2- حقوق الزوجة، من الكتاب والسنة.. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معها:
ورد في القرآن الكريم آيات عديدة تحث على الزواج، وأنه نعمة من نعم الله عز وجل، وآية من آياته، فيقول عز من قائل:
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم:21)، إذ في كنف الزواج تتحقق معاني عدة من مـودة، ورحمة وطمـأنينة، كما ورد الأمر بالزواج في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والحث عليه مرارا وتكرارا، والترغيب فيه، والتحذير من مخالفة فطرة الله بالرغبة عن الزواج، أو العزوف عن تكوين الأسرة، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم :
( أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) >[1] .
وهو صلى الله عليه وسلم ، ليس بدعا في ذلك، فإن الزواج من سنن الأنبياء والمرسلين من قبله، يقول الله عز وجل:
( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب ) (الرعد:38). قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: "هذه الآية
[ ص: 80 ] تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهى عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين"
>[2] .
لذلك كان هناك نفور من العزوبية في غالبية المجتمعات القديمة والحديثة، مع تباين في أسباب تلك النفرة من كون الرجل يعيش عزبا. فبعض المجتمعات تنفر منها لتعارضها مع الحصانة والعفة، ولأنها مظنة الانحراف، وتعدي الحدود التي يرسمها المجتمع لمعاشرة الرجال للنساء.. وفي المجتمعات التي يرقى فيها الوعي الوطني والحفاظ على الصالح العام تعتبر العزوبية جريمة في حق الوطن إذ تؤدي إلى اضمحلاله وتناقص سكانه
>[3] .
وفي الإسلام تكون النفرة من العزوبية لأنها مظنة الانحراف، وتخالف فطرة الله عز وجل، التي جبل عليها النفس البشرية، إضافة إلى أنـها تؤدي إلى تناقص الأمة، وضعف أفرادها. ومن هنا نجد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تكاثر الأمة، ففي الحديث أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسـب ومنصب إلا أنـها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، فقال صلى الله عليه وسلم :
( تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم ) >[4] .
[ ص: 81 ]
ولقد حرص الإسلام على تصحيح العلاقة الزوجية بدءا من تكوينها، فقد كان للزواج وطريقة نشوئه صور شائعة في الجاهلية، لا تنم عن تحقيق الحكمة منه، فضلا عما فيه من امتهان للمرأة، فتصف أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، تلك الصور بقولها:
( إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها؛ ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع؛ ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل؛ ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم ) >[5] .
[ ص: 82 ]
فواقع الحال الذي وصفته أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، يدل على فوضى أسرية، وتخالط في الأنساب، فضلا عن غياب المقصد الحقيقي من الزواج وهو السكن والمودة والرحمة.
ولقد صحح الإسلام هذه العلاقة وأعاد الأمور إلى نصابها، وصولا إلى المبتغى من الزواج، فرغب فيه، وحث عليه، يقول الله عز وجل:
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) (النساء:3)، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:
( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) >[6] ، والإسلام بهذا يلبي حاجة فطرية في النفس البشرية التي تظهر في قوله عز وجل:
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (آل عمران :14).
ولقد تزوج، عليه الصلاة والسلام، في حياته خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشر منهن، وجمع بين إحدى عشر منهن، وتوفي عن تسع منهن، رضوان الله عليهن جميعا. وابتنى لكل واحدة من أمهات المؤمنين بيتا خاصا بها لسكناهن حول مسجده صلى الله عليه وسلم ، وفي حقيقة الأمر هي حجر أو غرف
[ ص: 83 ] محدودة أطلق عليها اسم بيوت عرفا، وإلا فهي كانت محدودة المساحة والطبيعة، يصفها داود بن قيس قائلا: "رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشيا من خارج بمسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ست أو سبع أذرع، وأحرز البيت من الداخل عشر أذرع"
>[7] ، ويصفها الحسن بعد دخوله إياها بقوله: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خـلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي"
>[8] . وصغر مساحة هذه البيوت لم تمنع من شيوع روح المحبة والألفة بين ساكنيها، محمد صلى الله عليه وسلم وكل زوجة من زوجاته، رضوان الله عليهن.
