3- تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في المشكلات الزوجية:
لقد كانت السكينة، والمودة، والرحمة ترفرف على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان تعامله مع أزواجه، رضي الله عنهن، يمثل الذروة في الرحمة، والشفقة، والألفة، ولكن على الرغم من كل ذلك، وعلى الرغم مما كان صلى الله عليه وسلم يتعامل به من أخلاق سامية، إلا أن ذلك لم يكن ليحول دون وقوع بعض المشكلات العابرة بين أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وهي مشكلات تؤكد بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنطلق من واقعية الدين الإسلامي، وتعامله مع النفس البشرية، وما تحمله من صفات خلقية تزيد وتنقص، وهذا ما يجعل بعضا من هذه المشكلات الأسرية تخرج إلى السطح، وتروى في ذلك أحاديث نبوية إلى قيام الساعة، وفي ذلك من الحكمة ما لا يخفى، حيث نسترشد نحن بهديه صلى الله عليه وسلم القولي، والفعلي في التعامل مع هذا الجانب من جوانب الحياة.
ونحن في هذه العصر، الذي اتسم بتعقده، وتشابكه، وكثرة المشكلات الأسرية وتزايدها بأمس الحاجة إلى الهدي النبوي في التعامل مع هذه المشكلات لعلاجها، ومن ثم السير بقطار الحياة الزوجية بهدوء وسكينة، وصولا إلى المودة والرحمة والسكن، الذي ذكره الله عز وجل في قوله:
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم:21).
[ ص: 105 ]
لقد وضع الإسـلام منهجا وقائيا لمنع المشكلات الأسرية ابتداء، فحدد الحقوق والواجبات بشكل عام، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تـكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تـكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) >[1] .
ونهى عن مفاجأة الأهل لمن قدم ليلا من سفر، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك لكي تستـعد الزوجـة لزوجها فتكون بأحسن حال بعد غيبته، فلا ينفر منها، أو يقع في قلبه عليها، ومخافة أن يخونهم، أو يلتمس عثراتهم، وهذا ما بوب به البخاري هذا الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( إذا قدم أحدكم ليلا فلا يأتين أهله طروقا حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة ) >[2] .
ونهى عن نشر أسرار ما يكون بينهم، حتى لا يوغر صدر أحدهم على الآخر، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ) >[3] .
وأمر الزوج بالنظر بالعدل في سلوك المرأة وأخلاقها، فإن ساءه منها خلق، فلينظر لبقية جوانب شخصيتها، وبقية أخلاقها، حتى يكون هناك نوع
[ ص: 106 ] من التوازن التعاملي، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) >[4] .
وكما وضع الإسلام منهجا وقائيا حتى لا تقع المشكلات الأسرية، فقد وضع كذلك آلية للتعامل مع المشكلات الزوجية بعد وقوعها، في تدرج حكيم من الأسهل إلى الأصعب، ويراعي التباين في النفوس البشرية وتقبله للإصلاح، حيث يقول الله عز وجل:
( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا *
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ) (النساء:34-35).
ففي الآية تدرج حكيم في التعامل مع مختلف المستويات في المشكلات، ففي البداية الوعظ، ثم الهجر في المضجع، بمعنى لا يترك المنزل، وأخيرا الضرب، ولكن بشروطه المعروفة، التي حددها العلماء
>[5] . ويوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
( ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر [ ص: 107 ] إلا في البيت ) >[6] . ويلي هذه المراحل الثلاث إرسال حكم من أهله، وحكم من أهلها للصلح بينهما، وذلك وفق قول الله عز وجل:
( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ) (النساء:35).
وعلى الرغم من وجود الضرب كوسيلـة للعلاج الأسري، إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده الكريمـة امرأة قط تقـول السيدة عائشة، رضي الله عنها:
( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما ) >[7] . وذم الذين يضربون النساء بقوله صلى الله عليه وسلم :
( لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ) >[8] . ولقد وجه صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه لما اشتكى له من سوء خلق زوجته قائلا له:
( يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا، يعنـي البذاء، قال: فطلقها إذا، قال: قلت: يا رسول الله، إن لها صحبة ولي منها ولـد، قـال: فمرها، يقول عظها، فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك ) >[9] .
