2- الثوابت قاعدة (الوحدة) والمتغيرات قاعدة (الحرية):
ظلت الحرية والوحدة رافعتين أساسيتين من روافع الإقلاع الحضاري، ومع ذلك استمرت العلاقة بينهما شائكة وتشكل معضلة لكثير من المفكرين، بما فيهم بعض المنتسبين للفكر الإسلامي الذين لم يتقنوا فقه نصوص ومقاصد الإسلام أو لم يجيدوا استيعاب فقه الواقع، فتوسعت عند بعضهم الحرية حتى زعزعت الوحدة، وتضخمت الوحدة عند بعض آخر حتى اجتاحت الحرية
>[1] .
[ ص: 122 ]
غير أن فتح الله جولن ليس من الصنف الذي تشابهت عليه البقر، فبإتقانه لخارطة الثوابت والمتغيرات استطاع أن يجعل من الثوابت قاعدة للوحدة، ويجعل من الحرية عنوانا للمتغيرات، مما أدى إلى الجمع بينهما بطريقة منسجمة، فجعل الوحدة والحرية قيمتين متعاونتين لا متباينتين.
لقد عد من الطبيعي الاختلاف في التفكير، مستثنيا الثوابت التي أوجب الاتفاق حولها، وهي: "القواعد والأركان والأصول الأساسية"
>[2] .
"ولما كانت الدعوة واحدة والحق بجانبها، والأهداف والمبادئ الأساسية واحدة، فإن الاختلاف في الوسائل والطرق يجب ألا يكونا سببا للخلاف والفرقة"... "والحقيقة أن الطرق المؤدية إلى الله تعالى متعددة بتعدد الأنفس والأمزجة بشرط بقائها ضمن دائرة أهل السنة والجماعة. ويجب أن يحترم كل طريق من هذه الطرق وتؤيد كل خدمة مقدمة"
>[3] . والجدير بالذكر أن فهمه لأهل السنة والجماعة فهم واسع، ودون أن يقوده هذا الفهم إلى زعم امتلاك الحقيقة المطلقة وتسفيه الفرق الأخرى.
ولتأصيل هذه القضية ظل يعاود الكرة إلى عصر النور، عصر الصحابة الذهبي، الذي طار فيه المؤمنون بجناحي الحرية والوحدة إلى آفاق الدنيا، فأزالوا الكثير من العروش الظالمة واجتثوا الدول القاهرة للناس.
[ ص: 123 ]
وضرب المثل للانسجام والتناغم القائم بين الأفراد بأنه: "كالانسجام الموجود بين الأصوات في السمفونية، أي كان صوت كل فرد متناغما ومتلائما مع الجو العام"
>[4] .
وظل يوصي تلاميذه بالتمحور حول الثوابت، والتسلح بالأخوة وفقه الإعذار، وأن لا يسمحوا بجعل الخلاف في الفكر وفي الفهم وسائل للفرقة وللعداء، بل ودعاهم لعد هذا الخلاف مصدر غنى فكري
>[5] .
ومن الثوابت التي دعـا للتمحور حولها: القواسم المشتركة، وهي كما قال: "وحدة أسس الإيمان وأسس العبادة والعمل، ووحدة الوطن والثقافة، ووحدة الماضي والتاريخ والأيام التي تقاسمنا معا حلوها ومرها، ووحدة المصير المشترك، ووحدة الأعداء في الخارج"، ثم قال: "أجل فهذه النقاط المقدسة المشتركة فيما بيننا أقوى بكثير من العوامل الثانوية والجانبية للخلاف، وأكثر ثقلا ووزنا في الواقع، حيث لا تملك عوامل التفرقة أي عناصر ذات بال"
>[6] .
وبهذا الانسجام، حقق جولن وحدة (الراية) في العقول والقلوب مع تعدد (الآراء)، لكنه لم يتوقف عند المبادئ والشعارات والأخلاق، بل انتقل إلى التربية والسياسات والمباني.
[ ص: 124 ]