تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي ناط خيرية هذه الأمة بفقه دينها من مصدريه، الكتاب والسنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) (أخرجه البخاري)، وجعل النفرة لطلب العلم وتحصيل المعرفة وتوفير التخصص وتحقيق الاكتفاء الذاتي من فروض الكفايات، فقال تعالى:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122).
فالفقه في الدين، وأحكامه، ومقاصده، وإدراك أبعاده، ودوره في التزكية وبناء الحياة وتنظيم شؤون الناس وعلاقاتهم، ومعاملاتهم في جميع مجالات الحياة، وشرعية عباداتهم أبعد وأغنى بكثير من واقع التدين، الذي عليه الناس، ومن المناهج الحسيرة والتقليدية للفقه والعلوم الشرعية أو العلوم الإسلامية وآفاق التعليم الشرعي القائمة بشكل أعم.
ذلك أن جميع أنواع العلوم والمعارف، التي تسهم بتزكية الإنسان والارتقاء بخصائصه وصفاته، وتصويب نظرته للحياة وحسن تعامله معها هي
[ ص: 5 ] أدوات الفقه في الدين، وهي علوم إسلامية، وإن كان بعضها يقع في دائرة الفروض العينية الفردية، وهي علوم الحلال والحرام ومعرفة حدود الله، التي يعتبر علمها مما يجب معرفته من الدين بالضرورة، ولا يكون المسلم مسلما إلا بمعرفتها، وبعضها الآخر الذي يشكل الفضاء العلمي الكبير الممتد على مدى الزمان والمكان يعتبر كسبه ومعرفته من فروض الكفايات والواجبات الاجتماعية والذي لا يمكن تحصيله والارتقاء به إلا من خلال نفرة طوائف من الأمة للمعـارف المتعـددة والمتنـوعة، حيث لا يتسع عمر الشخص ولا علمـه لاستـدراك كل شيء، ولو أمـكن استدراك ذلك والتحقق به لما أمكن معه قيام الحياة الاجتماعية وبناء شبكة العلاقات البشرية، ولا أمكن النبوغ والكشف والإبداع والإحاطة بشعب العلم المتعددة، ذلك أن التخصص العلمي غير الثقافة؛ فالثقافة في أبسط تعاريفها، هي: معرفة شيء عن كل شيء، وهي بطبيعتها تختلف عن العلم المتخصص، الذي يعني معرفة كل شيء عن الشيء والإحاطة بعلمه (التخصص).
والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي بين أبعاد رسالته ومهمته ومقصد نبوته بقوله:
( ...إنما بعثت معلما ) (أخرجه ابن ماجه)، وقوله:
( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ودعوته لابن عباس، رضي الله عنهما، بقـوله:
( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ) (أخرجه أحمد)، ذلك أن من الفقـه في الدين، الذي اشتمل عليه الدعـاء، إدراك العواقب وإبصـار المآلات وحسن تقدير الأمور واكتشاف سننها (القوانين الإلهية التي تحكمها).
[ ص: 6 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثامن والخمسون بعد المائة: "تطوير التعليم الشرعي.. حاجة أم ضرورة"، للدكتور محمد بن عبد الله الدويش، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في مساهمة منها لإعادة بناء الذات، واسترداد الفاعلية، وتصويب المسيرة، وتحديد مواطن الخلل، ودراسة أسباب القصور ومواطن التقصير، وتجديد أمر الدين، وتحقيق خلود قيم الوحي في واقع الناس، والكشف عن قدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان، والتمييز بين قيم الوحي المعصومة واجتهادات وفهوم البشر المظنونة، التي تجري عليها النسبية والتوقيت والخطأ والصواب، وبيان أنها محل المراجعة والتقويم والنظر والاجتهاد، والعمل على إعادة الاعتبار لوظيفة العقل ودوره في تنزيل قيم الوحي على واقع الناس، والتشجيع على الاجتهاد الفكري، واستدعاء الروح الثقافية الفقهية الغائبة عن ذهنية معظم مسلمي اليوم وإذكائها بالحوار والمفاكرة والمناظرة والمناقشة والتقويم والنقد والمراجعة، والتمييز أيضا بين قيم الدين وصور التدين، بين القيمة والذات، وتأسيس وتأصيل الحقيقة، التي تكاد تكون مسلمة: "أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم، عليه الصلاة والسلام"؛ لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به.
ولعل الأولى بالمراجعة، في كل الظروف والأحوال، هي مؤسسات التعليم الشرعي، ومناهجها، ومضامينها، وأولوياتها، ومفاهيمها، للانتقال بها
[ ص: 7 ] من المفضـول إلى الفاضل، ومن الحسن إلى الأحسن، بعد أن بات الكثير منها يعاني من غربة الزمان، وكادت تنحسر رؤيتها في ما انتهى إليها من الماضي، والتنبه إلى بعض المجالات المعطلة في حياتنا، واستحداث شعب معرفية شرعية جديدة تمكن من فهم الواقع بكل مكوناته، إلى جانب فقه النص، بكل أبعاده ودلالاته.
ولعلنا نسارع إلى القول: إن تراجع الأمة المسلمة وتخلفها، على الرغم مما تمتلك من الإمكان الحضاري، سواء في ذلك معارف الوحي، في الكتاب والسنة، والإفادة من خير القرون وما حملته التجربة الحضارية التاريخية في التنزيل على واقع الحياة، يعود إلى حد بعيد إلى انكماش وانحسار وغياب الفروض الكفائية، التي يعد استكمالها وتوفيرها وتطويرها من صلب العلوم الشرعية، بل لعل البعض يراها أكثر أولوية من الفروض العينية، فيما وراء العبادة وأحكام الحلال والحرام؛ لأنها واجبات ومسؤوليات جماعية تخص الأمة كلها، وترتبط بتحقيق مصالحها، وتوفير كفايتها، وصناعة منعتها.