ولقد كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته يمر بهن ما يمر ببنات جنسهن من بعض الخلافات، وإن كان الغالب عليها هو ما يكون من جراء الغيرة، التي
[ ص: 108 ] جبلت عليه النساء عموما، وسـنرى في بعض المشكلات التي سوف نعرضها أنها لم تكن إلا بسبب الغيرة بينهن. وقد حكت شيئا من ذلك السيدة عائشة، رضي الله عنها، فتقول:
( ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما غرت على خديجة ) >[10] .
وفي حادثة أخرى تظهر زوجة أخرى من زوجاته صلى الله عليه وسلم وهي زينب بنت جحش، غيرتها من صفية، رضي الله عنهما، في طريق عودته صلى الله عليه وسلم لـما حج بنسائه برك بعير صفية، رضي الله عنها، فقال صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش، وكانت أكثرهن ظهـرا:
( يا زينب أفقري أختك صفية جملا"، فقالت: أنا أفقر يهوديتك؟! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منها، فهجرها، فلم يكلمها حتى رجع إلى المدينة والمحرم وصفر، فلم يأتها، ولم يقسم لها، ويئست منه، فلما كان شهر ربيع الأول دخل عليها ) >[11] . وهنا نرى أنه صلى الله عليه وسلم عاقب بقدر الجرم، فلأنها عيرت صفية، رضي الله عنها، بيهوديتها بعد إسـلامها، كان لا بد من عقاب يتناسب وتلك الزلة منها، "والهجر من أشـد الأسـاليب أثرا على الزوجـة، ولكنه أسرع في تعديل سلوكها.. ولم يتخذه صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف إلا لغلبة ظنه أن الهجر مجد فيها"
>[12] .
[ ص: 109 ]
إذن، فالغيرة كانت موجودة على الجميع ومن الجميع، ولكن يظهر أن أشد الغيرة من زوجاته ما كان من السيدة عائشة، رضي الله عنها، على السيدة خديجة، رضي الله عنها، ولقد بلغت الغيرة أشدها في أحد المواقف لدرجة تمني الموت، تقول السيدة عائشة، رضي الله عنها:
( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه فطـارت القرعة لعائشة وحفصة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر، فقالت: بلى، فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر، وتقول: يا رب، سلط علي عقربا أو حية تلدغني ولا أستطيع أن أقول له شيئا ) >[13] . وما ذلك التصرف من السيدة عائشة، رضي الله عنها، إلا بدافع الغيرة منها.
وحين النظر في بعض المشكلات التي حدثت في بيته صلى الله عليه وسلم ، سنجد كل الحكمة في التعامل معها، وهذه إحداها ترويها السيدة أم سلمة، رضي الله عنها، فتقول:
( أنها -يعني- أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء، ومعها فهر، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة ويقول: كلوا، غارت أمكم، مرتين، ثم [ ص: 110 ] أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلـمة وأعطى صحفة أم سلمة، عائشة ) >[14] .
إن تأمل هذا الموقف ليصيب الإنسان بالعجب، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يزد على قولـه:
( غارت أمكم ) ولم يتجـاوز صلى الله عليه وسلم القول بضرب، أو هجر، أو غضب، أو تهديد بطلاق، وما ذلك إلا لأنه عرف السبب الدافع لذلك التصرف من السيدة عائشة، رضي الله عنها، وهو الغيرة بين النساء، فتعامل معه بقدره وفي ضوئه، فانتهت المشكلة في وقتها. وحلها صلى الله عليه وسلم من فوره، وهذه قاعدة مهمة في التعامل مع المشكلات الأسرية، وهي معرفة دوافع الفعل الصادر من الطرف الآخر (الزوج أو الزوجة)، فبمعرفة الدافع يزول كثير من الإشكال، ويمكن تجاوز المشكلة بأبسط الطرق، وهذا ما قام به صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمح لهن بتجاوز الحد الشرعي حتى وإن كان الدافع الغيرة، فالأمر إذن ليس على إطلاقه، فعندما قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، ما قالت في حق صفية، رضي الله عنها، وهو قول نابع من باب الغيرة، أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرشد إلى الصواب. فعن عائشة، رضي الله عنها، أنـها قالت:
( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة - فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) >[15] .
