المنهج النبوي والمناهج الحادثة بعده
اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به هو شعار أهل العلم في عباداتهم ومعاملاتهم، وفي أخلاقهم ونسكهم وعبادتهم، والتعليم وظيفة من وظائف النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصفه الله عز وجل بذلك في مواضع من كتابه، قال سبحانه:
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران :164).
ويؤكد ابن باديس أهمية الرجوع إلى التعليم النبوي حين نريد إصلاح التعليم فيقول: "ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته فيما كان يعلم صلى الله عليه وسلم وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أنه قال:
( وإنما بعثت معلما ) فماذا كان يعلم؟ وكيف كان يعلم؟". (آثار ابن باديس، 3 / 217 ).
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التعليم والتربية، ومع اتساع الفتوحات الإسلامية، وتطور الحياة في المجتمع الإسلامي اتسعت دائرة الحاجة لنشر العلم الشرعي، وتنوعت الفئات المستهدفة، وبرزت مشكلات وأوضاع جديدة، أسهمت في تطوير وسائل التعليم، ونشوء مناهج وأساليب جديدة.
[ ص: 49 ]
وكان التعليم الشرعي يتم من خلال الرواية والمشافهة والسماع؛ والإسناد والرواية عن الرجال سمة لكل العلوم الشرعية، وليس قاصرا على كتب الحديث؛ فكتب التفسير المتقدمة كتفسير ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وكتب الإيمان والاعتقاد ككتب أبي عبيد القاسم بن سلام، وابن أبي شيبة، واللالكائي، وكتب الفقه ككتب ابن المنذر وغيرهم، كلها كانت تروى بالإسناد من المصنف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ومع استقرار التأليف والتدوين انقطعت الرواية بالأسانيد المتصلة، واتسعت دائرة التميز بين التخصصات الشرعية، وهي اليوم تزداد اتساعا، فالتخصص في الفقه قد تحول إلى: فقه العبادات، والمعاملات، والمعاملات المالية المعاصرة، والقضاء، والجنايات.. إلخ.
واستمر النمو والتغير في أوضاع المجتمع الإسلامي، ونمت مناهج التعليم الشرعي وأدواته، فنشأت المدارس الفقهية، والانتماء المذهبي، وارتبط التعليم الشرعي ومناهجه بالمذاهب الفقهية، بل ارتبطت الأوقاف على المدارس والربط بالمذاهب الفقهية؛ فثمة أوقاف لمن يدرس الفقه الحنفي، أو يدرس الفقه الشافعي.. إلخ. كما ارتبطت الوظائف الشرعية كالقضاء والفتوى بالمذاهب الفقهية.
وضعف النمو في التعليم الشرعي ومناهجه وأدواته، مع الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد؛ فاستقرت أوضاع التعليم الشرعي وفق مناهج ومصنفات أصبحت أصلا لما بعدها اختصارا وشرحا وتحشية.
[ ص: 50 ]
ونتيجة لاستقرار مناهج التعليم الشرعي وأدواته وفق نمطية معينة فقد استقر لدى عدد من الناس أن هذه الأوضاع الموروثة تمثل منهج السلف، وأن تغييرها تغيير لمنهجيتهم في التعلم والتلقي.
إن التزام منهج السلف لا ينبغي أن يكون مجال اختلاف أو جدل، لكننا بحاجة إلى مزيد من المراجعة لنسبة كثير من الأوضاع المرتبطة بالتعليم الشرعي إلى منهج السلف؛ فكثير منها أوضاع حدثت بعد القرون المفضلة، وهذا لايعني رفضها، لكنها أوضاع تلاءمت مع واقع ونشأت استجابة له، وهي أدوات ووسائل لا يكسبها استخدام الأمة لها بعدا منهجيا، فضلا عن أن تكون معيارية للمنهجية.
والسؤال الأهم من ذلك كله: أين منهج التعليم النبوي؟
إن من يتأمل فيما كتب عن التعليم النبوي يجد قصورا ظاهرا، ويجد أن الجهد المبذول في اكتشاف هذا المنهج لا يزال أقل بكثير من واجبنا تجاه المنهج النبوي، بل يجد أن الاهتمام بما استحدث من أنماط التعليم وأدواته بعد القرون المفضلة يكاد يكون أكثر وأبلغ.
وكثير مما كتب حول المنهج النبوي لا يتجاوز الوصف والجمع، والتركيز على سرد أشكال التعليم، وأنواع الوسائل المستخدمة، ويندر الاعتناء بالتحليل والعمق في اكتشاف المنهج النبوي، ولعل ما جمع ودون يمثل مادة للباحثين يثرونها بمزيد من التحليل والدراسة المتعمقة، ولا تزال الحاجة ماسة لمزيد من تأمل المنهج النبوي في التعليم، ومقارنته بما نشأ من
[ ص: 51 ] تطورات في التاريخ العلمي للأمة، وأحسب أن هذا سيزيل كثيرا من الإشكالات المتعلقة بفهم منهج السلف في التعليم، أو تحويل بعض النماذج والصور المستحدثة إلى قضايا منهجية.
وهذا لا يعني أن كل ما استجد بعد العصر النبوي من وسائل وأساليب سيكون مرفوضا؛ فدائرة الوسائل والأساليب تختلف عن دائرة المقاصد.
لكن هذه المراجعة ستفيـدنا في اكتشاف بعض جوانب القصور في واقع التعليم الشرعي بعد العهد النبوي، وستفتح لنا آفاقا أخرى لتطوير واقعنا، وستسهم في نقل كثير مما يعده الناس جوانب منهجية إلى دائرة الممارسات والأساليب البشرية، التي تتسع للتقويم والمراجعة، وتستمد قيمتها من فاعليتها وجدواها.
[ ص: 52 ]