2- ضرورة إصلاح "الذات" وحمايتها من عواصف التغريب:
لإدراكه أن جوهر الخلل في هذه الأمة يكمن في داخلها، فقد وجه جل اهتمامه لنقد أوجه الخلل ومحاولة الإصلاح الداخلي.
والبداية دوما هي المحاسبة أو ماتسمى في هذا الزمن بالنقد الذاتي، حيث دعا لتفعيل هذه القيمة في حياة الأفراد والمؤسسات والمجتمعات. وابتدأ - كعادته - من تحت إلى فوق، حيث دعا الفرد المسلم إلى محاسبة نفسه دوما وتفقد عالمه الداخلي، من أجل الانطلاق الفعال من اليوم والتهيؤ للمستقبل
>[1] .
وأوضح في هذا السياق أن العاقل ليس الذي لا يخطئ، ولكنه الذي يدرك أن الخطأ خصلة بشرية، ويتجه لتعديل أخطائه وتقييم الأفكار المختلفـة والاستفـادة منها
>[2] .
[ ص: 132 ]
ولفت الأنظار إلى الفرق الجوهري بين معصية آدم، عليه السلام، في الجنة ومعصية إبليس، وهو أن إبليس لجأ إلى التبرير والبحث عن عامل خارجي يحمله المسؤولية، بينما عمد آدم، عليه السلام، إلى الاعتراف بالذنب وتحمل المسؤولية، ومن ثم عاد إلى الله من باب التوبة
>[3] .
وفي سياق التأصيل للنقد الذاتي ظل يردد مقولته الذهبية: "يجب أن يتصرف الإنسان مثل مدعي عام - أي ممثل اتهام - أمام نفسه ومحاميا عن الآخرين"، أي يرى زلاته الصغيرة ذنوبا كبيرة، ويتصرف بشفقة وبحنان الأم أمام الأخطاء الكبيرة للآخرين..."
>[4] أو كما قال في مقام آخر: "على الإنسان أن يتصرف تجاه أخطائه كمدعي عام، وتجاه أخطاء الآخرين كمحامي دفاع"
>[5] .
ورأى في هذا الدرب أن أفضل طريقة لجلب رحمة الله ومغفرته هي اعتراف الإنسان بتقصيره
>[6] ، وذكر أن النقد والمحاسبة طريق الفوز بالجنة والنجاة من النار
>[7] .
[ ص: 133 ]
هذا عن النقد كقيمة فردية، أما كقيمة اجتماعية فلم يتغير الوضع، ولذلك وجدناه يقـول: "لا يظهر اليوم عندنا مكتشفون ولا مخترعون.. بل يظهر المقلدون. نحتاج إلى نفسية متمردة تقوم بتغيير كل شيء تقريبا. يجب أن يتغير كل شيء: الكتاب، المدرسة.. ومن أجل هذا التغيير فإن البداية بالنقد هي الأساس"
>[8] .
أما على مستوى الأمة، فإن النقد تشتد الحاجة إليه، لأنه يبين عوامل الخلل ونقاط الضعف، وهذا ما فعله في سائر كتبه، حيث نقد الواقع الإسلامي المعاصر، بل ونقد التاريخ الإسلامي.
وقد لوحظ كثرة إشادته بتاريخ الدولة العثمـانية وسلاطينها العظام، مما قد يعتبره البعض حيدة عن منهجه النقدي الصارم، لكن هذا الإكثار من ذكر المحاسن يبدو أنه جاء تحت ضغط التطرف العلماني الذي أدان الدولة العثمانية إدانة كاملة، فكان لابد من إبراز الأوجه المضيئة، ومع ذلك فقد مارس صورا من النقد للثغرات التي اعتلت جدرها، وللعثرات التي اكتنفت مسيرتها، في بعض المواضع من كتبه، حتى أنه لاحظ أن عوامل الاعتلال داخل الدولة العثمانية تعود إلى قرنين من سقوطها.
هذا بالنسبة لتقويم الذات ونقدها وإصلاحها، أما بالنسبة لحماية الأمة من عواصف التغريب فلم يغفل عنها لحظة، رغم خصوصية الواقع التركي وتسيد العلمانية المتطرفة، وامتلاكها لكثير من الأنياب والمخالب!
