2- إيجاد الحس الجمعي الفاعل:
توجد اليوم في مختلف بلدان العالم الإسلامي طاقات كثيرة، يمكن أن تغير الموازنات الدولية إلى حد كبير، غير أنها بلا فاعلية، لأنها طاقات فردية، ولذلك تستهلك مواهبها وقدراتها في التآكل والصراعات الجانبية، أو تعاني من إحباط وخذلان، وتعيش مرحلة السكون والانتظار.
ولهذا تصدى عدد من المفكرين والحركيين والدعاة لمهمة إيجاد الحس الجمعي من زوايا وأبعاد مختلفة، ويأتي في طليعتهم فتح الله جولن، الذي أبدى حرصا كبيرا على ائتلاف الأمة، ودخل على هذه القضية من أبواب متفرقة، واستخدم في سبيلها وسائل وآليات كثيرة
>[1] .
ويبدو أن حكمته النظرية وخبرته العملية قد أوصلتاه إلى القناعة بأن الحس الجمعي ثمرة القلوب الاجتماعية لا الأنانية
>[2] ، ولذلك ركز على حرث القلوب وتخليصها من شوائب الأنانية، وعلى حرث العقول لتخليصها من حشائش الفردية، وتحلية القلب والعقل بكل مشاعر وأفكار الائتلاف.
[ ص: 183 ]
ومن القيم التي غرسها في القلوب والعقول - حتى تساعد على الوصول إلى الحس الجمعي - قيمة التضحية. ومما قاله بهذا الشأن: "قيمة كل شخص وشهامته تكون حسب درجة علوه، أما الشخص الذي لا يفكر إلا بنفسه فهو إما ليس بإنسان، أو هو مخلوق ناقص. والطريق المؤدي إلى الإنسانية يمر عبر تفكير الإنسان بالآخرين واستعداده إن اقتضى الأمر لإهمال نفسه في سبيل الآخرين"
>[3] ؛ وقال عن نفسه وتلاميذه فيما يبدو: "ونرغب دائما إلى إشغال مكان بين الذين يتلقون الحرائق بصدورهم، ويولون للمنافع الذاتية أدبارهم"
>[4] .
وبمهارة فائقة استطاع أن يجعل من كثير من المفاهيم التي يفترض أنها محايدة، مفاهيم تساهم في صياغة الحس الجمعي وإيقاظ الشعور الوحدوي. ومن ذلك مفهوم الذاتية الذي يلح عليه في كثير من كتاباته، لكنه يبعده عن الفردية ويجعله أقرب إلى المجتمع، من مثل قوله: "لكننا نحن نفهم من تعبير (الذات) معنى أوسع وأشمل وأعمق، فهي ظاهرة أجرت فاعليتها في كل شرائح المجتمع، وتغذت من ذاكرة الأمة وشعورها ووجدانها على مر الزمان إلى أن وصلت إلى عصرنا هذا.."
>[5] .
[ ص: 184 ]
ومن المبادئ التي تسـاهم بفاعـلية في صنـاعة الحس الجمعي الاعتقاد باستحـالة امتلاك الحقيقة المطلقة من قبل أي فرد أو مجموعة، فطبيعة الإنسان القاصرة تحول دون رؤية الحقيقة من جميع جوانبها
>[6] ، وحذر من أن ادعاء امتلاك الحقيقة إنما هو تعبير عن عبادة الوسيلة وإشارة إلى غياب الهدف
>[7] .
ولكي يكمـل الفرد القصـور القائم في تكوينه الفطري، فإنه لابد أن يحاور الآخرين، ويثاقفهـم، ويستفيد من زاوية نظر كل واحد حتى تتلاقـح الرؤى وتكتمل الحقيقـة، وذلك عـبر قيمة عظيمة من قيـم الإسـلام الحضـارية على مستـوى الفرد والمجتمـع، وهـي الشـورى التي أشاد بـها، وبين ثمارها، وحث على الاقتراب منها، والاقتران بها، وعدم الانفـكاك عنها
>[8] ، وبين كيف أنـها السبيل إلى تحقيـق الفـاعلية الفردية والجماعية
>[9] .
وبجانب ذلك كله، فإن الأخلاق تلعب دورا كبيرا في تحرير الإنسان من فرديته، وجعله شخصية مؤتلفة مع الآخرين، ولاسيما أخلاق المسامحة
[ ص: 185 ] والرحمة والهوادة واللين، ولهذا أكثر جولن من إبراز أهميتها، والدعوة إلى التحلي بها
>[10] .
ومن المـؤكد أن الحس الجمعي الذي يجعل المجتمع كأنه جسم واحد، لا يمكن أن يتأتى بدون تجسير العلاقة بين الفرد والمجتمع.