5- حقوق الأيتام، من الكتاب والسنة.. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم:
إن مما كتبه الله - عز وجل - أن يعيش عدد من الأطفال في المجتمع مرحلة اليتم، بفقـد آبائهم أو أمهاتهم أو كليهما، وكان هذا الأمر كثيرا في المجتمعات السابقة، بسبب كثرة الحروب، والغزوات بينهم، وقد كان نصيب المجتمع المسـلم ليس بالقليل، وبخاصة مع انطلاق الدعوة لنشر الإسلام وتعدد الغزوات.
وفي مجتمع المدينة المنورة، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى العديد من أبناء الأوس والخزرج من اليتم، بسبب الحروب بينهم، التي لم تنته إلا بعد أن اعتنقوا الإسلام وأصبحوا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أنتجت حروبهم الطويلة عددا من الأيتام. وقد كانت حالات اليتم من التحديات التي استمر وجودها باعتبارها ظاهرة واضحة في المجتمع الإسلامي الأول
>[1] .
لقد كان من أثر هذه الحالة السياسية وجود وضع اجتماعي مختلف عن السابق إلى حد ما، برزت فيه كثرة الأيتام في المجتمع، ولكن هذا لا يعني تركهم هملا، بل اهتم الإسلام بأمر الأيتام اهتماما كبيرا، حيث بلغ عدد الآيات التي وردت فيها إشارة لليتم أو ذكر له في القرآن الكريم ثلاثا
[ ص: 137 ] وعشرين آية. وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، "فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة، كلها تدور حول دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، وفي الحالة الزواجية"
>[2] ، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.
يقول تعالى:
( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) (البقرة:83)، فالإحسان إلى اليتيم متعين كما هو للوالدين ولذي القربى، كما قال تعالى:
( فأما اليتيم فلا تقهر ) (الضحى:9)، قـال ابن كثير عن تفسير هذه الآية: فلا تقهر اليتيم: أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به، وكن لليتيم كالأب الرحيم
>[3] .
وهناك عدد من الحقوق المقررة لليتيم، سواء كان يتما طبيعيا أي بفقدان الوالدين أو أحدهما، أو كان اليتم بسبب جهالة الوالدين أو أحدهما وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي باللقيط، وأول هذه الحقوق حقه في الحياة، ذلك أن الأصل في الشرع الإسلامي سلامة النفس البشرية، ووجوب الحفاظ عليها، وتحريم التعدي عليها بأي فعل أو وسيلة، ما لم يكن ثمة سبب شرعي موجب، والأصل في ذلك قوله تعالى:
( من أجل ذلك كتبنا [ ص: 138 ] على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) (المائدة:32)، فنجـد في الآية الكريمة أنه عز وجل ساوى بين قتل النفس الواحدة بقتل البشر جميعا، وساوى بين إحيائها بإحيائهم جميعا.
ويستوي في ذلك الحق، وهو حق الحياة، الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والصحيـح والعليل، كما يستوي في ذلك الجنين من نكاح صحيح أو الجنين من وطء محرم، ما دام كينونته قد تحققت بنفخ الروح فيه، ويعرف هذا بعد بلوغه مائة وعشرين يوما من الحمل، وقد أجمع الفقهاء على تحريم إجهاض الجنين بعد بلوغه هذه المدة، وعدوا الاعتداء عليه جريمة وجناية على نفس مؤمنة، ولا فرق في ذلك بين الجنين من نكاح صحيح أو من وطء محرم، ودليل هذا في قصة المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرة عن حملها من الزنا طالبة إقامة الحد عليها، فأمرها، عليه الصلاة والسلام، أن تنتظر حتى تضع حملها. ومن ثم تقوم بإرضاع وليدها. فيروي الإمام مسلم في صحيحه أنه جاءت الغامدية
( فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، قال: إما لا، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه؛ فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد [ ص: 139 ] فطمته، وقـد أكـل الطعـام، فـدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها ) >[4] .
فمن هذا الحديث يكون هذا الحق من أبرز ما كفله التشريع الإسلامي للطفل، حيث كان وأد البنات منتشرا في الجاهلية خشية العار، إضافة إلى قتل الأولاد خوفا من العيلة والفقر، فحرم الإسلام ذلك وشدد عليه، قال تعالى:
( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ) (الإسـراء:31)، وروى البخـاري أن عبـد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال:
( قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك.. وأنزل الله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ... ) ) >[5] . وبهذه التوجيهات قرر الإسلام حقا ثابتا للإنسان وهو حقه في الحياة، لا يحل انتهاكه بأي شكل من الأشكال.
