أولا: (حصان الفكر) هو الذي يقود (عربة الحضارة):
لقد أسلفنا في إيضاح أن الإنسان يحتل مكانة مركزية في عملية النهوض الحضاري عند المفكرين، بمعنى أنهما ينظران إلى الإنسان كمضغة للتغيير، ويسمي جولن إنسان الحضارة بـ"الإنسان الكامل" و"رجل الحقيقة".
وفي بناء هذا الإنسان لا ينسى مالك وجولن أنه مخلوق من التراب ويحتوي على نفخة الرحمن العلوية، ولذلك جمعا في فكرهما بين العقل والروح، غير أن الملاحظ أن مالك يركز كتاباته بصورة أكبر على العقل، بينما نجد جولن يوازن بميزان حساس بين الفكر والروح أو العقل والقلب.
ويبدو أن زيادة الجرعة العقلية عند مالك سببها البيئة التي انتمى إليها، حيث كانت عدد من الطرق الصوفية ترفع أصواتها في الجزائر، منادية بالعودة إلى الروح على حساب العقل.
بينما كانت تركيا ترزح تحت سيطرة العلمانية الكمالية المتطرفة التي ضيقت الخناق على الروح، بمبرر العقلانية والمعاصرة، فتصدى جولن لهذا التطرف، دون أن يسقط في التطرف المقابل، ولذلك وازن بين العقل والقلب، ويتضح هذا التوازن حتى من عناوين كتبه.
[ ص: 208 ]
وفي سياق الإعلاء من شأن الفكر، وجعله في المقدمة، كالحصان الذي يقود العربة، حذر المفكران من خروج الأفكار عن سكة المنهج؛ لأنها حينئذ ستتحول إلى طاقة مدمرة، وهي الظاهرة التي أطلق عليها مالك: "انتقام الأفكار"
>[1] . وقد لفت جولن الأنظار إلى هذه الآفة في مواضع كثيرة من كتبه، دون أن يلبسها لبوس هذا المصطلح، محذرا من أن اختلال كثير من الموازنات والمعادلات الفكرية يحيل الترياق إلى سم زعاف.
وبسبب التوازن الدقيق عند جولن بين العقل والقلب، فقد اهتم بنفس القدر من التوازن بالفاعلية والانفعال، حيث بدأ حياته الدعوية كواعظ أجاد إبكاء الناس واستثارة مشاعرهم وعواطفهم، ثم يطرق النفوس وهي ساخنة ليعيد تشكيلها بصورة فاعلة، بينما برز اهتمام مالك بالفعالية أكثر من الانفعالات.