لقد حرص الإسلام على توثيق العلاقة بين الزوجين، وجعلها في أعلى مستويات الحميمية، لما لها من الأثر الإيجابي ليس على مستوى المنزل وأهله فحسب، بل على المجتمع بشكل عام، فالإسلام يريد من الحياة الزوجية أن تكون سكنا، يقول الله عز وجل:
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم:21). والسكن هنا بمفهومه الشامل، وليس السكن المادي فحسب، أي مأوي للنوم والأكل والشرب، بل يراد منه أن يكون سكنا نفسيا، واجتماعيا، تطمئن النفس بدخوله، يتزود منه
[ ص: 84 ] المسلم الطاقة ليواصل إعمار الأرض في خارجه، وهو كما قال القرطبي: "المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنه : المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء"
>[9] .
لذلك اعتنى الإسلام بمؤسسة الزواج ولم يتركها عبثا، فجعل عقد الزواج بوجود ولي المرأة، وشاهدين ليعلم ويعـلن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا نكاح إلا بولي ) >[10] ، وكذلك وجود الشهود قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم أنه لا نكاح إلا بشهود، لم يختلفوا في ذلك، من مضى منهم، إلا قوما من المتأخرين من أهل العلم، وإنما اختلف أهل العلم في هذا إذا شهد واحد بعد واحد"
>[11] .
وفرض الصداق كأول حق من حقوق الزوجة، ففي الحديث:
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق ) >[12] . وسن الوليمة للعرس لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حينما علم أنه قد تزوج:
( أولم ولو بشاة ) >[13] .
[ ص: 85 ]
فلم يعد هناك مجال للجهالة أو الأمور الخفية كما كان في نكاح الجاهلية، وقد وصفه الله عز وجل في محكم كتابه بالميثاق الغليظ، يقول عز من قائل:
( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) (النساء:21)، وهو من أوثق المواثيق التي ذكرت في القرآن بوصفه غليظا. واختلف العلماء في معنى الميثاق الغليظ " فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم: هو قول الله تعالى:
( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) (البقرة:229)، وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق الغليظ: عقدة النكاح.. فهذه التي تستحل بها الفروج"
>[14] .
لأجل هذا كله لا عجب أن نجد ذلك الاحتفاء بموضوع العلاقة بين الزوجين في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يدل على الحرص الشديد على تماسكها، فمن الحث النظري إلى الفعل العملي في مجمل حياته صلى الله عليه وسلم ، فبداية يحث على الخوف من الله عز وجل في النساء، فيقول صلى الله عليه وسلم أمام أكبر حشد عرفه المسلمون وهو قائم يخطب في حجة الوداع:
( فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، [ ص: 86 ] ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) >[15] . ويوصي من بعده من المسلمين بالنساء خيرا، ويؤكد ذلك بقوله:
( استوصوا بالنساء خيرا ) >[16] . ثم يحدد صلى الله عليه وسلم الخيرية في العلاقة الزوجية، بقوله صلى الله عليه وسلم :
( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) >[17] ، فميزان الخيرية الاجتماعية، والخلقية للرجل هنا، هو مقدار حسن المعاشرة للزوجة وحسن صحبته لها، فبمقدار حسن العشرة تكون درجة الخيرية.
ولن يصل الزوج إلى تلك الخيرية دونما حسن عشرة، ولين جانب منه لزوجته، وهذا لن يتأتي إلا بمعرفة خصائص الزوجة وطبائعها التي جبلت عليها، حتى يتمكن من التعامل معها في ضوء تكوينها النفسي والاجتماعي، فمعرفة الشيء يسهل عملية التعامل معه، ولنا في ذلك أسوة حسنة من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فلقد خبر نفسية السيدة عائشة، رضي الله عنها، في مسألة دقيقة قد لا ينتبه لها كثير من الأزواج، وهو من هو، بمشاغله وتعدد مهامه، وتعدد أزواجه، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لها، رضي الله عنها:
( إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين [ ص: 87 ] تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك ) >[18] . فمن خلال المعايشة للسيدة عائشة، رضي الله عنها، استطاع التعرف على جزء من شخصيتها، وهذا التعرف الدقيق، يؤكد تعرفه صلى الله عليه وسلم على ما هو أكبر منه، وبهذه الطريقة يكون التعامل وفق المعرفة، ليصل بها إلى الخـيرية التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله:
( وأنا خيركم لأهلي ) >[19] .