وقد لا تكون الإشكالية فقط في انكمـاش وانحسار الفروض الكفائية في الذهنية الإسلامية ومجالس ومدارس ومنهاج التعليم الشرعي والدعوة، وإنما الأشد خطرا أيضا -وهذا من ظـلال التخلف وإنتاج عقل التخلف-إنما يكمن في غياب مفهومها الشرعي الصحيح، وعدم استشعار التأثم في عدم إقامتها، وانكماش، تبعا لذلك، ساحة تمثيلها وأمثلتها، وحصرها في نطاق ضيق من حياة الناس كأحكام الجنائز، تغسيلا وتكفينا وصلاة، وعدم
[ ص: 8 ] إبصار جميع جوانب الحياة المتعددة ومتطلباتها، وما ترسب من الفهم المحزن والعاجز والخادع أحيانا لمفهوم تعريفها عند الفقهاء.
فتعريفها عند علمائنا، كما هو معلوم ومحفوظ، أنه: إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، دون التفكير بالتوقف ولو للحظة لمناقشة التعريف وأبعاده الحقيقية، واستيعاب مدلول كلمة (قام بها)، الذي يعني، فيما يعني: (أداها) على الوجه الأكمل، ذلك أن المطلوب ليس مجرد مباشرتها من قبل أفراد دون استكمال استحقاقاتها.
لذلك نقول: كم نحن بحاجة إلى مراجعات حقيقية وفاعلة تمكننا من استشراف تراثنا، على المستويات كلها، والإحاطة به وبظروف إنتاجه، حتى نتمكن من استصحابه والإفادة منه لإصلاح حاضرنا وبناء مستقبلنا.
لكن، كيف لنا أن نقوم بمثل هذه المراجعات دون النفرة الشرعية للتحقق بفقه الواقع وتوفير التخصصات، التي تعتبر أدوات الرؤية الصحيحة لطبيعة العصر وحاجاته، وامتلاك القدرة على استشراف المستقبل، ومن ثم تقدير المخاطر الواقعة والمتوقعة، وتحذير الأمة مما يحيط بها، لتأخذ حذرها، فتعد وتستعد، وبذلك نكون في مستوى قيمنا، ووحي ربنا، والخروج من عهدة التكليف بتحقيق النفرة والاستجابة الشرعية لقوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين .... ) (التوبة:122)؟
فهل تمتلك الأمة اليوم مؤسسات التعليم الشرعي ذات الإنتاج المأمول؟ وهل مؤسسات التعليم الشرعي بوضعها الحالي قادرة على إعادة بناء الذات
[ ص: 9 ] المسلمة وفق استحقاقات العصر وتكاليف الشرع، والتأسيس لتوفير التخصصات المطلوبة ولإقامة مراكز الاستشعار المبكر، والتحذير من المخاطر وتحقيق المنعة والوقاية؟ وهل ندرك أبعاد دلالة قوله تعالى:
( فلولا نفر ) ؟ ذلك أن مصطلح (النفرة) غالبا ما يستعمل في الاستجابة لداعي الجهاد عندما يحيط بنا ويهددنا العدو، فيصبح فرض عين، يقول تعالى في الاستجابة لداعي الجهاد، في غزوة تبوك:
( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) (التوبة:41)، وقد استعمل هنا لتحصيل التخصصات المطلوبة للارتقاء بها وتوفير حمايتها.
هل ندرك أبعاد هذه الآية فنحيي فروض الكفاية، وندرك مدلولها ومعناها ومقصدها الشرعي فنحسن الحياة في سبيل الله، كما يحسن الكثير منا اليوم الموت في سبيل الله؟ ذلك أن قيم الدين إنما شرعت لبناء الدنيا وإقامة الأمن والأمان والحياة الطيبة، وليس للخروج من الدنيا والانقطاع عن الحياة، والقضاء على الحياة.. وصناعة الحياة الطيبة لا تتحقق بدون توفير المرجعية الشرعية واستكمال التخصصات المعرفية والعلمية.
لقد انحسر مفهوم الفقه في الدين في ثقافتنا ومؤسسات التعليم الشرعي:
( ليتفقهوا في الدين ) على الدلالة الاصطلاحية، وانتهى في غالب الأحيان إلى عنوان لكتاب أو مؤلف يبحث في أحكام الطهارة وبعض أحكام الحلال والحرام والأمر والنهي، أو لإعادة صياغة بعض كتب الفقه من متن إلى شرح، ومن شرح إلى متن، ليسهل حفظه ويعيش في الذاكرة
[ ص: 10 ] دون أن يكون لذلك نصيب من الواقع، أو يتحول إلى درس وتدريس فك رموز عبارات غامضة تجهد العقل في معرفة إشكالاتها وحل ألغازها، وتحديد مراجع ضمائرها، ظنا منا أن العلم أصبح مناطه مزيدا من تعقيد العبارة وإغماضها، والله يقول:
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17)!
