ثانيا: الأصول الموضوعية للاستيعاب الحضاري للمخالف:
لعل من جملة القضايا الحيوية التي يتعين على النخبة المسلمة العالمة في بلاد المهجر الوعي بها والتصرف بمقتضاها في سياق تفاعلها مع محيطها الحضاري قضية المنهج القرآني في بناء الائتلاف بين المخالفين
>[1] في سياق تدبير الاختلاف معهم، وذلك من حيث هو مدخل تواصلي إنساني لنشر دعوة التوحيد بين خلق الله أجمعين.
فالقرآن الكريم قدم لنا أصولا تؤسس للوحدة والائتلاف بين المسلمين ومخالفيهم من أبناء وطنهم في الدين والثقافة، وتمكن النخبة العالمة المسلمة من حسن التأثير في المجتمع، ومن استيعاب المخالف حضاريا، فما الأصول التي ينبني عليها هذا الائتلاف الجالب للتواصل الحضاري؟
[ ص: 64 ] 1- أصل بر المخالف:
لما كان قصد الشارع من إنـزال شريعته بين الناس إقامة علاقة السلم والوئام بينهم، ونفي دواعي الكراهية وأسباب البغضاء من بينهم بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والمذهبية واللغوية، قرر القرآن الكريم أصلا مكينا للتعامل الحضاري الراقي مع المخالف، في قوله تعالى:
( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8).
لقد تقرر بمقتضى هذه الآية أن العـلاقة الأصيلة مع المخالف ليست مجرد علاقة احترام واعتراف وإنما هي علاقة خدمة اجتماعية حضارية مبنية على العدل والإحسان تقدم للمخالف مادام لم يصدر منه ظلم أو اعتداء، تعزز هـذا التقرير بقرينة لفظيـة مـلازمة مؤكدة وهي محبة الله تعالى لمن بر بالمخالف في قوله سبحانه:
( إن الله يحب المقسطين ) ، كما تأكد مقتضى هذه الآية بسبب نـزولها الذي يمثل أجمل صورة من صور الاستيعاب الحضاري للمخالف، ذلك أن الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، لما زارتها أمها وهي مشركة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها
>[2] .
[ ص: 65 ]
فالآية أصل ناظم لجميع صور الإدارة الحضارية للعلاقة مع المخالف، وقد وصفها الشهيد سيد قطب، رحمه الله، بقوله: "وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع، وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة"
>[3] .
فالمطلوب من النخبة العالمة في المهجر أن تؤسس علاقاتها مع الوطن الحاضن وأهله على قاعدة البر بالمخالف، فهو أقوى منطلق حضاري لضمان العطاء المتميز والإضافة النوعية للوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية، وسيضطر المخالف مع الزمن أن يعترف بالإيجابية الفعالة المتميزة للكفاءات المسلمة في المجتمع الحاضن، خصوصا حين يلامسون صدق الفعل وإحسان العمل على نحو لم يعهدوه عند غيرهم، فيدركون حينها حاجة المجتمعات الغربية إلى رحمة وحكمة الكفاءات المسلمة، والنفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها، وقديما قال الشاعر العربي:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
[ ص: 66 ] - من أوجه البر بالمخالف:
إذا تقرر البر بالمخالف أصلا جامعا في استيعاب المخالف حضاريا، فإن تفريع صور البر موكول لاجتهاد المسلمين من أهل الكفاءة في تلمس الحاجة العامة أو الخاصة في المجتمع للعمل على تلبيتها، ومن أولويات القضايا التي يمكن إدراجها تحت أصل البر بالمخالف، نذكر ما يلي:
- صلة الرحم الآدمية:
فالإنسانية على امتداد الزمان والمكان واختلاف الألسن والأعراق والألوان تؤول بمقتضى الآية إلى أصل واحد وهي النفس التي منها تناسلت فروعها، ويجمع بين هذه الفروع الإنسانية علاقة أصيلة ثابتة اقتضاها الأصل الموحد، وهي علاقة الرحم الآدمية بغض النظر عن الدين والعرق واللون والحضارة، وينبغي النظر إلى هذه العلاقة بما تستوجبه من حقوق تتعين مراعاتها، تحت طائلة الحساب الأخروي
>[4] ، كما نفهم من قوله عز وجل:
( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1).
وتتأكد هذه العلاقة الإنسانية بالبيان النبوي، في قوله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إن ربكم واحـد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي عـلى عـربي ولا لأحمـر عـلى أسـود، ولا أسـود على أحـمر [ ص: 67 ] إلا بالتقوى ) >[5] ، وفي قوله عليه السلام:
( كلكم لآدم و آدم من تراب ) >[6] ، وفيما كان يردده في دعائه، عليه الصلاة والسلام:
( اللهم ربنا رب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ) >[7] .