والوصية بالخير بالنساء من لدن رسول البشرية صلى الله عليه وسلم ، لم تكن نابعة من فراغ اجتماعي، وإنما كانت تصحيحا لما كان عليه أمر النساء في الجاهلية، وذلك قبل تكريم الإسلام لهن، وهو ما يصفه عمر رضي الله عنه بقوله: "والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم"
>[20] . فهذه الكلمات القليلة، الموجزة من الفاروق رضي الله عنه ، فيها من البلاغة والإيجاز ما يصور وضـع المرأة في الجاهلية، ثم النقلة الواسعة التي
[ ص: 88 ] ارتقى الإسلام بالمرأة إليها "ففرض على الرجال برها أما، واحترامها ومودتها زوجة، والعطف عليها أختا وبنتا، وحرم الإساءة إليها.. وكان التطبيق الفعـلي للأوضاع الجديدة والمعاملة الكريمة يجري وفقا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأوامره، تنفيذا وإيضاحا لأوامر الله تعالى"
>[21] .
ومن تلك الخيرية التي تحلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله، كانت كل معاملاته معهن، فمن ذلك حرصه على العدل بين زوجاته.. والعدل بين الزوجات كما هو مقرر عند الفقهاء في الأمـور المادية، التي يمكن للإنسان إن يتحكم فيها، مثل النفقة، والكسوة والمسكن، وحاجيات المنـزل وتبعاته المادية، أما الأمور القلبية التي لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها وعلى رأسها العواطف فإن الإنسـان معذور، وهـذا ما قصدته السيـدة عائشة، رضي الله عنها، حين قالت:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) >[22] ، وهذا المشار إليه في قول الله عز وجل:
( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) (النساء:129). قال أهل التفسير: "لن تطيقوا أن تسووا بينهن في المحبة التي هي نيل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم"
>[23] .
[ ص: 89 ]
ومن هنا حذر صلى الله عليه وسلم من يحيف من الأزواج المعددين فيقول صلى الله عليه وسلم :
( من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل ) >[24] . وكان صلى الله عليه وسلم يمثل العدل حقيقة وواقعا، فتقول عنه السيدة عائشة، رضي الله عنها:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ) >[25] .
ومن حرصه على العدل بين زوجاته صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد سفر أقرع بينهن، فتخرج معه إحداهن، وقد يقرع لثنتين منهن، فتخرجان معه من وقعت عليها القرعة من أزواجه، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت عن سفرة من سفراته صلى الله عليه وسلم :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعا ) >[26] . وإذا جاءته الهـدية من أحـد أعطى جميع زوجاته بالسوية تحقيقا للعدل بينهن، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أم سليم، رضي الله عنها، بعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحن فيه رطب:
( فجعل يقبض قبضته فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ويقبض القبضة فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ثم جلس فأكل بقيته أكل [ ص: 90 ] رجل يعلم أنه يشتهيه ) >[27] . فتأمل كيف تجاوز صلى الله عليه وسلم بفضله نفسه، وأعطى زوجاته قبل أن يأخذ نصيبه من الهدية، على الرغم من أنه كان يشتهيه، ففي باقي الحـديث يقـول أنس رضي الله عنه : فأكل أكل رجل يعلم أنه يشتهيه، فالهدية إنما أرسلت له صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فضل أزواجه بالهدية رغم محبته له ورغبته فيه، أليس في ذلك تحقيق للخيرية للأهل، التي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، ورغب أمته فيها؟
أما رحمته وحسن تعاملـه مع زوجاته صلى الله عليه وسلم ، مساعدته لأهله في بيته، قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، لما سئلت: ماذا يصنع في بيته فقالت، رضي الله عنها:
( كان في مهنة أهله ) >[28] ، وتفسر السيدة عائشة، رضي الله عنها، هذه المهنة التي يكون عليها في بيته فتقول:
( يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويرقع دلوه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ما كان إلا بشرا من البشر ) >[29] . وما تلك التصرفات التي تبدو منه صلى الله عليه وسلم أو الأعمال التي يقوم بها إلا منطلقة من رحمته بأهل بيته وتخفيفا عليهم من مشاق العمل.