وهل الأمة اليوم، بمؤسساتها التعليمية والعلمية، استدركت العلوم المطلوبة، التي تمكنها من الحذر
( لعلهم يحذرون ) ، وخرجت من عهدة التكليف، وفقهت أبعاد دينها وآفاق عبادتها، أم أنها ما تزال تعاني إفرازات عقل التخلف، التي تحول بين أجيال الأمة واستدراك التخصصات المطلوبة للفقه في الدين وامتلاك القدرة على تحذير الأمة من الإصابات، والاعتقاد بأن ذلك من العبادات والفروض الكفائية؟
وهل تمتلك مؤسسات التعليم الشرعي والمناهج والسياسات والخطط والوسائل، التي توجه إلى إنتاج العلماء، الذين يحسون بأهمية قراءة الواقع وإبصار المستقبل وتحصيل التخصصات العلمية والمعرفية المتعددة، التي تشكل الأدوات والمفاتيح الضرورية لهذا الفقه وهذه البصيرة، إضافة لبناء المرجعية الشرعية، التي تؤهلهم لإنذار قومهم ومجتمعهم وتجنيب أوطانهم الإصابات والسقوط والتراجع والتخلف، بكل أمراضه، ويمتلكون القدرة على تحليل الظواهر والأزمات وإدراك أسبابها (سننها) ويحسنون إدارتها، أم أن الكثير منا حفظة، وحملة فقه، ومجرد ذاكرة، وظاهرة صوتية، وبالمحصلة نتحول إلى نسخة من كتاب؟
[ ص: 11 ]
وهل تعي الأمة كيفية الانعتاق من واقع التخلف والتخلص من الجراءة على اقتحام الساحات العلمية والمعرفية بدون مؤهلات، ومن ثم الالتزام الشرعي بالمعرفة والانضباط بآداب المعرفة، والوقوف عند دلالة قوله تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36)، والالتزام بأخلاق المعرفة، بحيث تتولى مؤسسات التعليم الشرعي الاضطلاع بهذه المهمة وبناء المرجعية لتلك التخصصات وتوجيهها الوجهة السليمة، وتوفر لكل تخصص المرجعية الشرعية والثقافية الإسلامية المناسبة حسب حاجته وطبيعته، إلى جانب القاعدة الثقافية المشتركة بين التخصصات جميعا؟ أم تستمر فينا رحلة التجهيل والتضليل والضياع واقتحام أدق المسائل العلمية بدون مؤهل، بحيث نهرف بما لا نعرف؟ وعلى الوجـه المقابل، وكثمرة لذهنية التخلف، فقد يغادر كثير منا تخصصه بعد مـا أفـنى بعضنا عمـره في تحصيـله، وندع مواقع التخصص ثغورا مفتـوحة، ونـذهب إلى مجـالات الدعوة والعلم الشرعي، الـتي لم نتخصص فيها ولا نحسنها، ظنا منا بأننا نحسن بذلك صنعا؟!
وقد تكون إشكالية التطوير والتقويم والمراجعة للفعل التربوي والتعليمي مركبة، وذات أبعاد معقدة جدا، ويتجلى ذلك أكثر فأكثر في مؤسسات التعليم الشرعي، في معظم الأحوال، وعند بعض حملة العلم الشرعي؛ ذلك بشيوع أسلوب الرتابة في التلقي، ونقل التوارث الاجتماعي، دون اختبار جدواه، وآلية تلقي اللاحقين عن السابقين إنتاجهم العلمي بوسائلهم نفسها، فيما وراء نصوص الكتاب والسنة، واعتماده على أنه مسلمات غير خاضعة
[ ص: 12 ] للمناقشة والمراجعة رغم تبدل الزمان وتغيير الاستطاعات، وعدم توفر شروط محل التنزيل، بحجة أن طرائق التعليم وكتبه ومواده قد أنتجت علما وعلماء ومصلحين، وأنـها إنما هي في أصلها مستمدة من الكتاب والسنة ولم تأت من فراغ، وذلك قد يشكل لها حماية من المراجعة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن قيم الكتاب والسنة الخالدة المجردة عن حدود الزمان والمكان، المؤهلة للإنتاج والعطاء في كل زمان ومكان، قد تقع ضحية لعقلية التخلف تلك، وينعكس ذلك كله على كيفية التعامل معها، فتعبث فيها أيدي الغلو والجهل والانتحال والتأويل، وفي كثير من الأحيان تفتقد مقاصـدها، وتحول لتصبح وظيفتها التسويغ لمصلحة فئة أو طائفـة أو حزب أو سلطة الحـكم أو سلطة المال أو الجـاه والنفوذ، أو للاندفـاع والحمـاس للخروج والمواجهـة بدون تخطـيط أو إعداد أو استعداد، والارتطام بالعدو، أو تخضع للتقطيع والاختزال والانتقاء، فيصبح دورها تغذية التعصب والتطرف والكراهية والإكراه، بعيدا عن أجواء الحوار والحرية والمناقشة للوصول إلى الحقيقة، وبذلك تتحول من وسيلة لبناء العقل وتزكية النفس وتنقية السلوك ومحل للنهوض إلى أداة لتكريس التخلف والتراجع والتقهقر الحضاري، تتحول من حل إلى مشكلة، وعندها تجهض من الداخل، ويهرب الناس منها بدل أن يهربوا إليها، ويصاب أتباعها والمتحمسون لها بالإحباط، وقد تتحول إلى وسيلة ارتزاق وابتزاز، تحمل الناس بدل أن يحملوها، وفي أحسن الأحوال قد يكون المسوغ الهروب إلى
[ ص: 13 ] اجتهادات السابقين، والاحتماء بها، وعدم تحمل مسؤولية النظر والاجتهاد، وما يمكن أن يترتب عليه من خطأ ونقد.
