تمهيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيقول الله عز وجل:
( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4) ويكفي نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هذا الثناء العظيم من الرب العظيم، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعصمه من الفواحش والدنايا، وأكرمه بمحاسن الأخلاق، وجعله أسـوة حسنـة لعبـاده، قال تعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21)، وهذه الآية الكريمة، كما يقول ابن كثير، رحمه الله، عند تفسيرها: "أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله"
>[1] .. وتصف السيدة عائشة، رضي الله عنها، خلقه، عليه الصلاة والسلام، بقولها: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"
>[2] . ويتوج ذلك صلى الله عليه وسلم بالتقـرير أنه بعث ليتمم صـالح الأخلاق، ففي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم :
( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) >[3] .
[ ص: 25 ]
وكان صلى الله عليه وسلم يثني على من كان له خلق حسن، ويعده من خيار المسلمين، فيروي البخاري في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) >[4] ، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أمته في مواطن شتى على التحلي بمكارم الأخلاق، والحرص على التزامها، ودعاء الله عز وجل أن يتحلى بها العبد وأن يهديه الله عز وجل لأحسنها، وأن يجنبه سيئها، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في وصفه لبعض دعائه صلى الله عليه وسلم في صلاته قوله:
( واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها، إلا أنت ) >[5] . وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم قوله:
( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي ) >[6] ، كما كان يحث على التمسك بمكارم الأخلاق مما كانت العرب تتحلى بها قبل الإسلام، ومن ذلك ما يرويه السائب بن عبد الله قال:
( جيء بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، جاء بي عثمان بن عفان وزهير فجعلوا يثنون عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعلموني به قد كان صاحبي في الجاهلية، قال: قال، نعم يا رسول الله، فنعم الصاحب كنت، [ ص: 26 ] قال: فقال: يا سائب، انظر أخلاقك التي كنت تصنعها في الجاهلية فاجعلها في الإسلام، أقر الضيف، وأكرم اليتيم، وأحسن إلى جارك ) >[7] .
وهـذا الاحتفاء بموضوع الأخلاق في سيرته صلى الله عليه وسلم ، وحثه عليها ما هو إلا جزء من عناية الإسلام بموضوع الأخلاق الكريمة عموما، والحرص على تنشئة النفوس عليها، وجعلها نبراسا للتعامل بين الناس، البعيدين والقرباء، ليكون المسلم داعيا إلى الله عز وجل بسلوكه وأخلاقه، فكم كان التعامل الحسن سبيلا مذللا لدخول أفواج كثيرة إلى دين الله عز وجل، وما أحوجنا في هذا العصر إلى نشر ثقافة الأخلاق الكريمة، التي أتى بها الإسلام وحث عليها، وما أحوجنا إلى نشر صور من ممارساته صلى الله عليه وسلم لتلك الأخلاق الكريمة ليترسم الإنسان المسلم معالم الطريق في التطبيق العملي، وحتى لا يرد على الخاطر أنها مجرد تعاليم مثالية، أو أنها قيم عليا عرضها الإسلام نظريا، تاركا الناس تتخبط لتطبيقها أو تنظر إليها في سماء الخيال.
فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم فيلسوفا يضع النظريات وهو يقيم في برج عاجي، لا يعيش مع الناس والمبادئ التي يدعوهم إليها، أو كان يترك لغيره متاعب الدعوة والتطبيق، وإنما كان داعيا ومربيا ومرشدا إلى مكارم الأخلاق، وممارسا لها مع الكل، فلقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق تنظيرا، وتطبيقا، وحثـا، وممارسـة عملية لهـا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وفي توازن عجيب فلا يطغى جانب على آخر.
[ ص: 27 ]
وفي هذا العصر، الذي يعيشه المسلمون وسط اضطراب أخلاقي، نتيجة لاستجلاب العديد من القيم من الشرق والغرب للمجتمعات الإسلامية، واعتبار هذه القيم مثالا يحتذى ونبراسا يقتدى، وما ذلك إلا تأثر بمناهج الكفار والسـير معهم حذو القذة بالقذة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث المتفق عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن ) >[8] . وبكل حال فهذه سنة من سنن الله في الحضارات، في كون المغلوب يتبع الغالب في هديه وسننه، كما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع المسلم والمؤرخ ابن خلدون في مقدمته إذ يقول: "وترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله"
>[9] .
ونحن في هذا العصر، الذي ظهر فيه تفوق العالم الغربي في العلوم المادية، والحضارة المدنية، نجد بعض المسلمين يتخذ من هذه الحضارة منهجا للسير، اعتقادا منه بكمالها من جميع الجوانب، واغترارا بها؛ لما يرى من
[ ص: 28 ] تفوقها العلمي والمادي. ولعـل الأخطر في ذلك عندما تنظر الشعوب المسلمة إلى الأخلاق، وكأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان، أو اعتبار الحسن منها ما عده الناس حسنا وتعارفوا عليه في زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة، متباعدين في ذلك عن منهج الإسلام، الذي ينظر إلى الأخلاق على أنها مرتبطة بالدين والوحي ولا تنفك عنه بحال من الأحوال، فالخلل يكون حين ينظر المسلمون على أن الأخلاق "قيما اجتماعية يضعها البشر ويتعارفون عليها بأنفسهم، وتقطع صلة الأخلاق بالدين وبالوحي الإلهي حتى يكون في مقدور الناس أن يغيروا أو يبدلوا في قيم الأخلاق، وفي السلوك والتعامل بينهم، بحسب الأهواء والمصالح، على اختلاف الزمان والمكان"
>[10] . فهذه النظرة تجعل المسلم يتخبط في بحثه عن الخلق القويم الذي يكون الالتزام به تعبدا لله عز وجل، وليس مجرد تقليد مجتمعي.
ومن هنا تأتي هذه الدراسة لتعرض جزءا من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله الأسري، في بيته، ومع أهله، وأقاربه، لتكون منارا يهتدي به كل مسلم، وكل راغب في نشر السعادة في بيته، وبسط روح الطمأنينة في حياته الخاصة والعامة، كما تحاول هذه الدراسة إيراد الشواهد العديدة من الممارسات الأخلاقية في حياته صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 29 ]
وأسال الله عز وجل أن يكون في هذا الدراسة بعض التعبير عما تكنه النفس من حب وإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم ، آملا في الدخول في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفـق عليه:
( أن رجـلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : متى الساعة يا رسول الله، قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت ) >[11] .
كما أرجو أن تكون هذه الدراسة من السعي لنشر سنته، عليه أفضل الصلاة والتسليم، بين المسلمين للعمل بها والاقتداء بسيرته العطرة تنفيذا لقوله صلى الله عليه وسلم :
( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) >[12] .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
[ ص: 30 ]