ومن الحقوق المقررة للأيتام حق النسب، وهذا بخاصة للأيتام اللقطاء، حيث يضمن الإسلام لهم الحق في النسب والانتساب، حتى لا يكون عرضة للجهالة، ومن ثم ضياع الحقوق الأخرى التي له، مثل الإنفاق والإرث،
[ ص: 140 ] فيقرر الله عز وجل ذلك في قوله:
( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ) (الأحزاب:5).
كما حرم الإسلام التلاعب بالأنساب، أو محاولة انتساب الابن لغير أبيه، ورتب على ذلك العقاب الشديد، ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) >[6] . وبذلك ضمن الإسلام للطفل، أيا كان، انتسابا لأب والتصاقا بفئة ينتمي إليها، ولم يتركه هملا مجهولا في المجتمع.
وكما قرر التشريع الإسلامي للطفل حق الانتساب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه باختيار الاسم المناسب للطفل، فدلنا على الأسماء المحببة إلى الله مثل: عبد الله وعبد الرحمن وكذلك أسماء الأنبياء، كما أرشدنا إلى ترك بعض الأسماء غير المناسبة مثل: يسار، وحزن، وعاصية، وبرة. وبالنسبة للطفل اللقيط أو مجهول النسب فمن الحقوق المقررة له شرعا أن يجعل له اسم يدعى به، ويشترط في هذا الاسم أن يكون اسما إسلاميا لا يتنافى مع أحكام التسمية في الشرع المطهر، ولا تجـوز نسبة مجهول النسب إلى قوم أو قبيلة أو أسرة، لما في ذلك من الكذب والإيهام والتلبيس على الناس، ويما ينتج عنه من اختلاط الأنساب.
[ ص: 141 ]
ومن الحقوق المقررة شرعا للأيتام حق الرضاعة، ويستوي في ذلك الطفل السوي والطفل اليتيم، و هذا هو الحق الثالث للطفل في تسلسله في الحياة، فلقد أوجب الإسلام على الأمهات إرضاع أولادهن، قال تعالى:
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) (البقرة:233).
ولقد أجمع الفقهاء على وجوب إرضاع الطفل ما دام في حاجة إليه وهو في سن الرضـاع، مع اختـلاف في وجوبه على من؟ حيث قال بعض الفقهاء: يجب على الأب الاسترضاع لولده، وقال بعضهم: إنه يجب على الأم بلا أجرة، وإن رغبت الأم في الإرضاع أجيبت وجوبا، سواء كانت مطلقة أم في عصمة الأب، لقوله تعالى:
( لا تضار والدة بولدها ... ) الآية. ولا شـك أن منـع الأم من إرضاع ولدها مضارة لها. وأيا كانت الاختلافات الفقهية، فإن ما يهمنا هو ضمان حصول الطفل على الحليب لنموه في صغره، حتى إن مات والده وأصبح يتيما، كما أن الطفل اللقيط له هذا الحق، ويتولاه ولي أمر المسلمين، بما يراه من الطرق المناسبة لكل عصر.
[ ص: 142 ]
ومن الحقوق كذلك حقه في النفقة: وهذا الحق من الحقوق المقررة للأبناء على الآباء في التشريع الإسلامي "وقد أجمع الفقهاء على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، لأن ولد الإنسان بعضه، وهو بعض والده، كما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله، كذلك على بعضه وأصله"
>[7] ، قال تعالى:
( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ) (الطلاق:7).
والنفقة الواجبة كما يعرفها الفقهاء هي: كفاية من يمونه خبزا وإداما، وكسوة ومسكنا وتوابعها، وإذا مات الأب أو كان في حكم المعدم غير القادر على الكسب، فتـكون النفقة على كل الذين يرثونه على قدر إرثهم لو مات هو، فإن تعذر ذلك فعلى بيت مال المسلمين بما يقدمه من مساعدات نقدية لتحقيق هذا المطلب، ومن ذلك الأسر البديلة، التي ترعى بعض الأيتام أو الأطفال اللقطاء لديها، أو من خلال الدور الإيوائية، ومراكز الرعاية التي تنشئها الدولة.