وهنا قضية، قد يكون من الأهمية بمكان إعادة طرحها أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، ولا نرى ذلك من التكرار المستنكر، وهي أن واقع التعليم الشرعي في كثير من جوانبه لا يتحقق بالمقاصد أو لا يحقق تلك الأهداف بالشكل المطلوب، وذلك ليس داء ذاتيا في علوم الوحي، وإنما هو مسؤولية تقصيرية ومن إصابات الوسائل المصاحبة والأدوات المستعملة والطرائق المتبعة، ذلك أن الشرع شيء وعلم الشرع أو وسائل وطرائق ومناهج التعليم الشرعي، الذي يتوصل به لمعرفة الشرع والإحاطة بمعارفه وأحكامه شيء آخر.
فالإشكالية في الوسائل والأدوات، التي لا تمتلك بالضرورة صوابية الوحي ولا عصمته ولا قدسيته، وهي قابلة دائما للمراجعة في ضوء تطور المجتمعات، وتنوع حاجاتها، وتغير عاداتها وظروفها، ومستوى كسبها العلمي، أو بتعبير آخر تغير مواصفات محل تنزيل الأحكام الشرعية، ذلك أن الاجتهاد في محل الحكم، وتوفر الشروط المطلوبة للتنزيل لا يقل أهمية عن الاجتهاد في النص وإبصار دلالاته ومقاصده، أو ما يسمى فقه النص.
فإذا اقتصر الاجتهاد على فقه النص وغاب الاجتهاد عن محل تنـزيل النص تحول الفقه والاجتهاد من مجال التنـزيل وإدراك شروط التكليف ومعرفة الواقع وتحديد الاستطاعة مناط التكليف إلى نوع من الإسقاط
[ ص: 14 ] للأحكام على غير محالها، والتعسف في تطبيقها، الذي يأتي ثمرة لحفظ الأحكام، وليس فقهها، وبذلك تتحول الأحكام الشرعية من تقديم الحلول إلى مضاعفة المشكلات وتأزيم الواقع.
وتتأكد الأهمية إلى التطوير والمراجعة لمضامين التعليم الشرعي ومؤسساته، بإداراتها وأدائها ومناهجها وسياساتها ووسائلها، وتتولد أهمية ذلك من أهمية هذه العلوم والمعارف الشرعية بالنسبة للإنسان ذاته، محل التنزيل ومحل الاستجابة والفعل والتطبيق والسلوك.
وقد لا نأتي بجديد إذا قلنا: إن علوم ومعارف الوحي محلها الإنسان، بكل مكوناته، محلها بناء مرجعيته، وتزكية سلوكه، مهما كانت تخصصاته العلمية والمعرفية وتحديد نظرته إلى الحياة، ودليل حياته، والإجابة عن الأسئلة الكبرى والمقلقة لحياته، وتزويده بدليل العمل، وامتلاك معارف النشأة الأولى، ومعرفة المصير، التي يدور حولها دائما السؤال المقلق الكبير، ويعجز العقل عن الإجابة المقنعة.
لذلك فقيم الوحي المعصوم تمنح اليقين، وتمثل بالنسبة للعلوم التجريبية يقينية التجربة المعملية أو المخبرية، التي تنطلق منها العلوم التطبيقية، ويتم في ضوئها الاختراع والاكتشاف، بينما العلوم التجريبية محلها وسائل الإنسان، أشياء الإنسان، وهي بهذا الاعتبار ليست خارجة عن مقاصد العلوم الإسلامية، أو علوم الوحي واستحقاقاتها وأحكامها، وإنما استدراكها وتحصيلها يقع ضمن إطار الفروض الكفائية، كما أسلفنا.
[ ص: 15 ]
ولعلنا نقول: إن العلوم التجريبية من لوازم التعليم الشرعي وأدواته لفقه الواقع، الذي يعتبر من لوازم فقه النص في التعليم الشرعي، إضافة إلى أن الإنسان المؤطر بعلوم الوحي وفقه الدين هو الأجدر بتحصيل تلك العلوم وضبط وجهتها وحسن استخدامها والالتزام بعلمها
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، والانضباط بأخلاقها، حيث إن إشكالية أخلاق العلم والمعرفة اليوم لا تقل أهمية بل وخطورة عن غياب المعرفة نفسها.
والفوارق كبيرة وخطيرة بين معرفة توظف لمصالح الإنسان والارتقاء بحياته، ومعارف يعبث بها فتتحول لتدمير الإنسان وشقائه؛ وإنتاج أدوات الهيمنة والظلم والاستغلال والاستبداد والاستعمار، فدور التعليم الشرعي، الذي يبني المرجعية أن يوجه الإنسان ويحضه على تحصيل المعارف وإتقانها، ويضبط استخـدامه لحصيلة المعارف، وتوجيهها لخير الإنسانية، والحيلولة دون شقائها.
فهل يقوم التعليم الشرعي برسالته، ووظيفته، على مستوى بناء المرجعية وبناء الإنسان الصالح، الذي يتمسك بقيم الوحي، في الكتاب والسنة، ويلتزم أحكامها والذي يحسن في الوقت نفسه إنتاج المعرفة ويحسن استخدامها وفق مقاصد الدين، وبذلك يتحقق مقصد الخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم :
( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ، ويتحقق مدلول قوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ؟!
