ومن معالم الفاعلية في دور المتعلم ما يلي:
- الفهم والاستيعاب لما يتلقاه في الموقف التعليمي، وقد سبق الحديث عن ذلك مفصلا.
- ممارسة التعلم أثناء الموقف التعليمي؛ فيكون له دور في الاستنتاج والتعميم.
- معالجة المعرفة التي يتلقاها من خلال التحليل والتركيب والمقارنة، والتطبيق على مواقف جديدة.
ومن تأمل المنهج النبوي في التعليم وجد ذلك ظاهرا وبارزا.
فقد كان الموقف التعليمي في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم موقفا يتفاعل فيه المتعلمون، وليس قاصرا على مجرد السماع والحفظ فحسب، ومن نماذج ذلك ما يلي:
أ- أنه صلى الله عليه وسلم يلقـي السـؤال ابتداء على أصـحابه ليمارسـوا التعلـم ويستنتجـوا، "فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله [ ص: 70 ] ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) قال: فضرب في صدري، وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر ) (أخرجه مسلم، 810).
ب- في عدد من المواقف لم يكن صلى الله عليه وسلم يعطي الإجابة لمن يسأله من أصحابه رضوان الله عليهم، مباشرة، بل يتحاور معهم بما يقودهم لاستنتاج المعرفة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه
( أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال: "هل لك من إبل؟" قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟" قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟" قال: نعم، قال: "فأنى ذلك"؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق ) (أخرجه البخاري، 5305؛ ومسلم، 1500).
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما،
( أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: "أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه"، قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق بالقضاء ) (أخرجه مسلم، 1148، وأصله في البخاري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أرأيت جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ قال: "أرأيت الليل الذي قد ألبس كل شيء فأين جعل النهار؟ قال: الله أعلم، قال: فكذلك الله يفعل مايشاء ) (أخرجه ابن حبان والحاكم).
[ ص: 71 ] ج- كان الصحـابة، رضوان الله عليهم، يمارسون التعلم في حضرته صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه تقويم ما توصلوا إليه.
( جاء رجل ذات يوم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت، والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اعبرها" قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله -بأبي أنت- أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أصبت بعضا وأخطأت بعضا"، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال: "لا تقسم ) (أخرجه البخاري، 7046، ومسلم، 2269)
>[1] .
[ ص: 72 ] د- كان الصحابة يعالجون المعرفة التي يتلقونها، ويسعون بعد ذلك لسد الفجوات التي تنشأ عن ذلك.
عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( من حوسب عذب"، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله تعالى: ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قالت: فقال: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك ) (أخرجه البخاري 103؛ ومسلم 2876)
>[2] .
وحين قال صلى الله عليه وسلم :
( وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا ) (أخرجه مسلم، 1006).
وكثير من مواقف التساؤل في التعليم النبوي لم تكن نتاج صعوبة فهم واستيعاب، بل هي نتاج ممارسة المتعلم عمليات أعلى.
إن هذه المواقف ليست قاصرة على الحالات الفردية، التي حفظت، بل وجود هذه الحالات هو نتيجة لطبيعة الموقف التعليمي، الذي اعتاده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه، بمعنى أنهم لو اعتادوا السلبية في الموقف التعليمي لما سمعنا منهم هذه الأسئلة، ولو كانت السلبية هي اللائقة بالمتعلم لما أقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك.
[ ص: 73 ]
وكان لعلماء السلف اعتناء بتعزيز دور المتعلم في مواقف التعلم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
أخرج مالك في الموطأ (99) عن ضمرة بن سعيد المازني، عن الحجـاج بن عمرو بن غزية، أنه كان جـالسا عند زيد بن ثابت فجاءه ابن قهد، رجل من أهل اليمن، فقال: يا أبا سعيد، إن عندي جواري لي، ليس نسائي اللاتي أكن بأعجب إلي منهن، وليس كلهن يعجبني أن تحمل مني، أفأعزل، فقال زيد بن ثابت: "أفته يا حجاج" قال: فقلت: "يغفر الله لك، إنما نجلس عندك لنتعلم منك"، قال: أفته، قال: فقلت: "هو حرثك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته"، قال: وكنت أسمع ذلك من زيد، فقال زيد: "صدق".
قال الخطيب البغدادي: "أستحب أن يخص يوم الجمعة بالمذاكرة لأصحابه في المسجد الجامع، وإلقاء المسائل عليهم ويأمرهم بالكلام فيها، والمناظرة عليها".
قال ابن جماعة: "أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات، ويمتحن ضبطهم لما قدم لهم من القواعد المهمة والمسائل الغريبة، ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره" (تذكر السامع والمتكلم، ص 94).
وروى الخطيب البغدادي في الجامع بإسناده عن الزهري قال: "كان مجلس عمر مغتصا من القراء، شبابا وكهولا، فربما استشارهم ويقول: لايمنع
[ ص: 74 ] أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه؛ فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء". (جامع بيان العلم وفضله، والخطيب في الجامع، 371).
إن النصوص المتعلقة بالتعليم النبوي لا تخفى على المهتمين بالعلم الشرعي، بل هم أعلم الناس بها رواية ودراية، لكن كثيرا منهم يختزل دلالتها في سؤال المتعلم، وفي الحوار بينه وبين المعلم، بينما يحتاج التعامل مع النصوص النبوية إلى تساؤل أعمق عن دور كل من المعلم والمتعلم في الموقف التعليمي، ودور المعلم والمتعلم في التعليم النبوي يختلف كثيرا عما ساد في البيئة التعليمية في مدارس التعليم الشرعي.