[ ص: 111 ]
لقد كان من عادة أزواجه صلى الله عليه وسلم أن يجتمعن كل ليلة عند التي يكون مبيت النبي صلى الله عليه وسلم عندها، فإذا جاء وقت النوم انصرفت كل واحدة إلى حجرتها، وقد تحصل المشادات بينهن في هذا المجالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر، فلا يتجاوز الأمر ذلك المجلس، يروي أنس رضي الله عنه أحد تلك المواقف بقوله:
( كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها، فقالت: هذه زينب، فكف النبي صلى الله عليه وسلم يده فتقاولتا حتى استخبتا >[16] ، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك فسمع أصواتهما فقال: اخرج يا رسول الله إلى الصلاة واحث في أفواههن التراب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: الآن يقضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا، وقال: أتصنعين هذا ) >[17] .
فيظهر هذا الموقف سعة صدره صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته في حال رضاهن وكذلك في حال غضبهن.
وفي حادثة أخرى من حوادث المشكلات الأسرية التي اشترك فيها معظم أزواجه صلى الله عليه وسلم ما ترويه السيدة عائشة، رضي الله عنها، فتقول:
( أرسل [ ص: 112 ] أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه، قالت: فقامت فاطمة حـين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا؛ قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيهـا تسـرع منها الفيئة، قالت: فاستأذنت على رسـول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة، التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، [ ص: 113 ] قـالت: فلـما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر ) >[18] .
وفي الحديث فوائد عدة من تعامله صلى الله عليه وسلم مع هذه المشكلة بين أزواجه وغيرتهن من السيدة عائشة، رضي الله عنها، ومن ذلك: أنه تعامل بحكمة مع طلب أزواجه، ولم يغضب، أو يهدد، فلم يزد على قوله:
( أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه ) وعندما اتهمته أزواجه بعدم العدل تلقى ذلك بهدوء ورحابة صدر، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن مبعث ذلك التصـرف منهن هو مجـرد الغيرة بينهن، وليس القصد هو اتهامه بالظلم. ولما جاءت زينب بنت جحـش، رضي الله عنها، لـم يتحـدث، ولكن لما استطـالت على السيـدة عائشة، رضي الله عنها، أذن لعائشـة أن تدافع عن نفسـها، ولم يتول الأمر، حتى لا يزيد الأمر اشتعالا، ومن ثم يتهم صلى الله عليه وسلم بالميل لإحداهن.
وفي حادثة أخرى مشهورة، هي موقف زوجاته صلى الله عليه وسلم حينما سألنه التوسعـة في النفقة، فيحـدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن تلك الحادثة فيقول:
( دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر [ ص: 114 ] فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه، واجما ساكتا، قال: فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقـال: هن حـولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجـأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية: ( يا أيها النبي قل لأزواجك ... ) حتى بلغ ( ... للمحسنات منكن أجرا عظيما ) قال: فبدأ بعائشة، فقال: يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) >[19] .
فلقد اجتمعن أزواجه عليه يسألنه النفقة، فما زاد على اعتزالهن شهرا حتى أنزل الله عز وجل آية التخيير، وانتهى الأمر محسوما بشكل يضمن عدم
[ ص: 115 ] تكراره، ولكن الشاهد هنا هو تريث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يطلق ويستبدل بهن غيرهن، فكل ما في الأمر هو اعتزالهن حتى يفصل الله عز وجل في الأمر، وقد كان ما كان من نزول آيات تتلى في كتابه الحكيم إلى يوم القيامة.
وفي حادثة أخرى تدل على حلمه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع زوجاته إبان حدوث مشكلة أسرية بينه وبين إحدى زوجاته، ما ترويه السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:
( دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم بأسير فلهوت عنه، فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل الأسير؟ قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك، قطع الله يدك، أو يديك، فخرج فآذن به الناس فطلبوه فجاءوا به، فدخل علي وأنا أقلب يدي، فقال: ما لك، أجننت؟ قلت: دعوت علي، فأنا أقلب يدي أنظر أيهما يقطعان، فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه مدا وقال: اللهم إني بشر، أغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا ) >[20] .