[ ص: 16 ]
من هنا نقول: إذا كان الإنسان وسيلة التغيير والنهوض، وهدفه في الوقت نفسه، ذلك أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن مسألة التغيير والنهوض، وحتى الارتكاس والسقوط، في المقابل، منوطة إلى حد بعيد بمدى فقهنا في الدين، الذي يمكننا من حسن التعامل مع معارف الوحي، في الكتاب والسنة، ويؤهلنا للقيام بمراجعات مستمرة لأدوات ووسائل تعليمها، وتصويب رسالتها، واختيار أدوات التوصيل، واكتشاف الخلل والعطب، الذي يعطل وظيفتها، ويعوق تحقيق أهدافها، ويعزلها عن واقع الحياة المتجددة المتطورة بطبيعتها.
ذلك أن التطور والتغيير سنة الله في الحياة والأحياء، ولا معنى لخلود الشريعة أو القيم الإسلامية إلا بمرونتها وقدرتها على الإنتاج وتقديم الحلول والأوعية الشرعية لكل عصر ومكان، لذلك لا يجوز أن نحمل عليها جمود المسلمين وتخلفهم وتقهقرهم الحضاري، وعجزهم عن الاجتهاد والإنتاج والعطاء، وتحويلهم القيم الإسلامية من مجال الحياة الفاعلة إلى ساحات القراءة على الموتى والتكسب في المقابر ومجالس العزاء، والاقتصار على قراءتها، ومعاودة القراءة، مرات ومرات، وتبقى حالنا قبل وبعد القراءة هي هي، ونستمر في التعبد والتقديس لوسائل التعليم الشرعي، ونقلها من جيل إلى جيل، وقد اختلف الإنسان والمجتمع والحياة والحضارة والثقافة، وتغير الزمان والمكان وحاجات الإنسان وكل شيء.
[ ص: 17 ]
لقد أصبح المطلوب أكثر فأكثر قراءة معطيات الوحي والتعامل مع القيم الشرعية من خلال ظروف واستحقاقات الواقع، وإبداع الوسائل المناسبة للدعوة والتعليم، وقراءة الواقع، وتحديد اختلالاته من خلال القيم الشرعية، ووضع الخطط العلمية من خلال أهل العلم والاختصاص والخبرة والمرجعية الشرعية، للتعامل معه على بصيرة، وبشكل استراتيجي تربوي ومتدرج: ماذا نقدم وماذا نؤخر؟ ماذا نؤجل، وماذا نسكت عنه في مرحلة دون أخرى، بحيث يترافق ذلك دائما بعمليات التقويم والمراجعة للارتقاء بأعمالنا، بعيدا عن التقديس والتقليد؟
ويبقى السؤال الكبير أمام مؤسسات الدعوة والتربية والتعليم الشرعي خاصة: كيف نعد المسلم لعصره، ونؤهله لحمل رسالة الإسلام للعالم، والنهوض بأمته، لتحقيق الشهادة على الناس، وتأصيل الوسطية في الذهنية والثقافة وتجسيدها في الحياة الإسلامية؟
وبالإمكان معاودة القول: إن معارف الوحي، في الكتاب والسنة، والاهتداء بتنزيلها في السيرة، والقبس من تجسيدها في حياة خير القرون، واستقراء عوامل السقوط والنهوض والتجارب التاريخية، وسقوط الكثير من المشروعات البديلة وتكريسها للتخلف والاستبداد والتراجع الحضاري... يؤكد أن التغيير والنهوض إنما يتحقق من خلال بناء المرجعية، وتطوير خصائص وصفات الإنسان، وتحقيق ميلاده من جديد، من خلال قيمه، التي يؤمن بها، فهي دون سواها تبني مرجعيته وتصنع شخصيته أو تشكل ذهنيته، ليصبح ذلك شاكلته، التي يعمل عليها.
[ ص: 18 ]
وسوف يطول ليل السقوط والتخلف ما لم نقم بمراجعات شجاعة وجريئة، وبيان مواطن الخلل، واستبدال وسائل التوصيل المعطوبة، والعودة لفضاء الأمة الوسيع، بعيدا عن التحزب والطوأفة والتعصب والتقليد الجماعي والفردي، ونمتلك المعيار الصحيح والواضح للتمييز بين معارف الوحي واجتهادات البشر في تنـزيل تلك المعارف على الواقـع، الذي قد يخطئ وقد يصيب، والاعتقاد أن صوابية الاجتهاد لعصر، بحسب ظروفه ومشكلاته، لا يعني بالضرورة الصوابية لكل عصر، رغم تغير الظروف والأعـراف والمعطيات والزمـان والمكان والإنسان؛ والتعليم في النهاية إعداد الفرد لعصره، وتحقيق تنميته، وتوفـير حمايته من المخاطر، وليس لإخراجه من عصره.
لذلك فالخطورة، كل الخطورة، أن تعاني مؤسسات التعليم الشرعي من غربة الزمان والإنسان، وتعيش في غير عصرها، وتتعامل مع غير مشكلاته، وتغلق باب التفكير والاجتهاد على المنتج السابق، الذي إنما أنتج لمشكلات عصور سابقة، وتنطوي على نفسها، وتنسحب إلى عالمها الخاص، وبذلك تفتقد فاعليتها في المجتمع، وتفسح المجال لتمدد مؤسسات ومناهج وفلسفات التعليم الأخرى، ويستمر جهدها في النحيب والبكاء على الأطلال، والهروب للعيش في الماضي، لمعالجة مركب النقص في العجز عن الإنتاج، وتنعي حظها، وتلوم غيرها على تقصيرها، بدل أن تلوم نفسها!!
