المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- الهجرة وعقدة الانبهار:

الانبهـار بـ (الآخر) واحـد من أهم المعيقات النفسية أمام الإنسان العربي المهاجر والتي تحد من قدرته على الإبـداع والعطاء وتجعله أسير سياقه، غير قادر على الفعـل والتأثير، حسـير البصر، لا يملك أن يجاوز تخوم الضرورات التي فرضها منطق تآكل الذات وتغول الآخر في الواقع السياسي العالمي.

حالة الانبهار هذه هي أول المؤشرات التي يمكن قراءتها عند نفر ليس باليسير ممن اختاروا الهجرة طوعا أو كرها إلى الغرب، وهي عقدة نفسية مركبة تعـكس غياب رؤية معرفية لتقـدير طبيعـة (الذات) و (الآخر) وما يترتب عن التحيز الساذج في رؤية (الآخر) المادية، ويمكن تلخيص هذا الموقف النفسي من الآخر (النموذج الغربي)، أو ما يطلق عليه الأستاذ حسن حنفي ظاهرة التغريب- بما يلي:‏

- اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه.

- اعتبار الغرب الإنسانية جمعاء وأوربا هي مركز الثقل.

- اعتبار الغرب المعلم الأبدي واللاغرب التلميذ الأبدي >[1] .

لاشك أن هذا الوضع الذي عليه كثير من المتأثرين من العرب اليوم، والموجودون في ديار الغرب مأتاه من مسرب تعليمي خطير >[2] كرسته مناهج [ ص: 33 ] التربية والتعليم وبرامجها عبر سائر الأسلاك والمراحل >[3] حيث رتبت مواقف دقيقة على أسطورة الثقافة العالمية واعتبارها مرادفة لكل الثقافات المحلية وبديلا عنها، لا فرق في ذلك بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية مع أن كل علم هو تعبير عن رؤية للعالم، وجزء من المكون الحضاري. وعلى كل منها التأقلم معها والتخلي عن خصوصيتها العالمية، وهو ما عرف في الانثربولوجيا الثقافية باسم المثاقفة أو التثاقف Acculturation.

الثقافة الغربية عند نفر كبير من المتغربين هي الثقافة العالمية، التي على كل ثقافة أن تتمثلها وتهاجر إليها وتسكن فيها باعتبارها ثقافة العقل والعلم والإنسان والحرية والتقدم والمساواة، ثقافة التنوير وحقوق الإنسان، في حين أن الثقافة المحلية مرادفة للخرافة والسحر والدين والقهر والتخلف والتعصب واللاعقلانية >[4] .

ومن ينظر مليا في أسباب هذه الآفة التي دخلت على العقل العربي حتى بات يرى أن التقدم في أن يحاكي الغرب ويتماهى فيه شكلا ومضمونا لفظا ومعنى، فإنه لا يلبث أن يتبين أنها ترجع إلى كون السياسات التعليمية والتربوية في وطننا العربي والإسلامي أخلت بالركن الأساسي الذي تقوم [ ص: 34 ] عليه الهوية وتحتمي به، وهو "مبدأ المحافظة الواعية" والتي تتجلى من خلال تقديم الخاص على العام، والتعريف بالمحلي والقومي قبل الكوني، والتحيز في (الذات) بدل التحيز في (الآخر)، وما يزال الأمر على حاله حتى صرنا في بعض أنظمتنا التربوية إلى تقليد (الآخر) ومتـابعته ( حذو القذة بالقذة ) كما جـاء في الحـديث، حتى إذا دخـل جحر ضب دخلناه. فتجد مناهجنـا وبرامجنـا التعليميـة عبارة عن استنساخ كربوني لبرامج مستعمر الأمس فرنسيا كان أو إنجـليزيا. وإذا ضاع المنهج والشكل تلاشى المضمون وتشوهت الأفكار، لأنه لا بقاء لمفردات الهوية مع دوام التقلب في استعارة الأشكال من الخارج من غير النظر في ملاءمتها مع حاجيات (الذات) وخصوصيتها.

وبهذا، يتضح أن النـزعة الإمعية التي استحوذت على العقل العربي والمسلم هي أثر من آثار ما يسميه الدكتور طه عبد الرحمن "غياب معنى المعية الرافعة" >[5] ، التي يعتبر "التعالي" شاهدها الأمثل، المعية التي تستصحب نموذجا أصيلا وفطريا وتاريخيا ممتدا بفروعه للمستقبل، ولا يضر هذه الهوية آنئذ أن تتوسط بالقيم المادية أو تزدوج بها، نظرا لأن هذه القيم تبقى تابعة لها ومسترشدة بها >[6] . وينقلب النموذج السالب لعقول المقلدة إلى نموذج [ ص: 35 ] نسبي ومحدود، وهي مرحلة أولى ترشح لمرحلة تربوية يرتقي فيها العقل لينظر إلى النموذج باعتباره موضوعا محل نقد لقصوره ومحدوديته واختزاليته، وبذلك نتخلص من عقدة إسار الغرب أو ما يسميه بعض الدارسين المرض بالغرب أو التغرب.

وإذا تبينا هذا جاز لنا أن نستوعب المقصد المنهجي من تقديم مبحث الانبهار بالغرب >[7] في درس أسئلة الهوية عند المهاجر العربي؛ لأن مبحث الانبهار بالآخر هو أحد المفاتيح لمعالجة أزمة (الذات) الهاربة والمهاجرة، هذه (الذات) التي فقدت مناعتها وبوصلتها نتيجة لتضافر عوامل داخلية وأخرى خارجية فباتت تعرف كل شيء إلا اتجاهها في الحياة، وهو أعظم خطر يتهدد وجودها ورسالتها.

هذه الوضعية في الحقيقة هي وضعية أشبه ما تكون بالتيه في تصور الموقع والغاية والطريق، وهو تشويه ينعكس بقوة على مقومات الهوية التي يمكن أن نرصد بعض ملامحها الشائهة لدى المهاجرين العرب من خلال بعض أركان الهوية من قبيل: اللسان والدين والتاريخ والوطن.

لكن دعونا نبدأ القصة من بدايتها، وهي فيما نعتقد بداية الإغراء الذي تجر إليه عقدة الانبهار التي تحدثنا عنها قبل قليل. [ ص: 36 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية