الحفظ والفهم
الحفظ والفهم من أكثر القضايا جدلا فيما يتصل بالتعليم الشرعي، وقد زاد الجدل حولها مع نشوء الاتجاهات الحديثة في التربية، والتي نادت بالتقليل من شأن الحفظ، ودعت إلى ضرورة التركيز على الفهم والاستنباط، فالمستويات العليا من التحليل والتركيب والتقويم.
وقبل الدخول في الموضوع ثمة أمور ينبغي أن تؤخذ بالحسبان والاعتبار، منها:
- مثل هذه القضايا ستبقى محل جدل وتباين في الآراء مهما قيل فيها، ومن الصعوبة حسمها، وقيمة معالجتها تقريب الآراء ووجهات النظر، وتضييق دائرة الخلاف؛ والجدل حولها ليس حديثا، بل هو قديم قدم المدارس العلمية، وستبقى مدارس تغلب هذا الجانب، وأخرى تغلب غيره.
- الخلاف في هذه القضايا بدلا من أن يقود أصحابه إلى مراجعة مواقفهم والتفكير فيها، فإنه في حالات كثيرة يقودهم إلى مزيد من التمسك بها والدفاع عنها، وبذل الجهد في البحث عن الشواهد التي تؤيد رأيهم وفكرتهم، وكغيرها من القضايا محل الجدل والاختلاف سيجد كل طرف من الشواهد التراثية ما يؤيد رأيه.
[ ص: 53 ]
- تبدو الأفكار المخالفة بمثابة التطعيم، الذي يحقق المناعة لدى جسم الإنسان، مما يشكل حاجزا عن سماع الفكرة أو نقاشها، ولو جاءت من مصادر أكثر حيادية، فكثير ممن حددوا لأنفسـهم موقعا في دائرة الموقف من الحفظ أو الفهـم يقودهم سماع الرأي المخالف إلى التمسك بموقفهم بدلا من مراجعته.
- من المشكلات المرتبطة بالقضايا المثيرة للجدل والخلاف أن هذه القضايا بطبيعتها لا تقبل القسمة الحدية، ولا تحسم من خلال إجابة واحدة قطعية؛ فهي تملك قدرا من النسبية، وبناء عليه فإن الإصرار على الوصول إلى رأي حدي قاطع خلاف طبيعة الأفكار.
وحين نعود إلى النصوص الشرعية نجد ما يؤيد أهمية كل من الحفظ والفهم.
فمما يدل على فضل الحفظ قوله تعالى:
( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) (العنكبوت:49).
وبوب البخاري في كتاب العلم: (باب حفظ العلم)، وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو:
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) (البقرة:159) إلى قوله:
( الرحيم ) ، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع
[ ص: 54 ] بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون ". (أخرجه البخاري، 118؛ ومسلم، 2492).
وعن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
( من الوفد، أو من القوم؟ ) قالوا: ربيعة، فقـال:
( مرحبا بالقوم، أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى ) قالوا: إنا نأتيـك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هـذا الحي مـن كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، فأمـرهـم بأربع، ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله عز وجل وحده، قال: "هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
( شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم"، ونهـاهم عن "الدباء والحنتم والمزفت ) قال شعبة: ربما قال:
( النقير ) وربما قال
( المقير ) قال:
( احفظوه وأخبروه من وراءكم ) (أخرجه البخاري، 87؛ ومسلم، 24).
وعن أبي زيد رضي الله عنه ، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطب حتى حانت الظهر، ثم نزل فصلى الظهر، ثم صعد فخطبنا حتى حانت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد فخطبنا حتى غابت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأحفظنا أعلمنا". (أخرجه ابن منده في الإيمان، 995).
[ ص: 55 ] وفيما يتصل بالفهم نجد النصوص الآتية:
ثناء الله عز وجل على نبيه سليمان، عليه السلام، والامتنان عليه بنعمة الفهم، قال تعالى:
( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) (الأنبياء:79).
وفي القرآن الكريم أيضا بيان دور أهل العلم في الفهم والاستنباط، والأمر بالرد إليهم، قال تعالى:
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) (النساء:83).
وبوب البخاري في كتاب العلم: (باب الفهم في العلم)، وأورد فيه بإسناده عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار فقال:
( إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم ) فأردت أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( هي النخلة ) (أخرجه البخاري، 72).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة [ ص: 56 ] أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) (أخرجه البخاري، 79؛ ومسلم، 2282).
قال ابن العربي في فضل الفقيه الفاهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة: "إذا كان رجل متماديا على العمل لا يفتر، وآخر حسن الفهم والتدبر في الشريعة لما يتذكر به ويذكر، كان عمل هذا أضعاف ذلك؛ لأن فعله وافر ونظره صادق، يقدر بفهمه مواقع التلبيس عليه في تلبيس إبليس، فيكون عمله وافرا مخلصا آمنا".
وقال ابن خلدون في انتقاد الطلبة الخاملين: "تجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجـالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم؛ لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية، وليس كذلك". (تاريخ ابن خلدون، 1 / 545 ).
ومما ورد في الجمع بين الحفظ والفهم ما يلي:
ما أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع، قال أبو حاتم: قال الأصمعي: "إذا كانت في العالم خصال أربع، وفي المتعلم خصال أربع اتفق أمرهما وتم،
[ ص: 57 ] فإن نقصت من واحد منهما خصلة لم يتم أمرهما، أما اللواتي في العالم: فالعقل، والصبر، والرفق، والبذل، وأما اللواتي في المتعلم: فالحرص، والفراغ، والحفظ، والعقل؛ لأن العالم إن لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يكن له صبر عليه مله، وإن لم يرفق به بغض إليه العلم، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به، وأما المتعلم فإن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرغ للعلم قلبه لم يعقل عن معلمه، وساء حفظه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون بينهما مثل الكتاب على الماء". (الجامع، 1 / 343 ).
وقال الحافظ البغدادي: "وليجعل حفظه حفظ رعاية لا حفظ رواية؛ فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء..". (الجامع، 1 / 87 ).
وقال الحسن البصري: "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية". (اقتضاء العلم العمل، 1 / 35 ).
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان (1658) عن سفيان بن عيينة أنه قال: "أول العـلم النية، ثـم الاستماع، ثـم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر".
وقال ابن القيم: "والعلم ست مراتب: أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به، ومراعاة حدوده. فمن الناس
[ ص: 58 ] من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين". (مفتاح دار السعادة، 1 / 169 ).
إننا نجد اليوم عناية فائقة بالحفظ والتأكيد عليه، وهذا لا مجال للاعتراض عليه، وبخاصة ما يتصل بالقرآن والسنة.
لكن هذه العناية تجنح إلى تضخيم دور الحفظ، والتهوين من شأن الفهم ومعالجة المعرفة، بل توجد حساسية عالية عند بعض المهتمين بالتعليم الشرعي من الحديث عن الفهم، وربط ذلك بالتربية الحديثة -غير المرحب بها- وبالتهوين من شأن الحفظ؛ كما تجنح إلى القلق والتوجس من الدعوة إلى الفهم والحديث عنه.
وحال هؤلاء كما وصف ابن عاشور: "وكان معنى العلم عندهم: هو سعة المحفوظات - سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية - فلا يعتبر العالم عالما ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالم؛ ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهد لأحد". (ابن عاشور، ص46).
إن الحفظ وحده لن ينتج فقيها، ولا عالما قادرا على توظيف العلم الشرعي في مجالات الحياة، وتقديم حلول شرعية للمشكلات المعاصرة.
ومن آفات بعض المهتمين بالحفظ والنابغين فيه تصدرهم لإبداء الرأي والفتوى في أمور لا يحسنونها، وإعجاب الناس بهم لما يرونه من حفظهم، الذي يفوقون فيه غيرهم.
[ ص: 59 ]
والتأكيد على هذا لا يعني إهمال الحفظ وإلغاءه؛ فالعلوم الشرعية علوم نقلية، لكن المطلوب هو التوازن، وأن يتزامن مع الحفظ تنمية الفقه والفهم وأدواته، ولا بد من التخلص من عقدة التعارض، وافتراض أن العناية بأحدهما تقتضي إهمال الآخر، وأن النصوص الدالة على أحدهما تقتضي التهوين من شأن الآخر.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن الفهم في المصطلح التربوي هو في المستويات الدنيا من مستويات التحصيل المعرفي، يليه التطبيق، ثم التحليل، ثم التركيب، ثم التقويم، والمؤمل في طلبة العلم الشرعي أن يرتقوا إلى المستويات العليا، وصولا إلى إنتاج المعرفة، لا أن يعيشوا جدلا داخل المستويات الدنيا من التحصيل المعرفي.
ورحم الله ابن باديس حين قال: "التفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد، وخير منهما الجاهل البسيط".
[ ص: 60 ]