[ ص: 19 ]
وفي الوقت، الذي تعاني المؤسسات الشرعية ووسائل التعليم فيها من غربة الزمان، وذلك بإصرارها على الإبقاء على الطرق التقليدية والمتوارثة عن الأجداد، والانتصار لها بأنها استطاعت أن تنتج علماء ومجتهدين وتحمي بيضة الشريعة من الانتهاك تاريخيا، نجد في المقابل أن الكثير من المؤسسات والجامعات، التي امتدت في فراغنا، واحتلت ساحة تفكير إنساننا، وتحكمت بطرق تفكيره ومناهج بحثه، وأنماط تفكيره وسلوكه، وتدخلت بصناعة مرجعياته، والعبث بتراثه، وقراءته وفق أبجديتها وتاريخها الثقافي ومناهجها وفلسفتها للحياة، نجد أن تلك المؤسسات، على الرغم من مضي سنوات وسنوات، والدعاوى التي رافقتها، والآمال التي علقت عليها، ما تزال تعاني من غربة المكان، وبقيت أكثر عجزا في انتشال الإنسان من وهدة التخلف.
بل لعلنا نقول: إنها ساهمت بتمزيق رقعة تفكيره، وبعثرة مرتكزاته، والعبث بمرجعياته، فزادته حيرة وعجزا وخذلانا وتخلفا، وجعلته يعيش انشطارا ثقافيا بين من ينكفئون على (الذات) ويجمدون على الموروث، دون القدرة على الإفادة منه، وتجريده عن ظروف الزمان والمكان، والإفادة من منهجه وعبره لزمانهم ومكانهم، وبين من يرتمون على (الآخر) من المفتونين بحضارته وثقافته ويحاولون بناء حاضرهم على أصول وقيم ثقافية غريبة عنه، فيفقدون ذواتهم وينتهون إلى العمالة الثقافية والسياسية معا.
لذلك بالإمكان القول هنا: إن الإنسان المتخلف، العاجز عن تطوير ذاته، من خلال قيمه وثقافته ومرجعيته، هو أكثر عجزا عن النهوض
[ ص: 20 ] والتطـوير من خـلال (الآخر) وامتلاك القدرة على التمييز بين ما يؤخذ وما يرد، والفرق كبير، وكبير جدا، بين التبادل الثقافي، الذي يمتلكه الإنسان (العدل) وبين الاستلاب الثقافي الذي يسقط فيه الإنسان (الكل)!!
فهل يدرك القائمون على مؤسسات التعليم الشرعي، الذي تناط به المرجعية والنهوض، هذه الإصابات، وهذا الواقع، ويحاولون تطوير (الذات)، والارتقاء بوسائل التعليم وأولوياته ومضامينه، وإعداد المسلم لعصره، وإمكانية التعامل معه من خلال أبجدية شرعية صحيحة؟
وقضية أخرى، قد تكون لها علاقة بإشكاليات منهجية في وجهة التعليم الشرعي، وطبيعة ومجالات موضوعاته وبحثه واهتمامه، بحيث يمكن القول: إن التعليم الشرعي توجه بكلتيه، أو بمعظم بحوثه وموضوعاته وأنشطته إلى فقه النص، واستنطقه، وبحث في دلالاته، ويكاد يكون هذا الفقه قد أحاط بجميع احتمالاته، إلا أنه لم يقدم إلا القليل القليل في توفير الأدوات والاختصاصات والعلوم، التي تمكن من فقه الواقع، ودراسة الظواهر الاجتماعية والسنن (القوانين)، التي تحكمها، والمخاطر والأزمات، التي يمكن أن تواجه الأمة، فوقع التعليم الشرعي في محاصرة نفسه، والانكفاء على ذاته، وخرج من الميدان بشكل شبه كامل، اللهم إلا من بعض المساحات الضيقة والمتكررة والمحدودة.
ولقد أثمر ذلك في كثير من الحالات غياب المقاصد الشرعية، وغياب فقه الاستطاعة، مناط التكليف، وفقه محل الحكم، وانتهى إلى عملية
[ ص: 21 ] الإسقاط، إسقاط الأحكام على محالها بشكل آلي دون النظر والاجتهاد في المحل (فقه الواقع) ومدى توفر الشروط والاستطاعات لتنـزيل الحكم على محله، وربط التنـزيل والتطبيق والتكليف بالاستطاعة.
ولعل الإشكالية المزمنة اليوم هي في الخلط بين عملية الإسقاط الآلي وبين فقه التنزيل، خاصة وأن القرآن بين أيدينا جملة واحدة، إضافة إلى الحديث الصحيح، بكل موضوعاته وظروفه ومعالجاته، والسيرة ومجالات التنزيل المتنوعة والمختلفة للقيم حسب حالات المجتمع واستطاعاته، من قوة وضعف، ونصر وهزيمة، ودعوة ودولة...إلخ.
فكيف نتعامل مع الواقع، بكل مكوناته، ونستطيع أن نضعه في المكان الملائم من مسيرة الدعوة في عهد النبوة وخير القرون؟ وما العلاج الذي يناسب مرضه وإصابته من هذه الصيدلية الضخمة، التي تحتوي على الأدوية المتنوعة للإصابات المتنوعة؟ فبدون فقه المرض قد ينقلب الدواء سما قاتلا، مع أن اسمه دواء! ذلك أن لغياب فقه الواقع مخاطر كبيرة على الإنسان وعلى القيم الشرعية.. بل لعلنا نقول: إن فقه الواقع وأعراف الناس من لوازم فقه النص، وإذا كان المطلوب من التعليم بناء الإنسان وإعداده لعصره، فكيف سيكون حال التعليم الشرعي إذا لم يبذل الجهد المطلوب في فهم العصر وكيفية التعامل معه؟!
