

ولشعوره بأهمية إنسان الواجب وبالذات في مراحل الثورات في تاريخ المجتمعات والأمم، وفي حـالة بلاده الجزائر، فقد كان شديد المعارضة لانخراط مجـاميع من الثوار في العمل السيـاسي تحت لافتة الاستعمار الفرنسي، لأنه لم يكن إلا صورة من صور الدهاء الاستعماري، كما أثبتت الأيام، لأن طبيعة العمـل السياسي تدفع الناس للتسـابق على نيل الحقوق، وهذا ما يكون غالبا على حساب الواجبات وهي وقود الثورات ضد الاستعمار وضد التخلف >[2] . [ ص: 73 ]

وقد أصيب الشعب الجزائري بخيبـة أمل كبـيرة من تلك التجربة كما يبدو من تحليل ابن نبي للأحداث، ولذلك أطلق الجزائريون على الصورة المزيفة من السياسة، وهي التي تتم تحت عين المستعمر وبتوجيه منه، أطلق عليها مصطلح (البوليتيكا).

ويعلق ابن نبي على هذا المصطلح فيقول: "إن هذه الكلمة طلقة رصاص تجاه المخادعة والنفاق، إنها مكنسة كنس بها الشعب المزابل التي تكومت في سوق (البوليتيكا). إنها كلمة انتقام وثأر! لأنها تثأر لمن تبقى لديه صفاء بصر على الرغم من الاختلاسات التي مرت.

إنها تثأر للذين نادوا بالواجبات ورفعوا أصواتهم فوق من ينادي بالحقوق فقط، كأنما الحق شيء يعطى مجانا.

فالفرق بين السياسة و (البلوتيك) هو ذلك: أولا: فعندما يرتفع الصخب في السوق، وتكثر حركات اليد واللسان، وعندما لا يسمع الشعب غير الحديث عن (الحقوق) دون أن يذكر بواجباته، وعندما يشرع بالطرق السهلة الناعمة، فتلك هي (البلوتيك)" >[3] .

ولهذا ما فتئ يؤكد على ضرورة العناية الفائقة بالتوازن بين الحقوق والواجبات: "فمن أجل دفع الآلة الاجتماعية في الحركة، أي من أجل تحقيق شروط الإقلاع، يجب أن يقوم التخطيط على مسلمة مدرجة كمبدأ عام [ ص: 74 ] لكل تشريع اجتماعي اقتصادي ألا وهي: "كل الأفواه تستحق قوتها، وكل السواعد يجب عليها العمل".

"فكل وطن متخلف يستطيع دفع عجلته على هذا الأساس الدستوري الذي يتكفل سائر الحقوق، ويفرض جميع الواجبات، ويحقق بذلك الحركة الاجتماعية التي تتغلب على كل نوع من الركود" >[4] .

هذا من أجل دفع الآلية الاجتماعية، أما من أجل الاستثمار الاجتماعي فهو يؤكد على نفس القانون: "يجب القوت لكل فم (حقوق)، ويجب العمل لكل ساعد (واجبات) "، ويعلق على ذلك قائلا: "والمسلمة الأولى (القوت لكل فم) تفرض منذ اللحظـة الأولى شروطا على الثانية لتطبيقها، إذ نحن لن نستطيع تشغيل السواعد كلها إذا لم نأخذ على عاتقنا إطعام الأفواه جميعا" >[5] .

ويرى أن هذا الطريق هو طريق استعادة المجتمع الإسلامي لفاعليته، وهو "أن يضع دفعة واحدة في أساس تخطيطه مسلمة مزدوجة:

أ - كل الأفواه يجب أن تجد قوتها.

ب - بجميع الأيدي يجب أن تعمل.

عندئذ سوف لا تكون أفكاره مثقله بعدم الفعالية؛ لأن الأيدي سادرة في تحريك عجلة ديناميتها الاجتماعية. [ ص: 75 ]

والمدافعون عنه سيأخذون باعتبارهم: "أنه ليس المطلوب الدفاع عن أصالة الإسلام، بل مجرد إعادة فعاليته إليه بتحريكهم قواه الإنتاجية" >[6] .

ومن أجل أن يكون المسلم مهتما بأداء واجباته كاهتمامه بأخذ حقوقه ينبغي أن يتم المزاوجة في بناء شخصيته بين الفكر والروح، وهذا موضوع المعادلة الخامسة.

التالي السابق


الخدمات العلمية