- أصل التواصل الاجتماعي مع المخالف:
لقـد عمـل النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع المدينة منذ حلوله بها على تحقيق وحدة النسيج الاجتماعي على أساس التنوع الديني، وذلك تطبيقا لمبدأ التواصل الاجتماعي مع المخالف الذي قرره القرآن الكريم، وذلك من خلال القضايا التالية:
1- مؤاكلة المخالف الديني:
من القواعد الاجتماعية المحققة للتواصل الاجتماعي والتلاحم بين أفراد المجتمع التعددي تبادل الزيارات وحضور المناسبات الاجتماعية مع المخالف، وتبادل الهدايا والاجتماع على الطعام، لذلك قرر القرآن الكريم مبدأ التواصل الاجتماعي مع المخالف الديني في قوله تعالى:
( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) (المائدة:5).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المخالفين في الحياة اليومية كما يتعامل مع المؤالفين من المسلمين، فكان يأكل طعامهم ويجـالسهم ويقبل هديتهم،
[ ص: 87 ] كما في قبوله، عليه السلام، هدية المقوقس عظيم مصر
>[1] ، وأكله من الشاة المسمومة التي أهدتها له يهودية.
ولا شك أن زيارة المخالف في داره ومواصلته ومؤاكلته ومشاربته وقبول هديته، مما يزيل الكثير من الحواجز النفسية بين المخالفين، ويؤسس لتعاون اجتماعي راق مع المخالف.
2- مناكحة المخالف الديني:
لقد جعل القرآن الكريم (الآخر) الديني من أولي الأرحام حين أقام الأسرة على التنوع الديني، من منطلق قوله تعالى:
( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) (المائدة:5).
فأصبحت الزوجة الكتابية بمقتضى قوله تعالى:
( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (البقرة:187)، سكنا يسكن إليها المسلم، وموضع محبته ومودته، وإنما يكره هذا الزواج أحيانا في غير بلاد المسلمين مراعاة لمصلحة الاستقرار الأسـري، وإلا فالنبـي صلى الله عليه وسلم قبل زواج ماريا أم المؤمنـين، رضي الله عنها، من الأقبـاط، كما تزوج من المخالفين اليهود صفية بنت حيي بن أخطب، رضـي الله عنـها، فقـدم بذلك، صلى الله عليه وسلم ، دليـلا عمـليا على استيعابه
[ ص: 88 ] للمخالف والمـؤالف رفقـا ورحمـة، في الزمن الذي يتقـاتل فيه المتخالفون ويتدابرون ويتباغضون.
يقول يوسف القرضاوي: "تسامح كبير من الإسلام، حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين"
>[2] .
هكذا يتمدد في شرعنا مبدأ الاندماج الاجتماعي مع المخالف الديني إلى أخص الخصائص، وهي الحياة الزوجية، واللبنة الأساس للمجتمع، وهو ما يجعل المخالف في المجتمع الإسلامي يعيش كامل مواطنته بإيجابية عالية، كما كان الأمر على الأقل زمن النبوة والخلافة الراشدة.
3- مكافلة المخالف الديني:
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته مع المخالفين أن مقتضى البر والإقساط للمخالف في قول الله تعالى:
( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ، هو حسن المعاشرة ولطف المعاملة في السراء والضراء، لذلك كان المخالف في المجتمع النبوي مشمولا بالتكافل الاجتماعي، خصوصا في حالات العجز والحاجة؛ لأن أقوى موجب التكافل هو إنسانية الإنسان وآدميته المكرمة قبل الاختلاف، فقد أثنى الله الثناء الحسن على من يطعم
[ ص: 89 ] المخالف عند الحاجة في قوله تعالى:
( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) (الإنسان:8 )، فكان الأسير المرغب في إطعامه زمن التنـزيل مخالفا دينيا.
فحين اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة في منع التصدق على فقراء أهل الذمة لكثرة الفقراء المسلمين جاء الرد القرآني حاسما في قوله تعالى:
( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) (البقرة:272 )، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم فورا فقراء أهل الذمة ومكنهم من حقهم في الصدقة
>[3] .
واستمر مبدأ التكافل الاجتماعي للمخالف في المجتمع الراشدي حتى صار ثقافة مشاعة، يشهد لذلك قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع اليهودي الفقير، فقد بادر رضي الله عنه ، بمجرد معاينة حالة اليهودي الاجتماعية الحرجة بإصدار أمره لولي بيت المال بتمكين اليهودي من الضمان الاجتمـاعي دفعا لحاجتـه، حيث قـال: "انظر هـذا وأضرباءه، فو الله ما أنصفناه، إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم..."
>[4] .
4- عيادة مرضى المخالفين الدينيين:
من صور الرحمة النبوية الجميلة بالمخالف ومقتضيات البر به تفقده وزيارته عند مرضه، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع غلام من اليهود كان مريضا "فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له:
( أسلم ) فنظر إلى أبيه وهو عند
[ ص: 90 ] رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ) >[5] ، فهذا الفعل النبوي إنما هو التفاتة إنسانية لطيفة وخدمة اجتماعية راقية في مثل هذه اللحظة من لحظات الإنسان الدقيقة، ومن جهة أخرى فهو فعل يشكل إسهاما فعليا في دعم الترابط الاجتماعي للمجتمع التعددي.
5- حسن مجاورة المخالف الديني:
إن مما يساعد في الاستيعاب الحضاري ويمكن من الاندماج الاجتماعي للمخالف في المجتمع التعددي حسن الجوار، وقد كان الإحسان إلى الجار فضيلة أخلاقية بين العرب قبل الإسلام، فصارت في الإسلام في أعلى الدرجات، فقد رتب الله سبحانه درجة الإحسان إلى الجار المخالف بعد الوالدين والأقربين في قوله تعالى:
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب ) (النساء:36) ، وقد حمل القرطبي الجار الجنب على المخالف اليهودي أو النصراني
>[6] .
[ ص: 91 ]
وقد تأكدت القيمة الشرعية العاليـة لحسن المجاورة بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) >[7] ، وبالغ، عليه السلام، في النهي عن خوارم الإحسان إلى الجار حين قال:
( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيـل: ومـن يا رسـول الله، قال: الذي لا يأمن جاره بوايقه ) >[8] .
وبيـانا لمراتب الجوار الناظمـة للمخالف الواجب الإحسان إليه، يقول صلى الله عليه وسلم :
( الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك، له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم، له حق الجوار والإسلام والرحم ) >[9] .
6- صلة رحم المخالف الديني:
لما قرر الحق سبحانه أن يكون التواصل العائلي والترابط الأسري واجبا مقدسا لا ينقض بالخلاف، أمر بالإحسان إلى الوالدين حتى في حالة اشتداد الخلاف الديني، فقال:
( وصاحبهما في الدنيا معروفا ) (لقمان:15)، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، أن تصل أمها
[ ص: 92 ] وتستقبلها في بيتها وهي مشركة لما قدمت عندها ترغب في رؤيتها وزيارتها
>[10] ، ويأبى الله إلا أن تكون هذه القصة سببا
>[11] في نـزول آية البر بالمخالف أصلا ثابتا تقرأ إلى يوم القيامة، كما سبقت الحديث عن ذلك.