وليس ذلك فقط، وإنما هناك مخاطر أخرى ليس أقلها التصرف في مفهوم مصطلح (النص)، واللبس الحاصل، حيث أصبح يطلق مصطلح
[ ص: 22 ] (النص) على أقوال البشر، واعتبارها نصوصا كنصوص الوحي المعصومة، تدعى لها العصمة، التي تلغي العقل والتفـكير والمراجعـة والتصحيح، مع أنها اجتهادات يجري عليها الخطأ والصواب!!
ويمكن القول: إن غياب إدراك أهمية فقه الواقع، والاقتصار على فقه النصوص وحفظها، تولد عنه أن الجهود التعليمية والفكرية اتجهت جميعا إلى إثبات صحة النص، وتحقيقه، ومقارنته، واستكمال الرجوع إلى مخطوطاته، وكان تفكيك العبارة والشكل هي الأهم في التعليم، حتى التعليم الجامعي، وهذا جيد من بعض الوجوه لكنه يمثل نصف الحقيقة، أو نصف الطريق، وأنه إنما يقع في إطار الوسائل؛ فما قيمة النص الصحيح العملية إذا لم يترافق معه دراسات واجتهادات عن كيفية إعماله في واقع الناس؟! الأمر الذي أدى إلى تجمد عقل المسلم، وتحول إلى خزانة ونسخة مكررة للكتب المقررة.
ولعلنا نقول هنا أيضا: إن الكثير من العلوم، التي تقع في مجال إثبات النص، على أهميتها ودورها في حفظ وتنقية تراث الأمة، وإكساب الأمة الاطمئنان إلى صحة مصادرها، إلا أنه في النهاية عمل بلغ مقصده، ولم يتبق له إلا القيمة التاريخية والقبس المنهجي، أما أن نستمر في أن نبدي ونعيد دون نواتج فهذه آفة من لم يفقه دور التعليم الشرعي في بناء حياة الأمة.
فالقرآن ورد بالتواتر، وتلقته الأمة، التي لا تجتمع على ضلالة بالقبول، والحديث خضع لمعايير نقدية وعلم توثيق وتحقيق حتى تميز صحيحه من ضعيفه من موضوعه، في علم لم يشهد العالم له مثيلا، وبذلك كانت قيم
[ ص: 23 ] دين الأمة، بمصدريه، مكتملة غير منقوصة، بحفظ الله وجهود البشر، وهذا من لوازم الخلود والخاتمية وتوقف التصويب من السماء.
والمطلوب اليوم، من حيث الأولـوية: كيف نتعامل مع قيمنا وتراثنا، لا كيف نثبت صحة قيمنا وتراثنا؟!
من هنا نقول: إن استمرار العلم، والعمل على إثبات النص بأقدار محدودة أمر مطلوب ومفيد، إلا أنه لا بد من الإفادة من هذه النصوص المعصومة، في الكتاب والسنة، المصححـة والمدققة في الاجتهادات التراثية في تحقيق مقاصدها في حياة الناس، بقدر استطاعاتهم، كما أنه لا بد أن نطور أولويات التعليم الشرعي ومضامينه، بحسب حاجات الناس ومتطلباتهم وما يعانون من خلل سلوكي أو معرفي.
أما أن يبقى اجتهاد البشر يدرس على أنه صالح لكل زمان ومكان، حتى ولو تأتى من النصوص المعصومة الخالدة فقضية قابلة للنظر حقا.
وليس أمر الأولويات المطلوبة ضمن إطار كيفية التعامل مع المضامين فقط، وإنما لا بد من أن يشمل التطور والتطوير ظهور حقول ومجالات جديدة لا بد أن يمتـد إليها العلم والتعليم الشرعي، وتصبح من مجـالاته؛ لأنها -كما أسلفنا- مضامين ورؤى ومواقع تتعلق بمعرفة محل تنـزيل الأحكام وآلية قياس الاستطاعة، التي هي محل التكليف، وإلا كان العبث في التعامل مع الأحكام وتنـزيلها على غير محـالها، أو إسقـاطها على غير محالها؛ وما نلاحظه من الظواهر الاجتماعية وبعض صور التدين المغشوش
[ ص: 24 ] والتفكير المعوج، لا بد أن يؤخذ بالاعتبار في تحديد أولويات التعليم ومجالاته ومضامينه، وإلا جاء التطوير نوعا من إعادة التدوير من الداخل، أو جاء نوعا من الإتيان على الثوابت والإلغاء والإقصاء باسم التطوير.
لذلك لا بد من فك الالتبـاس في كل عمـلية تعليم وتطوير بين الذات والقيمـة، بين الوسيلـة والهـدف، بين الأفـكار والأشخاص، بين الذكاء والذاكرة، بين التعليم والتلقين، بين الحفظ والتفكير، بين النصـوص في الكتاب والسنـة والاجتهاد والشروح في التراث، وإدراك محل التطوير بدقة.
