سابعا: الانطلاق من المحلية إلى العالمية:
حضرت تركيا بقوة في فكر وفعل جولن حتى سكنته، ومن المعلوم أن الرجل ترجم رؤيته النظرية إلى مشروع حضاري، وهو الآن مليء سمع الأتراك وبصرهم، ولم يعد جولن بحاجة إلى توضيح أن مشروعه العالمي المزدهر الآن قد انطلق من وطنه الأمة (تركيا).
[ ص: 204 ]
أما مالك بن نبي فلم يتخلف في هذا المضمار، حيث ظلت القضية الوطنية محور كتاباته، مع أنه أحد كبار الفلاسفة المعاصرين الذين عالجوا (مشاكل الحضارة) عامة، وألف سائر كتبه تحت هذا العنوان.
ووصل الأمر إلى استدعاء مصطلحات جزائرية وتوظيفها في معالجته لمشاكل الحضارة، حتى بدا لمن قرأه عن بعد متأثرا بالمركزية الأوربية، لكن محور مركزيته صارت هي الجزائر؛ لأنه كتب في الأصل للجزائريين.
ومن المصطلحات التي أوردها في هذا السياق على سبيل المثال:
- "البوليتيك" وهي كلمة أجنبية في الأصل، لكن الشعب الجزائري أطلقها على محترفي الدجل السياسي
>[1] .
- الزردة: وتعني الوليمة والمصلحة
>[2] .
- قرية بو مرداس: وهي قرية جزائرية، لكن بن نبي ظل يستخدمها كرمز للقروية والدوائر الضيقة
>[3] .
- التويزة: وهي كلمة شعبية تعني التضافر المشترك على أداء خدمة لمن يحتاجها، كواجب خيري محض، ودون مقابل
>[4] .
[ ص: 205 ]
وهناك مصطلحات أخرى، وأكثر شهرة، مثل: عصر ما بعد الموحدين، الذي أورده بن نبي عشـرات المرات في كتاباته وهو العصر الذي غرقت فيه الأمـة في ظـلمات التخـلف إلى يومنا هذا. وكذا مصطلح "النـزعة المرابطية".
أما عن العالمية، فقد صار معلوما أن "تيار الخدمة" صار بجدارة تيارا عالميا، يقوده مؤسسه جولن من الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم، ويمتلك مؤسسات مختـلفة في عشرات الدول في العالم، ويقيم مؤتمرات عالمية ضخمة لحوار الأديان والحضارات، ويتبنى مؤسسات ومنتديات عالمية عملاقة لمثل هذا الغرض.
ولو استمر الصعود بنفس هذه الوتيـرة كما وكيفا، فإن "تيار الخـدمـة" سيقود - مع أشقائه - عالمية إسـلامية تستطيع التصدي للعولمة الأمريكية.
وقد عرف بن نبي بدوره العالمي، من خلال مقارعته للاستعمار الثقافي ونقده للحضارة الغربية، واهتمامه بقضايا التحرر في العالم الثالث، ودعوته للاستفادة من التحالفات الدولية في إيجاد غطاء لدول العالم الثالث، كمنظمة دول عدم الانحياز التي ألف فيها أحد كتبه.
[ ص: 206 ]
وكان كتابه (تأملات) قد افتتحه بالقول: "قدمنا في دراسة سابقة أن للمسلم مسؤوليات في هذا العالم، وأن حضوره في الأحداث الكبرى التي تطرأ فيه من الضرورات اللازمة لمسؤولياته"
>[5] .
وفي محاضرة له تحت عنوان: "رسالتنا في العالم"
>[6] - ألقاها في دمشق في يوليو 1959م - تكلم فيها عن الدور العالمي الذي ينبغي أن يضطلع به المسـلمون في هـذا العصر الذي صـار العالم فيه أشبه بعمارة ضخمة، وكل شعب يحتـل شقة فيهـا، ولابد من تبادل المنـافع وتـكامل الخبرات بين البشر.
ورغم تخلف المسلمين، فإنهم يمتلكون الجوانب الروحية التي يفتقر إليها الغرب، وينبغي أن يقدموها كضروريات كما يقدم الغرب الديمقراطية إلى العالم، وبهذا يمكنهم دخول المجتمع العالمي غير مقلدين، ويمكنهم سد حاجة من حاجات الإنسانية الكبرى، وفي نفس الوقت يحققون لأنفسهم مكانا كريما في العالم الجديد
>[7] .
أما عن الحس الرسالي نحو الإنسانية عند جولن، فقد تجاوز فيه الجوانب التنظيرية إلى الجوانب العملية، حيث توجد مدارس الخدمة في أكثر من مائة وستين دولة في العالم، بما يعني أنها توجد في مائة دولة غير إسلامية!!
[ ص: 207 ]