ومن رحمته بهن أنه كان يطوف بهن كل يوم ويدخل عليهن ويلاطفهن ثم يخرج إلى الأخرى وهكذا، فتروي السيدة عائشة، رضي الله عنها، قائلة:
[ ص: 91 ] ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة فاحتبس أكثر مما كان يحتبس ) >[30] ، ولم يكن المكث طويلا بدليل آخر الحديث، وإنما هي زيارة ملاطفة وأنس في كل يوم يقوم بها صلى الله عليه وسلم إيناسا لهن، وحسن معاشرة.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم ، نجده يؤثر زوجاته على نفسه في بعض المواقف، التي يحتاج فيها المرء إلى مساعدة، وذلك ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع السيدة صفية، رضي الله عنها، في عودتهم من خيبر، فيتحدث أنس بن مالك رضي الله عنه قائلا:
( أنه أقبل هو وأبو طلحة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية مردفها على راحلته، فلما كانوا ببعض الطريق عثرت الناقة فصرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة، وأن أبا طلحة قال أحسـب اقتحم عن بعـيره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، جعلني الله فداك، هل أصابك من شيء، قال: لا، ولكن عليك بالمرأة، فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها، فألقى ثوبه عليها فقـامت المرأة فشد لهما على راحلتهـما فركبا فساروا ) >[31] ، فقد كان من رحمتـه أن أمر أبا طلحة أن يبدأ بصفية ويتأكد ألا تكون قد أصيبت، أما هو صلى الله عليه وسلم فسيكون بعد التأكد أن زوجته صفية، رضي الله عنها، لم تصب.
[ ص: 92 ]
وهذا الموقف يظهر جزءا من شخصيته صلى الله عليه وسلم الرحيمة بزوجاته، وهكذا تكون الخيرية للأهل، التي حث أمته عليها. والمواقف في ذلك كثيرة لمن أراد أن يحصيها، ولكن مما تحسن الإشارة إليه، هو أن رحمته صلى الله عليه وسلم ، وشفقته تزداد حين يكون ما يوجب ذلك، كأن تمرض إحداهن، فمن ذلك ما روته السيدة عائشة، رضي الله عنها، وهي تقص حادثة الإفك وأنها استغربت تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بقولها:
( ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنمـا يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم، لا أشعر بشيء من ذلك ) >[32] .
ومن كل ذلك نجد أن زوجاته أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، يعشن في ظلال رحمتين صادرتين عمن وصفه الله عز وجل بأنه رحيم، فالرحمة الأولى هي النابعة من وصف الحق عز وجل:
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128)، والرحمـة الأخرى ما ورد في قول الله عز وجل:
( وجعل بينكم مودة ورحمة ... ) (الروم:21)،
ومن صور التعامل الأخلاقي الراقي ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، رضوان الله عليهن، لإدخال السرور عليهن، فقد كان يمازح بعضهن،
[ ص: 93 ] ويلعب مع بعضهن، ويضحك مع بعضهن، فمن ذلك حديث المسابقة المشهـور مع السيدة عائشة، رضي الله عنها، حيث تقول:
( خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك ) >[33] . فلم يمنعه كونه مع أصحابه أن يجد الوقت المناسب لذلك اللهو المباح.