وآخر هذه الحقوق الخاصة بالأيتام ومن في حكمهم، الحق في المخالطة، فيقول الله عز وجل:
( .. ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) (البقرة:220). يورد ابن كثير في تفسير
[ ص: 143 ] هـذه الآية عـن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما نزلت قوله تعالى:
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) (الأنعام:152)، وقوله عز وجل:
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) (النساء:10)، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء في طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله
( ... ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) (البقرة:220). فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم
>[8] .
وقال ابن عباس، رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية: "المخالطة أن تشرب من لبنه ويشرب من لبنك، وتأكل من قصعته ويأكل من قصعتك. وقال أبو عبيد: المراد بالمخالطة أن يكون اليتيم بين عيال المولى عليه"
>[9] ، وذلك مقتضى التكافل الاجتماعي في الإسلام الذي هو قاعدة المجتمع المسـلم، فاليتامى إخـوان للأوصياء كلهم، أخوة في الإسلام، ومخالطتهم لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم.
[ ص: 144 ]
وعلى الرغم من أن هذه الآية في حادثة معلومة، ولكن يمكن القول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في القاعدة الشرعية المعروفة، فيكون أمر المخالطة أشمل من المخالطة في الطعام والشراب فقط، ليشمل المخالطة الاجتماعية والتودد إليهم، والمخالطة النفسية، ومراعاة ظروفهم، ودمجهم مع المجتمع، وعدم عزلهم في دور أو ملاجئ كما قد يفعل في بعض المجتمعات المسلمة.
وأما في مجال التوجيهات النبوية بشأن الأيتام فقد أمر صلى الله عليه وسلم بحفظ أموال الأيتام، وعدم التعرض لها بسوء، وعد ذلك من كبائر الذنوب وعظائم الأمور، ورتب عليه أشد العقاب، قال تعالى:
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) (النساء:10)، كما قال تعالى:
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) (الإسراء:34). وعد الرسول صلى الله عليه وسلم أكل مال اليتيم من السبع الموبقات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) >[10] . ولخطـورة ذلك الأمـر، وجه صلى الله عليه وسلم من كان ضعيفا من
[ ص: 145 ] الصحابة ألا يتولـين مال يتيم، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) >[11] .
واستمرارا لحرص التشريع الإسلامي على أموال اليتامى، أمر باستثمارها وتنميتها حتى لا تستنفدها النفقة عليهم، فلقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ) >[12] . كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قـال:
( اتجروا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة ) >[13] ، ومن هنا يلزم الولي على مال اليتيم استثمارها لمصلحة اليتيم على رأي كثير من أهل العلم بشرط عدم تعريضها للأخطار.
كما جعـل الإحسـان إلى الأيتـام عـلاجا لقسـوة القـلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال:
( امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين ) >[14] . ورتب على ذلك الأجر العظيم، حيث يكسب المرء الحسنات العظام بكل شعرة يمسح فيها على رأس ذلك اليتيم، فعـن أبي أمـامة رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـال:
( من مسح [ ص: 146 ] رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرق بين أصبعيه السبابة والوسطى ) >[15] .
وجماعا لكل ما سبق، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكفالة اليتيم، وضمه إلى بيوت المسلمين، وعدم تركه هملا بلا راع في المجتمع المسلم، فلقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وقال بإصبعيه السبابة والوسطى ) >[16] ، قال ابن حجر في فتح الباري: "ولعل الحكمة في كون كافل اليتيم تشبه منـزلته في الجنة منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أنه بعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشـدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه ولا دنياه فيرشـده ويعلمـه ويحسن تربيته، فظهرت مناسبة ذلك التشبيـه بين منـزلة كافل اليتيم ومنـزلة محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، في الجنة"
>[17] .
كما عد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير بيت من المسلمين بيتا فيه يتيم يحسن إليه. فلقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ) >[18] .
[ ص: 147 ]
ولقـد وعد الرسـول صلى الله عليه وسلم بالأجر العظيم لمن تكفل برعاية الأيتام، فقال صلى الله عليه وسلم :
( من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره، وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين، كهاتين أختان، وألصق إصبعيه السبابة والوسطى ) >[19] .