فالتصرف مع المخالف على أساس علاقة الأخوة الإنسانية ومن منطلق شرعي يجعل النخبة المسلمة في موقع التفوق الحضاري والقدرة على التأثير في المخالف، خصوصا إذا استحضرنا ما تعانيه المجتمعات الغربية من حالة التفكك الأسري وبرودة في العلاقات الاجتماعية وحالة العقوق الفردية والجماعية للوالدين وللمسنين، فحاجة القوم شديدة إلى رحمة الأخوة والصلة كما قررها القرآن الكريم.
- محبة المخالف:
عاطفة المحبة بين الناس فطرة فطروا عليها، باركها الإسلام ووجهها ورعاها لأنه دين الفطرة، ودين المحبة والوئام في مقاصده العليا وتفاصيله المثلى بين الناس أجمعـين، ولا يعـادى الشخـص ويكره إلا إذا صدر منه تآمر أو اعتداء، أما الأصل فهو محبة أهل الفضل والخير مهما اختلفنا معهم لما معهم من تلك المكارم، فالمقصد الكلي من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم منحصر في إتمام مكارم
[ ص: 68 ] الأخلاق، مصداقا لقوله، صلى الله عليه وسلم :
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) >[8] ، ومكارم الأخلاق من ميراث النبوات السابقة، مبثوث بعضها بين مختلف الثقافات والحضارات، ونحن المسلمين أولى الناس بمد يد المحبة والتعاون مع ذوي المروءات والفضائل كيفما كان دينهم وثقافتهم.
فعلى هذا الأصل تعامل الصحابة زمن النبوة مع المخالف من اليهود والمنافقين، يحبونهم بالفطرة ويسعون إليهم بكل خير رغم أن المخالف يكيد ويتآمر ويبغض، فنـزل القرآن يصور تصويرا بليغا هذا التفاوت الفاحش في العلاقة بين المسلمين والمخالفين، فمقابل تعامل حضاري راق من جانب المسلمين تدني أخلاقي سـلبي من جانب الآخرين، فقد ذكر الطبري عن "ابن جريج، قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه لأباد خضراءه"
>[9] ، حيث قال تعالى:
( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ) (آل عمران :119).
وأقر الإسلام ولم ينكر أواصر المحبة الفطرية بين المسلمين والمخالفين من الآباء والأبناء والإخوة والأزواج وأهل الوطن والإقامة، وإنما أنكر الإخلال في ترتيب درجات المحبة في قوله تعالى:
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم [ ص: 69 ] وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة:24).
فالمحبة الفطرية مجبول عليها الإنسان، وهي درجة تعلوها درجة أخرى وهي المحبة العقدية
>[10] : محبة الله ورسوله والمؤمنين، فالمنهي عنه شرعا في محبة المخالف خصوص محبة من أعلن العداوة والحرب على الله ورسوله لما في ذلك من الإفضاء بأسرار المسلمين لهؤلاء المتآمرين من المخالفين، بدليل قول الله تعالى:
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) (المجادلة:22)، وحين تنتفي علة العداوة والتآمر تعود علاقة المحبة بين الناس فيما يشتركون فيه من قيم المروءة والأخلاق، فالإسلام متشوف لعلاقة المحبة بين الناس مهما اختلفوا مصداقا لقول الله تعالى:
( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ) (الممتحنة:7).
فنظر أهلنا من أهل الكفاءة في المهجر ينبغي أن يتوجه أصالة إلى ما في ثقافة تلك المجتمعات من قيم حضارية عالية وأخلاق سامية، فنتقدم إليهم بيد
[ ص: 70 ] المحبة والأخوة لتحصين ذلكم الرصيد من القيم الإنسانية المشتركة والعمل على تنميته وتوسيعه، فيصبح أهل الكفاءة بهذا المقتضى جسرا يتم عبره التواصل بين الحضارة الإسلامية والحضارة المقارنة.
- إقامة العدل بين المخالفين:
العدل كلية عظمى من كليات الشريعة، ورد فيها بأقوى صيغة للتكليف والإلزام في قوله تعالى:
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90)، كما ورد مقصدا أسمى لبعثة الأنبياء والرسل في قوله سبحانه:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، فاكتسب بذلك معنى أعم وأشمل حتى عده ابن عاشور: "الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات"
>[11] .