[ ص: 134 ]
وقد دعا العلماء عامة والمسؤولين خاصة، بل وأوجب عليهم القيام بالفلترة، وغربلة ما يأتي من الخارج حتى لا يتسلل التغريب باسم العلم والمدنية، وتحت يافطة (الحضارة).
ومما قاله في هذا الشأن: "فالواجب على أهل العلم والمعرفة عموما، وعلى المسؤولين خاصة، أن ينقوا ويغربلوا الأفكار الغريبة والضارة والمنكرة التي تؤثر على المجتمع سلبا وتضاد العقل والمشاهدة والتجربة والفكر الديني. إن أعظم الأبطال الذين قاموا بهذه التجربة هم الأنبياء، ثم من بعدهم الأصفياء المتحفزون...، ورجال الفكر الذين تكاملت قلوبهم وعقولهم، ورجال العلم الموقرون لعالم الغيب مع عالم الشهادة، وللحس الوجداني مع التفكير العقلاني، وللوحي السماوي مع التجربة"
>[9] .
ونلاحظ في هـذه العبـارات مدى الدقة اللفظية والتوازن الشديد، حيث إن (الأفـكار الغريبة والضـارة) يمـكن أن تأتي من المنظومة الغربية أو من المنظومة التاريخية للمسلمين، مما يعني أنه ينهى عن التقليد بشقيه التاريخي والتغريبي.
وعن التقليد والمحاكاة للتجربة الغربية بدون غربلة ونقد وتمحيص يقول: "الأمم التي تسعى لإدامة ذاتها وبقائها، ولكنها تسلم نفسها إلى حضارة
[ ص: 135 ] ومدنية الأمم الأخرى، تشبه شجرة علقت عليها أثمار شجرة أخرى - أي تكون محل سخرية وذات مظهر خادع"
>[10] .
وفي مقام آخر يقول: "ينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغريبة في داخلنا، والمبرمجة على تخريب جذور الروح والمعنى فينا.."
>[11] .
ومرة أخرى يستخدم مصطلح (الأفكار الغريبة) كمعيار للضرر بمنظومتنا الثقافية العصرية، فقد تكون هذه الغربة فكرية (الغرب) أو عصرية (التراث)، مما يؤكد رفضه للتقليدين التغريبي والتاريخي على حد سواء.
ويتولى منطقة هذه الغرابة والاغتراب ويفلسف هذا الرفض، بعباراته القوية ومنطقه المقنع وأسلوبه الأخاذ، حتى يصل إلى القول: "وكما يعجز الآخـرون عن التمثيـل التـام لصـوتنا ونغمنا وخطنا ورسمنـا ونمطنا وأسـلوبنا بأصالته الذاتية، كذلك يتعذر علينا التمثل العيني لخصوصيات ثقافة الآخرين"
>[12] .
وهذا لا يعني - كما سيأتي - رفضه للتفاعل مع الآخرين والاقتباس منهم، لكنه يدعو إلى الحذر أولا، ثم الفلترة والغربلة ثانيا، ثم إلى الاستيعاب والهضم ثالثا.
[ ص: 136 ]
ومن الأمور التي دعا إلى الحذر منها: التآمر الذكي للآخرين، حيث حذر من الوقوع في أحابيلهم بدون وعي، إذ بسبب التخلف الذي يعاني منه المسلمون الآن، توجد الكثير من الثغرات الناتجة عن التباينات المذهبية والصوفية والمسائل العنصرية والعرقية، مما يشجع الأعداء دائما على محاولة إحداث الفرقة والتمزيق
>[13] .
ومع هذا التحذير والدعوة للانتباه، فإنه يبشر بأن الأمة بدأت تعي ذاتها، بعد أن تراجعت عوامل التعرية الروحية، وأنها بدأت بالانبعاث من جديد. ولفت النظر إلى أن جموع البشر عامة لم تعد تقبل أن تقع كرة أخرى في موقع (القابلية للاستعمار)، بعد أن بدأت تعي ذاتها وتدرك مقوماتها الداخلية
>[14] .
وهـذا ما يشعرنا بأن محطة تجديد الذات بالغة الأهمية في درب الإقلاع الحضاري.