وبهذه التوجيهات يكون التكافل الأسري الحق على أساس من الخلق الكريم المطلوب من المسلم التحـلي به، منتـظرا الأجر من الله عز وجـل، دونما إكراه أو إلزام، بل تحري للثواب واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان القدوة في هذا المجال.
ولقـد كان صلى الله عليه وسلم من أرحم الناس بالأيتام، فقد تعددت المواقف في حياته صلى الله عليه وسلم التي تحكي هذا الجانب، ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع أيتام جعفر الطيار رضي الله عنه بعد غزوة مؤته، فعن أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، قالت:
( لما أصيب جعفر وأصحابه دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منيئة وعجنت عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتيني ببني جعفر، قالـت: فأتيته بهـم فشمهم وذرفـت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك، أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ) >[20] [ ص: 148 ] .
ففي موقفه صلى الله عليه وسلم هذا مواساة للأسرة من جانب وعطف على الأيتام، وذلك بشمهم وضمهم إليه. فهذه صورة عملية من تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأيتام، حيث يتمثل فيها الرحمة المهداة لهذه البشرية بأنقى صورها، وأعظم درجاتها، دونما تكلف أو تصنع.
ولقد كان حريصا صلى الله عليه وسلم على الأيتام، بل ويقدمهم على قرابته، وعلى ابنته فاطمة، رضي الله عنها، وهي عنده من المنزلة والمحبة بمكان، ففي الحـديث الذي يرويه الفضـل بن الحسـن الضمري رضي الله عنه :
( أن أم الحكم أو ضباعة، ابنتي الزبير بن عبد المطلب، حدثته عن إحداهما أنها قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيا فذهبت أنا وأختي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشـكونا إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبقكن يتامى بدر ) >[21] . والمرأتان اللاتي ذهبن إليه صلى الله عليه وسلم برفقة ابنته فاطمة، رضي الله عنها، هما ابنتا عمه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك كان التقدمة لأيتام شهداء بدر من الصحابة، رضوان الله عليهم.
وفي موقف آخر نجده صلى الله عليه وسلم يزور أصحابه ومن لديهم أيتام في منازلهم ليدخل عليهم السرور والبركة، فيحدث أنس بن مالك رضي الله عنه :
( أن جدته [ ص: 149 ] مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه، ثم قال: قوموا فلنصل بكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بالماء فقام عليه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وصففت عليه أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصـلى بنا ركعتين ثم انصرف ) وفي هذا الحـديث دلالة أنه إنما صلى تطوعا أراد إدخال البركة عليهم
>[22] .
كما كان صلى الله عليه وسلم يداعب الأيتام في مجتمع المدينة المنورة، ليدخل السرور في أنفسهم، ففي الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
( كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال: آنت هيه، لقد كبرت لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليـم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجـارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا، أو قالت قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقـال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعـوت أن لا يـكبر سنها ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي؟ أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب [ ص: 150 ] كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ) >[23] .
والخلاصة، أن لليتيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة عالية، فقد حث صلى الله عليه وسلم على الإحسان إليه، وضمه إلى بيوت المسلمين، ومخالطتهم، والحرص على أموالهم وتنميتها واستثمارها حتى لا تأكلها الزكاة، كما كان صلى الله عليه وسلم يخالط الأيتام، ويداعبهم ويقدمهم على غيرهم رأفة بهم وشفقة عليهم.
أما الثمرات التي يحصل عليها المسلم في تعامله الأخلاقي مع الأيتام فهي عديدة، ومنها ما يجده المسلم في حياته الدنيا، وبعضها الآخر، مما يدخره الله عز وجل له في آخرته، ولكن يمكن إيجازها في الآتي:
- في حسن التعامل مع اليتيم اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأيتام.
- في إكرام اليتيم والقيام بأمره إكرام لمن شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة اليتم، وهي علامة محبة له صلى الله عليه وسلم
>[24] .
- في حسن التعامل مع اليتيم ضمان - بإذن الله - بمرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.
- كفالة اليتيم ورعايته من الأخلاق الحميدة، التي امتدحها الإسلام، وتضفي على من يقوم بها لباس التحلي بمكارم الأخلاق.
[ ص: 151 ]