وانطلاقا من هذه المرتبة الراقية لمسألة العدل في القرآن الكريم خاصة والشريعة عامة، قرر ابن القيم أن الشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل"
>[12] .
[ ص: 71 ]
فالشريعة بهذا المقتضى تمتلك وحدها القدرة على بناء العدالة الإنسانية المفتقدة، يقول ابن عاشور: "أعلى القوانين في تحقيق العدالة الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعة الإسلام لابتنائها على أساس المصـالح الخالصـة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة... بل تبنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل"
>[13] .
ومن أهم مظاهر انتفاء العدل في المجتمعات الغربية التي ينبغي لأهل الكفاءة من المسلمين أن يسهموا بفعالية في معالجته، عملا واقتراحا، ظاهرة التفكك الأسري وعقوق المسنين المتفشية في هذه المجتمعات، وإهانة المرأة بتشييئها، وهذا مجال حيوي يستطيع فيه مسلمو الغرب أن يبلوا البلاء الحسن، وذلك بتأسيس جمعيات اجتماعية تعمل على معالجة التفكك الأسري، وإنتاج برامج خاصة بالمسنين للتسلية والتنويه بما بذلوه في شبابهم من خدمات للوطن، وغير ذلك من ألوان البر الذي أمرنا به شرعا وغاب في تلك المجتمعات واقعا.
2- أصل التعارف والتعاون:
فالتعارف أساس دعا إليه القرآن، وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري، وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلا من إهمالها، فقد نص القرآن الكريم بإطلاق ومن غير تقييد ولا تخصيص أن من
[ ص: 72 ] مقاصد التنوع بين البشر التعارف والتعاون، فقال تعالى مخاطبا الإنسان على امتداد الزمان والمكان:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13).
فحقيقة التنوع والاختلاف التي عليها الناس أمما وقبائل إنما ينبغي أن تفضي إلى تحقيق مشترك التعارف بما هو تبادل اجتماعي وثقافي وتعايش حضاري، وذلك على قاعدة المساواة، ودونما تمايز أو استعلاء من أي طرف، قال ابن عطية الأندلسي في تفسير هذه الآية: "أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا، ولأن تعرفوا الحقائق، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب"
>[14] ، فالمجتمعات التعددية تقوى بقدرة مكوناتها على حسن التواصل وتبادل الاستفادة والتعاون على المشترك.
ولعل موضوع حقوق الإنسان من أجل ما يمكن التعاون عليه بين الكفاءات المهاجرة ونخب المجتمعات الغربية على أساس الإخلاص والجدية، فهو واجب إنساني ملح، يقول عبد السلام ياسين: "لا ينبغي أن نتردد في التعاون المخلص مع نداء الضمير الإنساني الرائع الذي يدفع الجمعيات غير الحكومية عند نظرائنا في الخلق للتضحيات المشكورة"
>[15] .
[ ص: 73 ]
فضمير الغرب الإنساني الذي استيقظ من هول ما حل به من فواجع الحروب وكوارث الصراعات صار ينادي الآن بحق الشعوب في تقرير مصيرها وبالحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية، وبحق الإنسان في الحرية والعدل والعمل والصحة والتعلم، والسكن الكريم وبحق المرأة والطفل، وبحق المرضى والعجزة، وكل ذلك من صميم ديننا إن قسناه بمعاييرنا، بل وكل تدين لا يكون من مضمونه الشفقة على الخلق، ومن أهداف جهاده البر بالخلق والعدل في الخلـق، فهو تدين أجوف
>[16] .
وارتفع مؤخرا طموح الضمير الإنساني عند القوم فطالب بحق الإنسانية في سلامة كوكبها الأرضي وبيئتها الطبيعية فتأسس بذلك مستوى آخر أوسع من المشترك التعاوني بين الحضارة الإسلامية والحضارة المقارنة، وهنا تستطيع نخبتنا المسلمة أن تسهم في معالجة الموضوع برؤية حضارية أقوى وأشمل، ذلك أن علاقة الإنسان بفضائه الكوني قائمة بمقتضى الشرع على قاعدة التسخير، التي تكرر تقريرها في كتاب الله
>[17] ، كما في قوله تعالى:
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) (الجاثية:13)، بدل علاقة صراع في الثقافة الغربية التي شب عليها الإنسان الغربي عقيدة ومنهجا وسلوكا
>[18] ، فأفضت إلى تلوث البر والبحر والفضاء.