وفي الحديث وقفات جديرة بالتأمل، فمن ذلك أنه اختار زوجته بين كل الصحابة ليمارس ذلك اللهو، ولم يكن عدد الصحابة قليل، حيث كانت تلك الممـارسـة بعد منقلبه من غزوة بني المصطلق
>[34] . ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتمل الموقف الترويحي الأسري، بتهيئة المكان، حين قال للصحابة، رضوان الله عليهم:
( تقدموا ) لكي يعطي المزيد من الحرية في اللهو المباح لزوجته السيدة عائشة، رضي الله عنها.
[ ص: 94 ]
ومن صـور الانبساط مع زوجاته كذلك ما روته السيدة عائشة، رضي الله عنها، في موقف جمعها مع السيدة سودة، رضي الله عنها، بمشهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقـول:
( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختـها له، وقلت لسودة -والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها- كلي، فأبت. فقلت لها: كلي، فأبت، فقـلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهـك. فأبت. فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع فخذه لها وقال: "الطخي وجهها" فلطخت وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ) >[35] .
وكان صلى الله عليه وسلم يشاورهن، ويأخذ برأيهن، ويرى لهن قدرا في المشورة، فمن ذلك مشورة السيدة أم سلمة، رضي الله عنها، في صلح الحديبية لما أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا هديهم ثم يحلقوا، فلم يفعلوا من حرقة ما يجدون من صد لهم عن البيت الحرام. فوقع ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل على أم سلمة، رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس.
( فقالت أم سلمة، رضي الله عنها: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل [ ص: 95 ] بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ) >[36] . كما استشار السيدة زينب بنت جحش، رضي الله عنها، في شأن السيدة عائشة، رضي الله عنها، في حـادثة الإفـك، فقـال صلى الله عليه وسلم :
( يا زينب، ما علمت ما رأيت، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا ) >[37] .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب زوجاته، ويثني عليهن، ويمدحهن، ولم يكن يأنف من التصريح بذلك، وفي الحديث الصحيح أنه كان يقول عن السيدة خديجة، رضي الله عنها:
( إني قد رزقت حبها ) >[38] . ويسأله عمرو بن العاص رضي الله عنه :
( من أحب الناس إليه؟ فيجيبه صلى الله عليه وسلم : "عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر ) >[39] ، ويثني عليها، رضي الله عنها، بقوله صلى الله عليه وسلم :
( فضـل عائشـة عـلى النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) >[40] .
[ ص: 96 ] كما أثنى صلى الله عليه وسلم على زوجته زينب بنت جحش، رضي الله عنها، فعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق ) >[41] .
ويصفه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في موقفه مع السيدة عائشة، رضي الله عنها، في الحج، لما أصابها ما يصيب النساء، وتحسرت أن يرجع الناس بحجة وعمرة، وترجع هي بحجة فقط، لأنها لم تتمكن من العمرة التي قبل الحج، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلت بعمرة من التنعيم، فقال واصفا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه ) >[42] ، ومعنى ذلك أنها إذا هويت شيئا لا نقص فيه في الدين مثل طلبها الاعتمار وغيره أجابها إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، كريم الشمائل، لطيفا، ميسرا في الخلق، وفيه حسن معاشرة الأزواج. وبلغ به الأمر صلى الله عليه وسلم أن يرفض دعوة من دعاه دون أن تشاركه زوجته السيدة عائشة، رضي الله عنها، فيروي أنس بن مالك رضي الله عنه :
( أن جارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيا كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه. فقال: وهذه؟ لعائشة، فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه؟، [ ص: 97 ] قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا. ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه؟. قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله ) >[43] ، وفي ذلك من الإكرام لزوجه ما لا يبلغه أحد من العالمين.
