خامسا: معادلة (جنود النهوض) بين الفكر والروح:
إن القاعدة الصلبة التي ستتولى تحمل أعباء النهوض الحضاري بأمتها، لابد أن تجمع في بنائها بين الفكر والروح، ولهذا كانت أول سور القرآن (اقرأ) وثانيها سورة (المزمل) التي قال مطلعها:
( يا أيها المزمل *
قم الليل إلا قليلا ) (المزمل:1-2).
وعندما تتمازج الأفكار (العقلية) مع الأحاسيس (الروحية) والمشاعر (القلبية) بمقادير مناسبة فإنـها تكون ما يسميه مالك بـ (التوتر الداخلي) - أي الإيماني - مهما كان ما يؤمن به المجتمع .
ولذلك فإنه يعيد صلابة المجتمع الإسلامي في مواجهة حروب الردة، وفاعليته في إقامة دولته إلى هذا التوتر، فهو: "الذي يحدد خصائص مجتمع في منطلق حضارته، ويميزه عن مجتمع آخر في مرحلة ما قبل التحضر، أو ما بعد التحضر.."
>[1] .
[ ص: 76 ]
ولا يتوانى عن إطلاق مصطلح التوتر الداخلي على الإيمان الحي، لأنه يريد الإشارة إلى حساسية صاحبه ودفعه نحو مربعات الفاعلية، مثلما فعل عندما تحدث عن قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك التي اشتهرت بغزوة العسرة
>[2] .
"وفي هذا الجو المتوتر كانت الأفكار المطبوعة تضع بصماتها المقدسة في جميع الأفكار الموضوعة، وفي جميع المواقف، وفي جميع الأمكنة.."
>[3] .
وكمثال حديث لعملية البعث الفـكري والروحي، ضرب المثل بالحركة التي قادتها في الجزائر جمعية العلماء المسلمين سنة 1922م تحت قيادة عبد الحميد بن باديس، حيث كانت ما سماها بمعجزة البعث تتدفق من كلمات (بن باديس)، فكانت تلك ساعة اليقظة، حيث بدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك
>[4] .
وقد أوجدت هذه الحركة الإسلامية حراكا داخل المجتمع الجزائري، حيث بفضل دعوتها امتلكت كافة التيارات "إرادة الحركة والتجديد والفرار من الزوايا الخرافية إلى المكاتب العلمية، ومن الخمارات الحقيرة إلى مواطن أكثر طهارة وفائدة.
[ ص: 77 ]
ولقد كانت حركة الإصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس وأدخلها إلى القلوب، إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)
>[5] .
وقد وجدت جمعية العـلماء قبـولا واسعا لدى الشعب الجزائري لأنها اقتربت أكثر من فطـرة الشعـب ومن ثقافته وواقعـه، وكذا من سنن الله في التغيـير، بدمجهـا المتسـاوق بين الفـكر والروح، وبين الثقافة والأخلاق.
وتحت راية هذه الجمعية: "كانت الأمة تقدم تضحياتها لبناء المدارس والمساجد من أجل البعث الفكري والبعث الروحي، الذين هما عماد كل حضارة في سيرها الحثيث"
>[6] .
وبسبب عدم حدوث هذا التوازن في عـالم المسلمين المعاصر لاحظ ابن نبي "أن هنـاك انفصالا بين العنصـر الروحي والعنصر الاجتماعي، هناك افتراق بين المبـدأ والحياة. والمسـلم يعيش اليوم هذا الانفصـال الذي يمزق شخصه شطرين: شطر ينظم سلوكه في المسجد، وشطر ينظمه في الشارع"
>[7] .
[ ص: 78 ]
وقد شبه هذا الانفصام بـ (الدش الاسكتلندي)، لأنهم يصبون منه ماء ساخنا ثم يتبعونه بماء بارد
>[8] ، ولذلك عالج هذا الانفصام بتحليل دقيق، وتوصل إلى ضرورة الموازنة بين العنصرين الفكري والروحي
>[9] .
ولأن الأخلاق ثمرة طبيعية للجانب الروحي، فإنه ما فتئ يدعو إلى الجمع بين الثقافة والأخلاق، فقد حذر من خطورة العلم بدون أخلاق، وخصص فصلا عن (السياسة والأخلاق) بدأه بمقولة كاتب غربي عاش في القرن السادس عشر ويدعـى "رابليز" وهي: "العـلم بغير ضمـير ليس إلا خـراب الـروح"
>[10] وأكد فيه أن العـلم "إذا تجرد من الأخلاق فإنه يمر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي"
>[11] .