وعلى الرغم من أن وسائل التعليم الشرعي ومضامينه ومؤسساته أنتجت بعض الأفراد الإعلام، الذين يمثلون بلا شك الخلود والامتداد وخمائر النهوض وعدم الانقطاع، والطائفة القائمة على الحق بسبب من كسبهم الذاتي، أو قدرتهم على استخلاص المطلوب، أو تميزهم بخصائص وصفات مكنتهم من هضم العلم الشرعي والقدرة على إدراك مقاصده وإبانة محاسنه، إلا أن المنوط فعلا بمؤسسات التعليم الشرعي أن تنتج أجيالا لا أفرادا يتمكنون من الفعل الاجتماعي، في مجالات الحياة المختلفة، ويثيرون الاقتداء من خلال مرجعية شرعية سليمة، ويتحولون من السير خلف المجتمع والحكم على سلوكه إلى السير أمام المجتمع وريادته، ينفرون للفقه في الدين، ووضع الأوعية الشرعية لحركته، وامتلاك الفقه والرؤية الصحيحة لتحذيره من المخاطر؛ أي التحول من فقه المخارج إلى فقه المقاصد.
[ ص: 25 ]
فهل يمكن لنا أن نقوم واقع التعليم الشرعي وفقه الدين ومنتجاته، ومدى تحقق مقاصده، وبلوغ رسالته غايتها بقوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ؟ فأين المتفقهون في الدين، الذين أنتجهم هذا التعليم، العالمون بواقع المجتمعات، القادرون على استيعاب الماضي وفهم الحاضر وقراءة المستقبل وإبصار ما يحمل من مخاطر وشرور، فينذروا الأمة، ويحشدوا طاقاتها بمواجهة ما يحيط بها ويبيت لها، ويمتلكون القدرة على وضع الخطط والاستراتيجيات والبرامج، وفقه إدارة الأزمات، والارتقاء بحواس الحذر والاستشعار المبكر؟
عند ذلك فقط يمكن لنا أن نطمئن إلى أن التعليم الشرعي يبلغ غاياته ويؤدي رسالته.
وبعد:
فالكتاب عرض لما يمكن أن يكون من أخطر الموضوعات وأدقها وأكثرها حساسية، ذلك أن العلم الشرعي، أو علم الحلال والحرام، يشكل مرجعية الأمة، ودرعها الواقية من الذوبان، وحماية ثقافتها، ومصدر خيريتها، وسبيل نـهوضها، فـ
( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) لأنه علم بناء (الذات).
والكتاب يمكن أن يعتبر مشروع ورقة عمل تستدعي الحوار والمناقشة والإغناء في المؤسسات العلمية والمعاهد والجامعات والندوات، ليتحول
[ ص: 26 ] الكلام عن أهميـة التطـوير والحاجة إليه للبحث في التطوير نفسه، وممارسته عمليا، ولئن جاء هذا البحث متأخرا، بعض الشيء، في سلسلة "كتاب الأمة"، على أهميته وخطورته، إلا أنه يبقى خطوة متقدمة، وأولوية شرعية ودينيه وثقافية ونهضوية.
فالتعليم الشرعي -كما أسلفنا- محله بناء الإنسان، والارتقاء بخصائصه وصفاته وتقويم سلوكه وبناء أفكاره؛ والإنسان محل التغيير، بينما العلوم التجريبية محلها وسائل الإنسان، والارتقاء بأشيائه؛ والإنسان وسيلة التغيير وهدفه، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ فالتعليم الشرعي، دون سواه، يبقى هو السبيل لتغيير الإنسان، ذلك أن انتظار النهوض من خارج المرجعية الشرعية مضيعة للوقت.
لذلك يمكن التأريخ للتراجع والتخلف الحضاري، في حياة المسلمين، من خلال تراجع التعليم الشرعي، وخروجه من ساحة الفاعلية، وانفصاله عن المجتمع، وإغلاق باب الاجتهاد، الذي جمد الفقه وتوقف به، عدا ما استمر الاجتهاد فيه من فقه وفتاوى لصالح السلطان.
لذلك فإن استدعاء الموضوع، وفتح ملفه يعتبر على غاية من الأهمية، ونوعا من المساهمة في عملية استرداد (الذات) وإعادة بنائها وتحضيرها للنهوض.. لقد فتح الباحث، جزاه الله خيرا، نوافذ للنظر، وطرح محركات للتفكير والحوار والمناقشة، وعرض لمسلمات مترسبة في ذهنية الأمة، وحاول النظر من زوايا جديدة تتجاوز المألوف وتتحدث عن المسكوت عنه،
[ ص: 27 ] وتناولها بتلطف متسلحا بالمعرفة وأخلاق المعرفة معا، إضافة إلى الخبرة العملية الميدانية، ولمس بعض الجوانب الحساسة لمسا خفيفا وبألفاظ مهذبة ومؤدبة، بعيدا عن الكزازة والمواجهة والتعصب والتقديس؛ تناولها بحكمة العاقل، وغيرة المربي، وبصيرة الناقد.
وفي تقديري، ما لم تقم نهضة لفقه الشرع، وفهم العصر، وإبصار حركة العلم والعالم، فسوف ينعزل التعليم الشرعي شيئا فشيئا، ويضعف تأثيره، وتخفت فاعليته، مهما ازداد عدد المؤسسات والجامعات، التي قد تقتصر أطروحاتها وبحوثها ورسائلها وإنتاجها وفعل بعضها العملي على ترقية أصحابها، إلا من رحم الله، وبذلك فهي تحملهم ولا يحملونها.
ويبقى المطلوب أن ينتج التعليم الشرعي جيلا من العلماء العدول من كل خلف، في الأمة، الذين يحملون العلم الشرعي، ويقومون بالتقويم والمراجعة وإعادة النظر لوسائلنا ومقاصدنا ومضامين تعليمنا وأولوياتنا في التعليم الشرعي، للارتقاء والتصويب ونفي نوابت السوء، والتلقي عن النبع الصافي، وفضح التحريف والانتحال والغلو.
والله غالب على أمره.
[ ص: 28 ]