[ ص: 74 ]
ويمكن للنخبة المسلمة أن تسهم في إصلاح فلسفة حماية البيئة من خلال توجيه عمل الإنسان، وذلك من منطلق أن المطلوب من الإنسان إنجازه في الأرض إقامة مشاريع العمران النافعة للناس والنافية للفساد والإفساد، مصداقا لقول الله تعالى:
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه ) (هود:61)، وقوله سبحانه في وظيفة الإنسان الاستخلافية في الأرض:
( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (يونس:14)، كما أنه سبحانه نهى عن جريمة الإفساد في الأرض من حيث هي نقيض الإصلاح، فقال:
( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) (الأعراف:85).
ومن هذا المنطلق الفلسفي الواضح القوي يستطيع أهلنا من ذوي الكفاءات في تواصلهم وحواراتهم وكتاباتهم ومحاضراتهم التأثير الإيجابي في فلسفة الغرب في الحرية الاقتصادية السلبية التي تقوم على إطلاق العنان لجشع الإنسان ليفتك، بمعامله ومصانعه، بالإنسان وبيئته بحثا عن المتعة المادية التي لا تنحصر، فنقترح عليهم معيرة المشاريع الاقتصادية والصناعية والتجارية بمعيار الإصلاح في الأرض، حالا ومآلا.
غير أن الإسهام الحضاري النوعي للمسلمين في موضوع التعاون على تنمية حقوق الإنسان يكون في إظهار سعة الأفق للحضارة الإسلامية في موضوع حقوق الإنسان، وذلك من خلال بيان حاجة الإنسان الغربي اليوم إلى حقه الأسمى وهو معرفة ربه سبحانه، لكن شريطة أن يلتمس في ذلك العرض اللطيف، والحديث الشفوق إليه، والبيان الأخوي إليه، بأن من وراء
[ ص: 75 ] الموت حياة، وبأن الإنسان ليس دابة أرضية
>[19] ، بذلك تكون النخبة المسلمة المهاجرة قد أخذت زمام المبادرة في الدعوة إلى الله من منطلق حضاري قوي، وتلك هي المهمة العظمى التي لخصها الأستاذ ياسين في قوله: "مهمتنا أن نقود الإنسانية إلى سعادتها الدنيوية والأخروية بصفتنا حملة رسالة القرآن، ومستودع نور الهداية النبوية الخاتمة. فليس بعد قرآننا ونبينا من تنـزيل ينتظر، أوصياء نحن على دين الله"
>[20] .
3- أصل حفظ السلم الاجتماعي:
من مقاصد الشريعة العامة حفظ نظام التعايش بين الناس في الأرض
>[21] ، لأن الإسلام رسالة رحمة للعالمين، ولا يتم التواصل والتفاعل الإيجابي مع هذه الرسالة إلا بانتفاء عوامل التوتر والإكراه والحروب، التي تفتن الإنسان وتصرفه عن سماع الخطاب الرباني، وسيادة الأمن والوئام، لذلك ألفينا القرآن يرسي قواعد السلام والأمن بين الناس جميعا، وأمر المؤمنين أمر إلزام بالدخول ابتداء في السلم، فقال سبحانه:
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) (البقرة:208).
وحقيقة السلم المأمور به في الآية عند الطاهر بن عاشور الصلح وترك الحرب والمسالمة
>[22] ، وذهب، رحمه الله، إلى أن الآية دالة على أصالة السلم
[ ص: 76 ] ومبدئيته في الإسلام، وهو رفع التهارج
>[23] ، ومعنى ذلك أن اللجوء إلى الحرب حالة استثنائية مضبوطة يقتضيها واجب حماية السلام في العالم، وحين تنتفي عوامل الإخلال بالسلام يصبح من الواجب بمقتضى الأصل الرجوع إلى قواعد السلام، وهذا ما تؤكده قواعد التعامل مع العدو المحارب في قوله تعالى:
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (الأنفال:61).
فإذا ظهر جليا أن القرآن الكريم يرسي قواعد بناء السلم العالمي وأسس نظام التعايش على الأرض بين خلق الله أجمعين، من حيث هو شرط أساس في تحقيق مقصد التعارف والتعاون والتبادل بين مختلف الثقافات والحضارات والمجتمعات، فإن العمل على تحقيق ذلك على المستوى الداخلي للمجتمعات التعددية الحاضنة للمسلمين وجه عملي من أوجه تحقيق الأمر القرآني بالسلم، وهو مطلب مشترك عزيز الآن لمجتمعات العالم ينبغي أن يسعى الجميع صدقا، وعلى رأسهم المسلمون بما يملكون من قيم خلقية سامية ومبادئ حضارية عالية تفتقر إليها مجتمعات الإنسانية، لإنهاء حالات التوتر والكراهية والعنصرية، التي تعتمل الآن في كثير من المجتمعات الغربية، وكثيرا ما يكون المسلمون الضحية الأولى
>[24] .