ولكن هذه الصفة الكريمة فيه صلى الله عليه وسلم لم تكن تجاوز به حدود الشرع، وحاشاه ذلك، فإذا خرج الأمر عن دائرة المباح يكون تصرفه صلى الله عليه وسلم مختلفا. فقد دخل على السيدة عائشة، رضي الله عنها، ووجد عندها قطعه من قماش فيه تصاوير قد سترت به شيئا ما في البيت، فأزاله بنفسه، فعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:
( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين ) >[44] . فمن رحمتـه صلى الله عليه وسلم أن لم يزله بجفـوة وشدة، بل أزاله ووضح العلة؛ وهو موضوع التصاوير، وفي هذا من اللطف الشيء الكبير، على الرغـم أنه كان يمكن أن يزيله، وينتظر السؤال من السيدة عائشة، رضي الله عنها، ولكن أخلاقه الكريمة واحترامه لزوجه جعله يبرر فعله حتى لا تنجرح نفسية الزوجة، حتى ولو لحظة واحدة.
[ ص: 98 ]
وتتجلى قمة صور الرحمة لنسائه صلى الله عليه وسلم ، والشفقة، والمحبة لهن في ذلك الموقف، الذي يمثل الذروة في التعامل الأخلاقي، والعلو في الذوق الإنساني، فتصف السيدة عائشة، رضي الله عنها، الموقف في صورة أدبية تصويرية للموقف رائعة بقولها:
( لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضـرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: ما لك يا عائش حشيا رابية >[45] قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبـريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي، قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم، قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، [ ص: 99 ] ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله، قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) >[46] .
إن تأمل تصرفه صلى الله عليه وسلم ينبئ عن كل خلق كريم للزوج، فبعد أن ظن أن السيدة عائشة، رضي الله عنها، نائمة، أخذ رداءه بهدوء، ثم انتعل بهدوء، ثم خرج وجافى الباب بهدوء، كل ذلك حتى لا يزعجها بإيقاظها من النوم، وكل حرصه هو تأمين الراحة لها، رضي الله عنها، فقد خشي أن تستيقظ وتعرف وجهته فتستوحش، لما جبلت النفوس عليه من خوف من القبر والقبور، وهو قد أمره الله عز وجل أن يذهب إلى البقيع ويستغفر لأهلها. ولا يخطر على بال المسـلم أن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم لأنه كان في بيت عائشـة وليلتها، أو لأنه يحبها. بل من المجزوم به أن هذا الفعـل منه صلى الله عليه وسلم كان سيكون حتى لو كان عند أي من زوجاته، ذلك أن منبع ذلك التصرف الأخلاقي الراقي منه صلى الله عليه وسلم كان خلقا أصيلا في طبعه صلى الله عليه وسلم ، فكان سيعمل الفعل نفسه لو كان لدى أي زوجة من زوجاته، رضوان الله عليهن.
[ ص: 100 ]
ولم يكن حرصه صلى الله عليه وسلم على أزواجه، رضوان الله عليهن، واهتمامه بأمرهن في حياتهن فحسب، بل كان الحرص والتوصية بهن، حتى ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فعـن السيدة عائشـة، رضي الله عنها، أنهـا قالت:
( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لهن: إن أمركن لمما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون ) >[47] . وفي رواية أخرى يظهر صلى الله عليه وسلم أنهن أهم أمر لديه بعد وفاته، ففي الحديث عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال:
( إنكن لأهم ما أترك إلى وراء ظهري، والله لا يعطف عليكن إلا الصابرون أو الصادقون ) >[48] .
