3- تعبيد الطريق إلى (الآمال) بإسفلت (الآلام):
لا شك أن قطع كل هذه المسافات، وردم كل تلك الفجوات، وتحقيق ذلك الكم الكبير من المنجزات، وقفت وراءه جهود جبارة وتضحيات عظيمة.
[ ص: 166 ]
وقد تحدث جولن عن الذين قضوا سنوات عديدة، وهم يجرون لاهثين، ولكنهم لم يتقدموا شبرا واحدا، في مقابل آخرين بدوا ساكنين "كنهر عميق هادئ، إلا أنهم ساروا خطوة خطوة دون توقف، وتغلبوا على جميع موانع وأستار الظلام، واجتازوا جميع العقبات بطريقة غير متوقعة.. بهدوء ودون ضجيج أو جلبة.. دون مظاهر أو فخفخة.. مثل المرجان الذي صادف كل أنواع الآلام في قاع البحر، وغرق في الدم حتى وصل إلى أفق الزبرجد"
>[1] .
وفي تبشيره بالمستقبل استدل بعبارة لأستـاذه سعيد النورسي تقول: "إن أوربا حاملة بالإسلام فستلد يوما ما، وإن الدولة العثمانية حاملة بأوربا، فستلد يوما ما"، وقد علق جولن بما يؤكد هذه المقولة، لأن النورسي قالها في مطلع القرن، وقد ولدت تركيا بأوربا: (العلمانية التركية)، وبقي الشق الآخر الذي يبشر به محبيه، حيث سينتشر الإسلام في أوربا
>[2] .
ويبدو من مقـولة جولن عن تكون المرجان المؤلم، ومقولة النورسي عن الحمـل، أن الميـلاد يتم بمخـاض، ولابد للمخاض من آلام أيضا. وهذا ما اجترحـه "أبناء الخدمـة" في سبيل العبور الهادئ بسفينة بلادهم - على الأقـل- من أعماق الأمس المتـلاطم أمواجه وظلماته إلى شواطئ
[ ص: 167 ] اليـوم الآمن، ثم من اليوم المحفـوف بالآلام والمكاره إلى الغد المشرق بالآمال والأحلام.
والصبر على الآلام بأنواعها بحاجة إلى تضحية، وهذا ديدن رجال الواجب الذين لا يسـألون عن حقوقهم، وفي قمة هؤلاء الصديقون.
ويتنازل المضحون عن أساسيات في حياتهم من أجل القضايا التي يخدمونها، ومن ذلك التضحية بالزواج، كما فعل بديع الزمان النورسي الذي منعه الشعور بآلام أمته من الإقدام عليه
>[3] . ويبدو أن جولن سار على درب أستاذه، فهو لم يتزوج، إذ في غمرة الانشغال بقضية شعبه وأمته نسي أن يكون له بيت وزوجة!!
وتأتي التضحية من الشعور بالمسؤولية، فهو يفجر الطاقات الخارقة للإنسان. ولذلك فإن ارتباط الحركة بالمسؤولية يعطيها البعد الإنساني الأول لها. ولا يمكن الوصول إلى الكمال في أي حركة نهوض بدون ضبطها بالمسؤولية، بل لا توجد تضحية دون الشعور بالمسؤولية
>[4] .
"وإن الاضطراب والألم الصادر من الشعور بالمسؤولية، مع استمرارها ودوامها خاصة، لهو دعاء غير مردود، ومنبع وافر للبرامج البديلة... إن كل إنسان روحاني مرشح - بقدر سعة اضطرابه - لتجاوز طاقته الذاتية، بل
[ ص: 168 ] لتجاوز طاقة جماعته التي ينتسب إليها، وقد يتحول إلى مركز محوري لطاقة وقوة الأجيال الماضية والآتية"
>[5] .
وعندما يتحدث عن (الأجيال المثالية) يجعل في مقدمتها رجل الفكر، ويصف هذا الرجل بأنه "أنموذج للشعور بالمسؤولية إزاء مجتمعه. يضحي بكل ما وهبه الله، ومن غير تلكؤ وتذبذب، في سبيل أهدافه، وأول أهدافه كسب رضاء الله.. ولا يخاف ولا يخشى من شيء، ولا يهب قلبه إلا لله وحده.."
>[6] .
وتأتي التضحية كثمرة للحب أيضا، ولذلك ما انفك - جولن - يصف "أبناء الخدمة" المضحين بأنهم أبطال الحب وفدائيو المحبة.
وتظهر التضحيات القامات السامقة، وتصنع العمالقة الكبار، وتؤدي إلى تعظيم الفاعلية، ولذلك روى بعض تلامذته قوله: "من كانت همته أمته فهو لوحده أمة".
ومنذ البداية ربى جولن تلاميذه على العزائم، وأخبرهم بأنهم يعيشون الفترة المكية، من حيث مطالبته إياهم بتطبيق عزائم المرحلة المكية.
واهتم بلفت الأنظار إلى النصف الممتلئ من الكأس، وتبيين أن (المنحة) تأتي من رحـم (المحنة)، حتى وهو يقرأ السـيرة النبوية كان يفعل ذلك،
[ ص: 169 ] كما صنع في استنباط درس غزوة أحد، حيث أوضح لهم كيف تنبعث الآمال من بين أركمة الآلام
>[7] .
ويصف مرة أخرى (الأجيال المثالية) بأنهم "يجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة.. يبتلعون حسابات هذا النقل غصة بعد غصة، لأن حل عقدة المعضلة مرتبط بتجاوز الزمن الحاضر، بل بالتحرر من قيود الزمان.."
>[8] .
لكن: مـا الذي جعـل هؤلاء يضحون بدنيـاهم من أجل إعمار دنيا الآخرين؟.. إنه التـوازن بين العيش في الأرض واستـشراف السماء، ثم ما سيأتي من توازن بين الدنيا والآخرة.