وبداية يحسن الإشـارة إلى ما ذكره أحد المتخصصين في السيرة حيث قال: إن هذا الحادث يظهر أنه قبل فرض الحجاب على النساء
>[21] ، وممـا يلحـظ في تعاملـه صلى الله عليه وسلم أنه لم يضرب السيدة عائشة، أو يسبها، أو يهـددها بطلاق أو غيره إن لم يرجع الأسير، فلم يزد على كلمته التي
[ ص: 116 ] قالها، وعندما وجد الصحابة الأسير، وعاد هو إلى بيته صلى الله عليه وسلم وقد نسي الموضوع لولا أنه رأى السيدة عائشة، رضي الله عنها، تفعل ما تفعل بيديها، فوضح لها الأمر، وانتهت المشكلة جملة وتفصيلا، فلله دره من تعامل راق يضع الأمور في مواقعها الحقيقية والمناسبة، ويزن الأمور بحجمها الطبيعي، فصلوات ربي وسلامه عليه من هاد للبشرية ومعلم لخير ما ينفعها في الدنيا والآخرة.
ومما ينبغي الإشارة إليه حول تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشكلات الزوجيـة، هو أن "زوجـاته صلى الله عليه وسلم كن يتعاملن معه من خلال بشريته صلى الله عليه وسلم لا من خلال نبوته، فتارة يحتالون له، وتارة يحتالون عليه، وتارة يغاضبنه، أو تغاضبه إحداهن، وتارة يجد على الواحدة منهن، وهو بسلوكه صلى الله عليه وسلم معهن يرسم لنا الصورة البشرية كاملة، لتكون معلما للأزواج في تعاملهم مع أزواجهم"
>[22] .
وجماع هذا الفصل، أنه كان يمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشكلات الأسرية، وكان يتعامل معها بأسلوب راق في التعامل الأخلاقي، فلم يكن منه سباب أو جرح مشـاعر، أو ضرب، أو تهـديد بالطـلاق، وأقصى ما فعله صلى الله عليه وسلم هو هجران بعض زوجاته، واعتزال نسائه لمدة شهر، وكان عليه الصلاة والسلام ينـزل الأمور منازلها، ويعطي المواقف حجمها الطبيعي، وكان يتعامل مع الدوافع أكثر من تعامله مع المواقف ذاتها، وهذا مما يساعد
[ ص: 117 ] على تجاوز العديد من المشكلات بسهولة ويسر، وبشكل يجعل المياه تعود إلى مجاريها في صفاء الحياة الزوجية، وقد يتدخل من يعالج المشكلة حينما يستدعي الأمر ذلك، ولكن الغالب أنه كان يعالجها بنفسه برحابة صدر، ينم عن خلق كريم، وكيف لا يكون كذلك والله عز وجل قد زكاه بقوله:
( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4).
وهذا هو المنهج الحق في التعامل مع المشكلات الزوجية، فما يظنه بعض الأزواج في وقتنا الحاضر، أو ما يطمعون إليه من رغبة في رؤية الكمال الأخلاقي والسلوكي متمثلا في زوجاتهم مما يعد من الأمور المستحيلة، فالكمال لله عز وجل، لذا لا عجب أن نجدهم يعانون النكد والضيق في العيش؛ لأنهم لم يتصوروا هذه الحقيقة، وهذا ما يحرمهم من الاستمتاع بزوجاتهم، هذا إن لم يصل بهم الأمر إلى الطلاق بالفعل، فالمنهج في هذا واضح من هدي المصطفى، عليه الصلاة والسلام، في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها ) >[23] ، وأورد ابن حجر رواية أخرى تحث الأزواج على المداراة، وهي المجاملة والملاينة، واللفظ قوله صلى الله عليه وسلم :
( فدارها تعش بها ) >[24] .
[ ص: 118 ]
فالحديث واضح الدلالة أن الاستمتاع بها لن يكون إلا على عوج، بل يمكن الأخذ من الحديث عدم استنكار اعوجاج المرأة، وينبغي عدم صرف الهم إلى التقويم الكامل لأنه لن يكون، ولكن التسديد والمقاربة، مع التغاضي عن كثير مما يكون من الزوجات جراء هذا الاعوجاج، الذي بينه رسول الهدى، عليه الصلاة والسلام.
إن ممـا تحسن ملاحظته في هذا الحـديث النبوي الجامع لأصل كبير من أصـول استقـرار الحياة الزوجيـة، هو توضيح واقع الزوجة التعاملي مع الزوج، وحدود الإصلاح المطلوب من الزوج، وهو كما قال ابن حجر عند شـرح الحـديث بأنه صلى الله عليه وسلم "رمز إلى التقويـم برفق، بحيث لا يبالغ فيه فيـكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه،.. فيؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتهـا أو ترك الواجب، وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمـور المباحـة. وفي الحـديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب. وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بـها على معاشـه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها"
>[25] .
[ ص: 119 ]