وختم هذا الفصـل بما سماه أقصى تلخيص وهو: "إذا كان (العلم دون ضمير ما هو إلا خـراب الروح) فالسياسـة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة"
>[12] .
[ ص: 79 ]
وللعـلاقة الوثيقة بين الثقافة والأخـلاق، فقد ذكر بأن تطور الثقافة في بلد ما يعني أن البذور الأخلاقية والجمالية فيه صارت أقرب إلى الكمال
>[13] .
ولأهمية الأخلاق والجمال في الحضارات، فقد أقام المعادلة الآتية:
- مبدأ أخلاقي + ذوق وجمال = اتجاه حضارة.
وعلق على هذه المعـادلة بالقـول: "وتعـد إذن هذه المعادلة مقياسا عاما يدل على اتجاه الحضارة، كما يدل ما يسميه علماء الرياضية (الدال lediseriminant) في المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية"
>[14] .
ولاهتمامه بدور الأخلاق مهما كان نوع الثقافة، فقد عرج على النموذج الشيوعي الذي طبقه في جمهورية كوبا زعيمها فيدل كاسترو، حيث وضع حوافز أخلاقية، بجانب الحوافز المادية مما أدى إلى إثراء الإنتاج، وإلى النجاح في تجاوز المؤامرات
>[15] .
وفي ذات السياق ظل يحث على استثمار الفكر في تنظيم الطاقة الحيوية للفرد، من خلال إعمال العقل بكل ملكاته، ومن ذلك تدبر القرآن الذي كان سـلاح المجتمـع الإسـلامي الأول، حيث قال: "وقد تم هذا العمل في المجتمع الإسلامي الأول بفضل رعاية الفكرة القرآنية، لا على أنها تدرس
[ ص: 80 ] وتعلم على يد فقهاء في الشريعـة، ولكن على أنها (حقيقة) عاملة مؤثرة، تجمع في نظامها مباشـرة كل ما يقـوم به الفرد من أعمال وإشارات، على ما جاء في حديث ابن عمر وحديث جندب، رضي الله عنهما: "لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتتنـزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها"
>[16] .
وكان وهو ينظر لميلاد المجتمع الإسـلامي من جديد في هذا العصر، قد ختـم كتابه بالتأكيد على أن الطريق هـو الطريق الأول وهو تدبر القرآن كأنه أنزل اليـوم، حيث قـال: "فنحن بحاجـة إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيـوية وتوجيهها، وأول ما يصادفنا في هذا السبيل هو أنه يجب تنظيم تعليم (القرآن)، بحيث (يوحي) من جديد إلى الضمـير المسلم الحقيقـة القرآنية كما لو كانت جـديدة، نازلة من فـورها من السماء على هذا الضمير"
>[17] .
وقريب من هذا السياق حثه على ضرورة الجمع بين المثالية والواقعية في كافة شؤوننا ومنها الشؤون السياسية، حيث قال: "إن كل سياسة تتطلب شيئا من المثالية توحي بمسوغاتها، وشيئا من الواقعية تحدد وجوه تطبيقها والطرق الفنية للإنجاز".
[ ص: 81 ]
"ويجب أن نلاحظ أن (المثالية) التي نتحدث عنها ليست صنفا من (السوريالية) وتجريدا يسبح فوق الواقع، فوق الشروط الحقيقية، فوق المعطيات الطبيعية لوضع معين، إنها لا تتنافى مع (الواقعية)، بل تقتضيها على مستوى كبير"
>[18] .
وعليه، فقد دعا إلى حل مشكلة الوحدة العربية في ضوء الجمع بين المثالية والواقعية
>[19] ، وفعل مثل ذلك مع مشكلة النفط
>[20] ، وبعد انتهائه من معالجة هذه المشكلة أكد على ذات القاعدة بقوله: "ولابد أن نكرر بأن اجتياز هذه المرحلة يتطلب من (المثالية) بقدر ما يتطلب من (الواقعية) للأسباب التي ذكرناها.
فإذا قدرنا الأشياء بمقياس (المثالية) عرفنا ما يتطلبه منا تحقيق ذلك من تقشف وتضحية.
وإذا قدرناها بمقياس من (الواقعية) عرفنا الشروط الفنية التي تجعل تحقيقها ممكنا"
>[21] .
ومن المؤكد أن المزج بين الفكر والروح، وكذا بين الثقافة والأخلاق هو حاجة فردية وجماعية، وهذا ما ينقلنا إلى المعادلة الآتية من معادلات النهوض الحضاري عند مالك بن نبي.
[ ص: 82 ]