والأمر لا يقف عند مجرد السؤال وتبادل الحوار بين المتعلم والمعلم؛ فالسؤال من المعلم في مواقف كثيرة -أثناء التعلم الشرعي- يتطلب استعادة بعض ما قيل واستظهاره، وليس سؤالا يقود إلى التعلم، أو يحفز على ممارسة عمليات علمية.
كما أن سؤال المتعلمين للمعلم في الأغلب يقتصر على استرجاع بعض ما فات، أو طلب رأي أو ترجيح، وقلما يكون نتيجة معالجة المعرفة وتفكيكها والتعامل معها، فضلا عن الاعتراض أو المناقشة
>[3] .
[ ص: 75 ]
وليس نشاط المتعلم قاصرا على مجرد التركيز والإنصات وما يعبر عنه في أدبيات التعليم الشرعي بـ(حسن الاستماع)، فهو مطلوب ومهم، لكنه غير كاف.
إن المطلوب الأهم هو أن يكون المتعلم فاعلا في الموقف التعليمي يعالج المعرفة، ويتعامل معها، ويمارس عمليات عقلية عليا: يستنتج، ويعمم، ويحلل، ويركب، ويقوم، ويبتكر، لا أن يكون سلبيا متلقيا فحسب، وهذا يتطلب مراجعة عناصر الموقف التعليمي؛ من أهداف، وتنظيم للمحتوى، وطرق للتعليم، بما يكفل تحقيق ذلك.
كما يتطلب توسيع الدائرة لمزيد من النشاطات التعليمية داخل الدرس وخارجه تعود المتعلم أن يكون أكثر فاعلية وإيجابية.
والواقع أن كثيرا من المهتمين بالتعليم الشرعي يؤكدون على تعزيز دور المتعلم، لكن هذا الدور كثيرا ما يختزل بأنه أحد عوامل التشويق والجاذبية، وبهذا فهو أمر ثانوي إن تحقق فحسن، وإن فقد لم يخسر المتعلم.
والأمر أوسع من ذلك بكثير؛ فنتائج تعزيز دور المتعلم تتجاوز مجرد التشويق وإذهاب الملل، وهي تؤدي وظائف حيوية من أهمها ما يلي:
- يصبح التعلم أعمق وأكثر نضجا؛ فالمتعلم النشط في الموقف التعليمي أقدر على معالجة ما تعلمه، وتوظيفه في مواقف جديدة، وأقدر على التمكن من المستويات العليا في التعلم، وعلى إنتاج معرفة جديدة.
- تنمية جوانب أخرى في شخصية المتعلم كثقته بنفسه، وقدرته على التفكير، والتواصل.
[ ص: 76 ]
- تخريج العناصر المتميزة القادرة على إنتاج المعرفة، والتفاعل الإيجابي مع الواقع، وتقديم الحلول الشرعية للمشكلات المعاصرة: فقهية، وسياسية، واجتماعية، ونفسية.. إلخ.
أما النموذج السائد في التعليم الشرعي اليوم فهو يجعل المتعلم سلبيا يركز على السماع والحفظ والإنصات فحسب، ثم السؤال عما فاته سماعه أو فهمه.
وحتى تتضح صورة فاعلية المتعلم نقربها بهذا المثال:
معلمان يريدان تدريس موضوع الطيرة والتفاؤل:
- المعلم الأول تمثلت أهدافه فيما يلي:
1- أن يعرف المتعلم الطيرة، لغة واصطلاحا.
2- أن يعرف المتعلم التشاؤم، لغة واصطلاحا.
3- أن يحفظ المتعلم أحاديث الباب.
4- أن يبين المتعلم حكم الطيرة.
5- أن يعرف المتعلم الفأل.
6- أن يذكر المتعلم الفرق بين الفأل والطيرة.
7- أن يذكر المتعلم أربع مسائل مما في الباب.
- أما المعلم الثاني فتمثلت أهدافه فيما يلي:
1- أن يعرف المتعلم الطيرة، لغة واصطلاحا.
2- أن يعرف المتعلم التشاؤم، لغة واصطلاحا.
[ ص: 77 ]
3- أن يحفظ المتعلم أحاديث الباب.
4- أن يستنتج المتعلم حكم الطيرة.
5- أن يقارن المتعلم بين الطيرة والفأل.
6- أن يستنتج المتعلم عوامل انتشار الطيرة.
7- أن يصدر المتعلم حكما على ألفاظ شائعة تتصل بالطيرة.
8- أن يقترح المتعلم خطوات لعلاج مشكلة الطيرة.
9- أن يدافع المتعلم عن رأيه فيما يتصل بالفأل.
10- أن يفند المتعلم الشبهات المتصلة بالفأل.
11- أن يكتب المتعلم قصة قصيرة عن الطيرة.
فالموقف الأول يمثل نموذج المتعلم المقتصر على التلقي فحسب، والموقف الثاني يمثل نموذج المتعلم النشط الذي يمارس عمليات التعلم في الموقف التعليمي؛ فالأهداف الثلاثة الأول في الموقف الثاني في مستوى التذكر والاستظهار، أما بقية الأهداف فهي في مستويات أعلى.
وليس الفارق بين الموقفين مقتصرا على تدوين هذه الأهداف؛ فكثير من مواقف التعليم الشرعي قد لا تتطلب كتابة الأهداف وتحريرها، لكن تصور الأهداف في ذهن المعلم بهذه الطريقة سوف يغير كثيرا في تعليمه؛ فسيقوده ذلك إلى تنظيم الموقف التعليمي بما يجعل المتعلم قادرا على المشاركة الفاعلة في التعلم؛ ليصل إلى تحقيق هذه الأهداف.
[ ص: 78 ]