وكان من محبتـه صلى الله عليه وسلم لهـن يغار عليهـن، وهي غيرة من غير ريبة كمـا ذكرها صلى الله عليه وسلم في قوله:
( إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجـل، ومن الخيـلاء ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة ) >[49] . وهذا جزء من صور التعامل الأخلاقي له صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وكيف لا يكون كذلك وهو يصف نفسه بأنه شديد الغيرة، فعندما بلغه من الصحابة، رضي
[ ص: 101 ] الله عنهم، قول سعد بن عبادة:
( لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح". فقال صلى الله عليه وسلم : "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) >[50] ، ويصف أنس بن مالك رضي الله عنه ، حرصه صلى الله عليه وسلم على ستر نسائه في أحد المواقف مع زوجته صفية، رضي الله عنها، فيقول:
( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب )
ومن المواقـف الأخرى التي تظهر هـذا الجـانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم ما ترويه السيدة عائشة، رضي الله عنها-مما سبق ذكره- في إحدى الغزوات عندما أراد أن يسابقها، حيث هيأ المكان لها لتأخذ كامل راحتها في الممارسة، وذلك حين مرجعه من إحدى الغزوات فتصف عائشة، رضي الله عنها، الموقف فتقول:
( خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني، حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك ) >[51] . فقد أمر الصحـابة، رضوان الله عليهم، أن يتقدموا
[ ص: 102 ] قبل أن يتسابق معها، وهذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يتقدموا، واضح أنه من باب الستر على النساء عامة، وعدم تعريضهن لنظر الرجال، فكيف بأمهات المؤمنين، رضي الله عنهن.
وكذا في أمر الحـج والسـفر، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه، رضوان الله عليهن، في حجة الوداع:
( هذه ثم ظهور الحصر ) >[52] . وإن كان بعض أزواجه حججن بعد ذلك في خلافة عمر، في تفصيل مشهور ذكره ابن حجر في الفتح، إلا أن "زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة كانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "
>[53] .
وموجز هذا الفصل أن الإسلام يحث على الزواج ويرغب فيه، بل عده آية من آياته، كما أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم أهمية الزواج، وحذر من مخالفة فطرة الله بالرغبة عن الزواج، أو العزوف عن تكوين الأسرة، ولقد حرص الإسلام على تصحيح العلاقة الزوجية بدءا من تكوينها، وأعاد الأمور إلى نصابها، وصولا إلى المبتغى من الزواج، ولقد تزوج، عليه الصلاة والسلام، وابتنى لكل واحدة من أمهات المؤمنين بيتا خاصا بها لسكناهن حول مسجده صلى الله عليه وسلم ، لقد حرص الإسلام على توثيق العلاقة بين الزوجين، وجعلها في أعلى مستويات الحميمية، لما لها من الأثر الإيجابي، ليس على مستوى المنـزل وأهله فحسب، بل على مستوى المجتمع بشكل عام.
[ ص: 103 ]
وأوصى المصطفى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا، ولن يصل الزوج إلى تلك الخيرية دونما حسن عشرة، ولين جانب منه لزوجته، ومن تلك الخيرية التي تحلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله، كانت كل معاملاته معهن، فمن ذلك حرصه على العدل بينهن، ورحمته وحسن تعامله معهن، ومساعدته لأهله في بيته، وممازحتهن، ومشاورتهن، والثناء عليهن، والتصريح بحبهن، والغيرة عليهن، وتحمل هفواتهن.
وبعد،
فهذه كانت بعضا من صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم ، مع زوجاته، رضوان الله عليهن، وفيها صورة من تعامله الأخلاقي العالي معهن، وفيها نموذج يحتذى، لمن كان طالبا الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه على الرغم من كل ذلك الود والرحمة في تلك البيوت النبوية، فإنها لم تكن تخلو من بعض المشكلات الأسرية أحيانا، وبعض المنازعات بين زوجاته، بعضهن مع بعض، "ويخطئ من يجردهن من بشريتهن، ومن يدقق في حياتهن مما جاء يجد ضروبا من المغاضبة ومن المنافسة، وألوانا من الغيرة التي تحتدم حتى تجاوز المدى"
>[54] . وكذلك لم تخل الحياة من مغاضبة معه صلى الله عليه وسلم .
ولأهميـة ذلك الأمر، ومسيس الحاجـة إلى التعرف عليه تفصيـلا، لما يشوب العلاقات الأسرية في وقتنا الحاضر من توترات لا تخفى، فسيكون الحديث في المبحث القادم، حديثا مستقلا عن تعامله صلى الله عليه وسلم وعلاجه المشكلات الأسرية، التي حدثت في بيت النبوة.
[ ص: 104 ]