[ ص: 77 ]
فالمطلوب من الكفاءات المهاجرة بما معها من خلق الإسلام وسلوك الإيمان أن تكون عنصر استقرار وأمان في المجتمع، تعمل من خلال منظمات حقوقية وجمعيات ثقافية ومراكز علمية ومنابر إعلامية على نشر ثقافة المحبة والسلام ونـزع فتيل التوتر وداعي الكراهية في كل مكان، فيكون أهل الإسلام بذلك قد قدموا خدمة جليلة مؤثرة في المجتمع، حين أمنوه من خوف فقدان الأمن وعدم الاستقرار، ووفروا بذلك مناخا حيويا للتواصل الدعوي والتبادل الحضاري.
ومما يساعد النخبة المسلمة على حفظ الأمن والسلام في المجتمع أن يحرصوا على نشر ثقافة الالتزام بالقوانين والأنظمة السائدة في البلد، علما وعملا، انطلاقا من ثقافتنا الشرعية القائمة على وجوب الوفاء بالعهود والالتزام بالمواثيق على الإطلاق، يشهد لذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى:
( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) (النحل:91)، وقوله سبحانه:
( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) (الإسراء:34)، ومـدح أهـل الوفاء بالعهـود فقـال عز وعلا:
( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ) (آل عمران :76 )، وذم الناكثين للمواثيق، فقال:
( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) (آل عمران :77) ، وقال كذلك:
( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) (الفتح:10).
[ ص: 78 ] 4- أصل حفظ الوطن:
الوطن هو البيت المشترك الذي يسع كل المواطنين على اختلاف بينهم في الدين والثقافة واللغة وغيرها، يحرص الجميع على خدمته وحمايته وبناء مؤسساته وأنظمته بغض النظر عن جانب الاختلاف، فهو الدار المشتركة التي تأوي الجميع وإن تعددت أقاليمه واختلفت ألسنة سكانه ومذاهبهم وعاداتهم وألوانهم، لذلك تعين على الجميع حماية هذا الوطن وصيانته من أي مؤامرة اجتزاء أو اعتداء، وهذا هو الأصل الذي استمر قرونا عبر التاريخ الإسلامي منذ أن تأسس في المجتمع النبوي التعددي، ولا شك أن أي تقصير في خدمة ورعاية مصلحة الوطن المشترك تقصير في أداء واجب شرعي كبير حذرنا من التهاون فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في تصوير تمثيلي بليغ حين قال:
( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) >[25] .
فمن البيان النبوي نفهم أن الأصل في المسلم أن يكون إيجابيا في مجتمعه، يحرص على الخير وعلى نفع الناس أكثر من غيره في جميع الظروف والأحوال، لأنه يتعبد الله بذلك ويدعو غيره بسمته وسلوكه المتميز، فالحرص على سلامة
[ ص: 79 ] سفينة الوطن من مسؤولية المسلمين عموما والنخبة من أهل المعرفة خصوصا مهما قل عددهم، فهم المؤهلون بمقتضى عقيدتهم وشريعتهم لخدمة الوطن والمواطنين، أسوة بالصحابة الذين استوطنوا الحبشة فأحسنوا المواطنة ووفوا للوطن عندما تعرض للاعتداء حيث آزروا قائد البلد النجاشي بالدعاء والمتابعة والمراقبة كما تروي المهاجرة أم سلمة، رضي الله عنها
>[26] .
ومن نمـاذج الاقتـداء في هذا الموضـوع كذلك نبي الله يوسف، عليه السلام، الذي ضرب أروع الأمثلة في خدمة الوطن، الذي احتضنه بعد أن هجر إليه رغم ما تعرض له من ابتلاءات قصها علينا الله تعالى في سورة يوسف، ظل معها صابرا محتسبا حتى مكنه الله من مركز القرار والتأثير، فتصرف بما يخدم الوطن وأهله بعيدا عن ذهنية الانتقام والتآمر
>[27] .
فقد قرر الشرع الإسلامي أن من مقاصده من إنـزال شريعته مصلحة الإنسان في عاجله وآجله، والتيسير ورفع الحرج عنه، وعليه يكون الولاء للوطن والإسهام في تأمينه تحقيق لمقصد الشارع، أما التهاون في ذلك بدعوى المخالفة في الدين واللغة لغالبية أهل الوطن، فإنما هي عند التأمل رعونة نفس وسوء فهم وقلة مروءة، لا يشهد لها دين ولا عقل.
[ ص: 80 ]