التعليم في المساجد
ارتبط التعليم الشرعي بالمسجد منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول عمل بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة هو بناء المسجد.
ولم تكن وظيفة المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قاصرة على مجرد أداء الصلوات فيه، بل كان ميدانا للتعليم والتوجيه والتربية.
وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على فضل التعلم والتعليم في المسجـد فقال: ( ومن سلك طريقا يلتمـس فيـه علما، سهـل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) (أخرجه مسلم، 4867).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: ( أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟" فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من [ ص: 104 ] كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ) (أخرجه مسلم، 1336).
وامتدت هذه الوظيفة للمسجد عبر تاريخ الإسلام، فعمرت المساجد في الأمصار والقرى بحلق العلم ومجالسه المتنوعة.
بوب الخطيب في "الفقيه والمتفقه" باب: "فضل تدريس الفقه في المساجـد"، وأورد بإسنـاده عن أبي الأحـوص، قال: "أدركنا الناس وما مجالسهم إلا المساجد" ( 2 / 270 ).
ويؤكد ابن باديس هذا المعنى بقوله: "المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه وسلم يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه، ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة، فلا إسلام بدون تعليم، ولهذه الحاجة مضى النبي صلى الله عليه وسلم على عمارة المسجد بهما، فما انقطع عمره كله عن الصلاة وعن التعليم في مسجده، حتى في مرضه الذي توفي فيه. ثم مضى المسلمون على هذه السنة في أمصار الإسلام يقفون الأوقاف على المساجد للصلاة والتعليم، ومن أظهر ذلك وأشهره اليوم: الجـامع الأزهر، وجامع الزيتونة، وجامع القرويين" (آثار ابن باديس 3 / 325 ). [ ص: 105 ]
وقال أيضا: "الإسـلام دين الله الـذي يجمـع بين السعـادتين، وإنما يسعدهما به من اعتقد عقائده، وتأدب بآدابه، وارتبط بأحكامه في الظاهر والباطن من أعماله، ولا بد لهذا كله من التعليم الديني الذي محله المساجد، وبدونه لا سبيل إلى شيء من هذا كله، فصارت حاجة المسلمين إليه حاجتهم إلى الإسلام، وصار إعراضهم عنه هو إعراض عن الإسلام وهجر له، ما انتهى المسلمون اليوم إلى ما انتهوا إليه إلا بذلك الهجر وذلك الإعراض، ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني فأقاموه في مسـاجدهم كما يقيمون الصلاة، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من إقامتهما بمسجده كما تقدم ... فإذا قصر ذلك المتولي كان على الجماعة أن تقوم به، فإن قصرت لحق الإثم كل فرد منها". (آثار ابن باديس، 3 / 326 ).
ورغم انتشار التعليم النظامي اليوم إلا أنه لا يزال للمسجد دوره المهم في التعليم الشرعي، وينبغي أن يبقى كذلك، بل يطور ويتوسع فيه.
ولا نملك اليوم - في حدود العلم- دراسات علمية تقويمية لواقع التعليم في المساجد، لكن يمكن أن نسجل بعض الملحوظات التي هي في الأغلب انطباعات ومشاهدات شخصية، وهي بحاجة إلى مزيد من التقويم والمناقشة.
لقد ارتبطت بالتعليم في المساجد مشكلات عدة أثرت سلبا على دوره في التعليم، ومنها: [ ص: 106 ]
1- غياب التجانس بين المتعلمين:
المتعلمون في درس المسجد متفاوتون في سنهم، وتحصيلهم الدراسي، ومستواهم العلمي.
في أحد دروسي كان يحضر طلاب في المرحلة الثانوية، وفي الكليات الشرعية، ومعلمون وأساتذة في الجامعة، ومهندسون.. إلخ. فكنت أجد حرجا بالغا في التعامل مع هذه الفئة من الحضور، سواء في اللغة والأسلوب، أو في محتوى ما يقدم، أو في العمق، أو الكيف أو الكم.
والأمر نفسه يتكرر في الدورات المكثفة والبرامج التي تعقد في الإجازات، بل تتسع فيها الفجوة بشكل أوسع.
وربما يدفع ببعض الشباب أو الفتيات حديثي العهد بالاستقامة لمثل هذه الدروس والبرامج؛ فيصيبهم الملل والسآمة، أو يشعرون بقدر من الإحباط؛ نتيجة مقارنة واقعهم بما يرونه.
2- ضعف التخطيط للمناهج:
تتمثل مناهج التعليم في المسجد في الأغلب في أحد كتب التراث المتخصصة في مجال من مجالات العلوم الشرعية.
وهى في الأغلب كتب معتمدة عند أهل التخصص، لكن المشكلة تكمن في أن معظم المتعلمين تدفعهم لحضور هذا الدرس أو ذاك عوامل أخرى: كقرب المكان من مقر إقامتهم، أو مصاحبة بعض زملائهم، أو سمعة الشيخ الملقي للدرس ومكانته. [ ص: 107 ]
وقلما توجد برامج يخطط لها بصورة متكاملة تلبي احتياجات المتعلمين في التخصص.
3- طول مدة الدرس:
يكثر في التعـليم في المسـاجد استمـرار الدرس في موضوع واحد أو كتاب محدد لعدة سنوات؛ نتيجة لقلة الوقت المتاح، الذي يمثل ساعة في الأسبوع في الغالب، ولتوسع الشيخ واستطراده في التفاصيل.
وطول مدة الدرس لها آثار عدة، منها:
- عدم إكمال عدد كبير من المتعلمين للدرس.
- الملل واليأس لدى كثير من المتعلمين، وبالأخص من لا يملكون دافعية عالية.
- ضعـف الترابط في المعرفة والنسيان نتيجة امتداد الدرس على سنوات عديدة.
- الخلل في انتظام كثير من المتعلمين.
وثمة تجارب جيدة بدأت في عدد من المساجد تعنى بالتركيز، وتقدم معالجات لهذه المشكلة، وتشهد إقبالا جيدا من المتعلمين، وهي بحاجة للتوسع والتعميم.
4- ضعف تقويم المتعلمين:
تقتصر الدروس في المساجد في الأغلب على التلقي، وربما يتضمن بعضها قدرا من النقاش والحوار مع المتعلمين، لكنها تفتقد إلى التقويم، الذي [ ص: 108 ] يدفع المتعلم إلى العودة إلى ما تعلمه لمراجعته، ويعطي كلا من المتعلم والشيخ نتيجة عما تم تحقيقه.
ويقتصر التقويـم في الأغلب على انطباعات الملقي أو المتعلمين، وتتمثل أساليبه في عدد الحضور، وأسئلتهم، وإجابة بعضهم ومشاركتهم أثناء الدرس.
وعلى الرغـم مما حققه التعـليم في المساجـد فهو بحاجـة إلى مزيد من التقويم، وحتى يحقق هـذا التقويم أهدافه لا بد أن يتم من خلال أدوات ووسـائل علمية موضـوعية، ولن يكفي في ذلك الاقتصار على الآراء الشخصية، فهي مهما علا شأن أصحابـها لا يمكن أن ترقى إلى منـزلة التقويم العلمي.
ويحتاج التعليم في المساجد إلى تطوير أدوات ووسائل وبدائل عديدة، وإلى مزيد من التأهيل التربوي للمشرفين عليه والقائمين على برامجه، وإلى تخطيط علمي. [ ص: 109 ]
التالي
السابق